منذ نشوء المنظومة الطائفية في الواقع الإسلامي، وتشكيل نواتها وظهور ممارساتها الإقصائية في عصر صدر الإسلام؛ فإنّها لم تكن ذات أهداف دينية أو رؤى عقيدية، بل ظلت تعمل وفق أهداف سلطوية وسياسية، لكنها تحوّلت بمرور الزمن إلى عقائد وفرق ومذاهب، مؤطّرة بألوان طائفية سياسية. هذا وأنّ أغلب هذه الفرق والمذاهب تأسس بناء على الأمر الواقع الطائفي أو الفرز الطائفي القائم أساساً.
وهذا لا يعني أنّ الخلاف بين المسلمين بدأ سياسياً وطائفياً، بل كان هناك تباين في النظرة إلى خلافة رسول الله؛ ففريق الإمام علي كان يعتبرها شأناً عقيدياً ودينياً، بالنظر لوجود نصوص ووصايا من الرسول، وهي نصوص دينية وليست سياسية، كما يعتبرون الخلافة شأناً دينياً وسياسياً غير منفصل في بعديه، أو أنّها الشق السياسي الإداري الدنيوي من الإمامة، بينما كان يرى فريق من الصحابة أنّ الخلافة شأن سياسي ودنيوي، ويرى بأنّ الخلاف حولها خلاف سياسي خاضع لوجهات النظر فيمن يمكنه قيادة الأُمّة ورئاسة الدولة بعد النبيّ، وليس موضوعاً دينياً عقيدياً. وبالتالي؛ فإنّ الخلاف ليس له توصيف موحّد بين المسلمين؛ لأنّ كل فريق ينظر إليه من زاوية مختلفة. وهو ما اضطرهما إلى الدخول تدريجياً في سجالات ومماحكات روائية ثم كلامية ثم فقهية، فضلاً عن الصراعات السياسية، التي بدأت في عهد الخليفة عثمان، وسيطرة آل أُمية على مقدرات الدولة، وهو ما أفضى إلى تأسيس الفرق الكلامية والمدارس الفقهية، والتي عززها الابتعاد عن عصر النص، وعمليات الوضع في الحديث خلال حكم معاوية بن أبي سفيان، واختطاف الدولة الإسلامية، وإقصاء آل البيت، وما رافقه من ممارسات وسلوكيات تتعارض مع بديهيات الشريعة. وهكذا بات الموضوع الطائفي خليطاً من السياسة والسلطة والرواية والعقيدة والتفسير والفقه.
وبقي الواقع الإسلامي محكوماً بهذا الخليط التاريخي، بل يعيشه بكل تفاصيله؛ فما برح المسلمون يعيشون التاريخ، ويتفاعلون مع أحداثه، وكأنّهم جزء منه وهو جزء من حياتهم اليومية. كما ظلت إثارة الموضوع الطائفي وتضخيمه واللعب على تناقضاته، خارج سياقاته التاريخية والموضوعية، محكومة بالظرف السياسي، وبقوة المنظومة الطائفية أو ضعفها، حتى نجد ـ غالباً ـ أنّ وراء هذه الإثارات مؤامرة من قبل المنظومة الطائفية، تستهدف الواقع الإسلامي في الصميم، وتضع نصب عينيها تمزيقه وشرذمته.
وفضلاً عن العامل الداخلي التاريخي المتمظهر في التباين والتضاد والتعارض بين تيارات المسلمين العقيدية ومذاهبهم الفقهية ومجتمعاتهم (الطوائف) وتوجهاتهم الفكرية والسياسية؛ فقد دخل عامل آخر على خط خلافات المسلمين وتشتيتهم، هو العامل الخارجي، والذي كان يتمثل سابقاً في دور اليهود والنصارى في اختراق مدوّنات الحديث والرواية، بينما بات يتمثل منذ ثلاثة قرون تقريباً في التدخل الأُوروبي، الفكري والسياسي والعسكري، والذي ظل يستثمر الخلاف ويصعّده ويجني نتائجه.
ولا شك؛ أنّ العصبية الطائفية مرض قاتل في جسد أُمّة الإسلام؛ لأنّها نزعة سياسية اجتماعية إقصائية، لا علاقة لها بتعاليم الدين والتمسك بها، أو الالتزام الديني المذهبي، فالمتعصب الطائفي ليس بالضرورة أن يكون متديناً أو ملتزماً نظرياً وسلوكياً وعبادياً بتعاليم المذهب، لكنه يتعامل مع موضوع الطائفة تعاملاً اجتماعياً سياسياً، شأنه شأن العنصري؛ فالعنصرية هي أيضاً نزعة اجتماعية سياسية، ومظهرها التعصب للعرق والقومية، وإقصاء أبناء القوميات الأُخر وتهميشهم سياسياً واجتماعياً وثقافياً ومعيشياً. وإذا ما اجتمعت النزعتان الطائفية والعنصرية في جماعة واحدة تعيش داخل أُمّة المسلمين؛ فإنّها ستكون سلاح دمار شامل، وخلية سرطانية فتاكة.
كما أنّ التكتم على جذور الطائفية وأفكارها وأعراضها ومن مارسها ويمارسها، بذريعة عدم إثارة الطائفية؛ هو تكريس للطائفية وتثبيت لدعائمها إلى أمد غير منظور، كالتكتم على وجود المرض في جسد المريض. ولذلك؛ فإنّ دور الطبيب الحاذق يبدأ بدراسة أعراض المرض، كمقدمة لمكافحة الخلايا السرطانية والفايروسات والجراثيم، وهي الدراسة التي ينبغي أن تكون عميقة ولصيقة بالمرض، أمّا ترك الحديث عن المرض، والتغطية عليه، والنظرة السطحية إليه، بحجة عدم تخويف المريض وأُسرته أو كيلا يشمت خصوم المريض؛ فإنّه لن يؤدي إلى معالجة المرض، بل سيقود المريض إلى الموت قطعاً. أي أنّ التكتم على مسارب الطائفية وأفكارها وأعراضها ومن مارسها ويمارسها؛ بذريعة عدم إثارة الطائفية؛ هو الآخر تكريس للطائفية وتثبيت لدعائمها إلى يوم القيامة. وحين يتعمق الطبيب بموضوع المرض ومسبباته، ويتحدث عن أعراضه؛ فإنّه يهدف إلى استئصال المرض، ولا يريد مفاقمة المرض وتحفيز مسبباته.
وهنا يتقمّص الباحث في موضوع الطائفية، دور الطبيب في أساليب اكتشاف المرض في الجسد وتشخيص حجمه، ثم تشخيص العلاج والدواء، ما يعني أنّ الفرق بين الطبيب الذي يقوم بالكشف عن جذور المرض وأسبابه وأعراضه، وبين الفايروس الذي يتسبب في المرض ويقود المريض إلى الموت، هو فرق لا يحتاج إلى استدلال. وبما أنّ الدراسة الموضوعية لمرض الطائفية، بهدف تشخيصها والمساهمة في علاجها، يحتاج إلى مهارة ودرجة عالية من الوعي والتخصص والخبرة والممارسة؛ فإنّ الطبيب الذي يقوم بهذه المهمة، كأنّه يمشي على حد السيف، ويواجه مهمة صعبة جداً. وهنا لا بدّ من التحذير والتشديد على خطورة إثارة الموضوعات الطائفية دون وعي بهذه الخطورة، ودون الإمساك بخيوط الحل والعلاج، وإلّا فإنّ العبث في هذا المضمار ومجرد الإثارة؛ سيؤدي إلى تفاقم أعراض الطائفية.
وبالتالي؛ لا يمكن تجنب المعالجات العلمية الحفرية لواقعنا الوطني والإقليمي والإسلامي وأمراضه؛ بمسوغ استغلالها من السياسيين أو من الخصوم، أو بمسوغ عدم توافر الوعي والخبرة والتخصص؛ لأنّ السياسي والخصم والعدو يستغل أي شيء لتحقيق أهدافه، بل يستغل حتى كلام الله والدين والمذهب. وينبغي الالتفات هنا إلى أنّ لغة الباحث تختلف عن لغة السياسي والدبلوماسي والصحفي؛ فالباحث ليس سياسياً بحاجة إلى إرضاء الآخرين أحياناً، واستفزازهم أُخرى، وليس دبلوماسياً أو مفاوضاً لكي يضطر إلى الحديث بلغة ضبابية عامة، بل إنّ من بديهيات عمل الباحث الموضوعي المتخصص تسمية الأشياء بمسمياتها، ووصف الواقع وتحليله كما هو، دون مواربة وتسطيح واستغفال لنفسه وللآخرين، وصولاً إلى إيجاد مفاتيح الحلول وتفكيك الإشكاليات. كما أنّ من واجب الباحث المنتمي، بصفته العلمية وبحكم انتمائه وهويته؛ عدم العبور على الحقائق، وعدم تجاوز المفاهيم المصطلحات أو تزييفها.
بين إثارة الفتنة الطائفية والمنهج الصحيح لدراستها
إذا كان المنهج الحفري الوصفي التحليلي في قراءة المنظومة الطائفية، وجذورها ومساراتها التاريخية، وحضورها في الواقع الإسلامي، وصولاً إلى استنتاج الباحث لرؤيته؛ يستفز بعض الناس، ويدفعهم إلى توزيع الاتهامات جزافاً؛ فإنّ هذه مشكلتهم وليست مشكلة الباحث. ومقتضى استخدام هذا المنهج؛ الابتعاد عن هذا الخطاب التسطيحي في الوصف والتحليل والاستنتاج والمعالجة، والذي تقوده نظرتان متعارضتان:
إحداهما طوباوية، ترى أنّ المجتمع الإسلامي مجتمع واحد والأُمّة الإسلامية أُمّة متعاضدة متكافلة، ولا توجد خلافات وصراعات بين المسلمين، وأنّ هذه الصراعات صنيعة الكتّاب التي يتحدثون بها.
والنظرة الأُخرى سوداوية، تذهب إلى أنّ المسلمين مجموعة أُمم متعارضة، لا يمكن أن تتعايش وتتقارب، وأنّ الوحدة على أساس المصالح بين المسلمين أمرٌ مستحيل، وأنّ الصراع الطائفي لا بدّ أن يستمر.
وتدفع هذه المنهجية الحفرية أيضاً، بعض من يصف نفسه بـ (المتحرر من المذهبية)، و(العابر على عقد التاريخ)، بتوجيه اللوم للباحث؛ لأنّه يجتر التاريخ ويعيش فيه، ويلوك التراث ويتعبّد به، ويرى ـ في المقابل ـ بأنّ الحل الوحيد لـ (عقدنا النفسية المذهبية) يكمن في تحررنا من لوثات التاريخ والتراث. والحال؛ أنّ التراث ليس موضوعاً للتعبد ولا للتقديس، بل هو الخزين المعرفي لمنظومة المسلمين الفكرية، وهو يختلف عن أُصول الإسلام المقدسة (القرآن والصحيح من السنة)، وهذان الأصلان ليسا تاريخاً ولا تراثاً، بل هما الثابتان المعياريان لكل أنواع الفكر والسلوك، والتحرر منهما يعني الخروج عن الدين وعليه.
وهنا يكمن الفرق الجوهري بين من يمارس النزعة الطائفية ويجتر التاريخ، ويحوِّلهما إلى مظاهر تعصب وتمييز وتهميش وإقصاء، بهدف إثارة الفتنة الطائفية وتعميقها بين شرائح الأُمّة والشعوب المسلمة، وبين من يعتمد العقيدة ويستثمر التاريخ ومساراته، ويكشف عن شكل المنظومة الطائفية ومضمونها، ويتحدث عن خطورتها ورموزها، ويضع الحلول للقضاء عليها؛ فالطائفيون هم الذين يمارسون الدور الأول، أمّا الباحث المنتمي الحريص؛ فهو يمارس دور الطبيب المعالج ورجل الإطفاء. وبما أنّ الأُمّة كائنٌ حي؛ فإنّها حين تتعرض لأية أزمة مرضية أو ظهور أعراض جديدة لمرض مزمن؛ فعليها ألّا تخفيه ولا تعبر على حقيقة وجوده، بل لا بدّ أن تعترف بمرضها، فذلك هو مدخل الشفاء والتعافي؛ إذ سيدفعها ذلك إلى الذهاب إلى الطبيب الاختصاص، الذي سيشخص المرض بدوره ويكتب لها العلاج. وأُمّتنا المسلمة مصابة بأمراض مزمنة، لا بدّ أن نكشف عن أسبابها وأعراضها، حتى وإن كانت الأسباب والأعراض مخجلة وقاسية ومؤلمة، ثم يكون لحكماء الأُمّة كلمة الفصل في طرق العلاج وأساليبها.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى بعض النماذج السرطانية الطائفية، التي ظلت تتبع منهج (رمتني بدائها وانسلت)، كونها تتسبب بشكل أساس في واقعنا المَرَضي الطائفي، وفي الوقت نفسه تتهم من يعترض على طائفيتها بأنّه طائفي يستحق السجن والجلد والقتل والتشريد ومصادرة الأموال؛ فقد كانت الأنظمة الطائفية الاستئصالية، منذ عهد سلاطين الأُمويين وحتى العثمانيين والوهابيين والبعثيين والقوميين، وصولاً إلى الطائفيين من الحركيين الإسلاميين والعلمانيين، تعمل على مسارين متكاملين:
الأول: قمع المختلف المذهبي وتهميشه، ومنعه من الحصول على حقوقه الاجتماعية والمدنية والسياسية والمذهبية، بذريعة الخروج عن مذهب الدولة.
الثاني: منع صوت المختلف المذهبي من الاعتراض على الممارسة الطائفية للسلطة، بذريعة أنه صوت طائفي يعمل على بث الفرقة في المجتمع وزعزعة أمنه الاجتماعي.
والمفارقة هنا تكمن في المسار الثاني؛ فمسوّغ السلطة في اتهام كل من يعترض على ممارساتها الطائفية بأنّه طائفي، إنّما هي تهمة معلبة جاهزة، أو بكلمة أُخرى، سيف تذبح به السلطة الطائفية الاستئصالية كل من يعترض على قمعها الطائفي؛ فإذا أراد الآخر المذهبي ممارسة شعائره الدينية بحرية؛ فهو طائفي، وإذا أراد المطالبة ببعض حقوقه الاجتماعية؛ فهو طائفي، وإذا تحدث بجزء من مظلوميته؛ فهو طائفي. وهذا اللون من القمع المركّب والإقصاء والقتل السياسي والإعلامي الاستفزازي، لا يزال يمارسه الطائفيون بكل أشكالهم، ضد كل من يتحدث عن طائفيتهم، بهدف الإبقاء على الواقع الطائفي المتراكم كما هو، وتسقيط كل من يواجههم ويفضحهم متلبسين بطقوسهم الطائفية. في حين أنّ الالتصاق بالواقع والبيئة والزمان والمكان، واستشعار المخاطر بشكل موضوعي ومعتدل، سيقود تلقائياً إلى معالجة أمراض الواقع، وفي مقدمتها الطائفية؛ لتجنب العيش على أنقاض وتراكمات مَرَضية معدية، والتغطية على هذه النفايات الملوثة. ولعل أكثر من يستطيع معالجة الطائفية، هو من اكتوى بنارها، وأبصر ضوء الحياة وهو يعيشها بكل تفاصيلها وأشكالها ومضامينها. ولذلك؛ فإنّ بغض الطائفية والتمييز الطائفي والتهميش والإقصاء من الذي اكتوى بنارها، ليس مجرد بغض نظري وترف فكري وتشدق بالحقوق والحريات، كما يفعل المترفون فكرياً والمتفرجون والمنفعلون والمصلحيون، بل هو بغض ورفض معجون بالتجربة المريرة، وبالتالي؛ لا يمكن للإنسان العاقل السليم أن يبغض ظاهرة، لكنه يمارسها.
والواقع الإسلامي بأمس الحاجة دائماً إلى حراك شامل مركّز يقوده عقلاء الأُمّة، فضلاً عن جهود فكرية وإعلامية وبحثية مكثفة من شأنها التقريب بين فصائلها ومكوناتها، ولا سيّما الطائفتين السنية والشيعية، بالنظر لأجواء الشحن والتوتر الطائفي التي تميز المشهد الإسلامي، وخاصة بعد التحول السياسي والاجتماعي الذي أعقب تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتداعياته وآثاره في المنطقة الإسلامية، وكذلك سقوط دولة البعث في العراق وتداعياته، ثم تحرر الأُمّة الإسلامية نسبياً من ظاهرة الحصر الطائفي والانغلاق المذهبي. ولعل من أخطر هذه التداعيات تنامي ظاهرة التكفير، والاستخفاف بدماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ومقدساتهم.
خطاب إسلام بلا مذاهب
خطاب (إسلام بلا مذاهب) الذي يتبناه بعض الباحثين المسلمين، ونموذجه الأبرز الباحث المصري الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه «إسلام بلا مذاهب»هو جزء من الخطاب التسطيحي العابر على الواقع؛ لأنّ وجود المذاهب والفرق والطوائف في الأديان والعقائد أمر بديهي ومتجذر في الواقع الإنساني، ولا يمكن تجاوزه وتجنبه وتجاهله، بل لا ينفع أي جهد لمحاربته ومقاومته إطلاقاً؛ إذ تبدأ المذاهب والفرق بالظهور تدريجياً كلما ابتعد أتباع الدين عن زمن التأسيس والتشريع والنبوة، وهي تُمثل ـ عادة ـ قراءات واجتهادات في ثوابت الدين وأُصوله؛ فيما لو كانت أهداف الفقهاء والمتكلمين المؤسسين دينية وأدواتهم علمية، وفي النتيجة؛ يرى كل صاحب مذهب أنّه على الحق. وهذه سنة الله والتاريخ في الخلق. وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ قاعدة الاجتهاد والقراءة العلمية الدينية تستثني أصحاب الأهداف الدنيوية السلطوية، الذين عملوا على تأسيس منظومات عقيدية مبتدعة في الدين، تتعارض مع الدين نفسه؛ خدمة لأهدافهم السلطوية، ونماذجهم: السامري في اليهودية، و"قسطنطين الأول" في المسيحية، ومعاوية في الإسلام.
ولا يختص ظهور المذاهب والفرق بالإسلام والديانات السماوية؛ بل يشمل الفكر البشري الأرضي أيضاً، فكل مذهب فكري وضعي هو عرضة ليتحول تدريجياً إلى مذاهب وطرائق، كلما ابتعد أتباعه عن زمن المؤسس والتأسيس، وربما تكون العقيدة الشيوعية ومذاهبها التي تمثل قراءات واجتهادات في فكر "ماركس"؛ دليل واضح على هذه الحقيقة.
وبالتالي؛ فإنّ الحديث عن إلغاء المذاهب والطوائف أو توحيدها أو الرجوع إلى أُصول الإسلام دون مذاهب؛ إنّما هو حديث طوباوي. وحتى من يريد، بحسن نية، العودة إلى الأُصول مباشرة، دون المرور بالمذاهب؛ فستكون له، إلزاماً، قراءته الخاصة واجتهاده المستقل، وسيتحول بمرور الزمن إلى مذهب جديد، ثم إلى طائفة جديدة.
ومن البديهي أيضاً أنّ المذاهب الكلامية والفقهية؛ تفرز بمرور الزمان مجتمعات إنسانية خاصة بكل مذهب، وهذه المجتمعات تسمى الطوائف الدينية، وهي تمثل هويات اجتماعية دينية ضاغطة ومائزة، وهو أهم الظواهر التي يدرسها علم الاجتماع الديني. ولا يشترط في الانتماء لهذه المجتمعات أو الطوائف أن يكون الفرد فيها متديناً أو ملتزماً بالفرائض والطقوس، لكنه ينتمي انتماءً اجتماعياً للمذهب وليس انتماءً فرائضياً؛ بل وحتى ليس عقيدياً أحياناً. وهذا هو المانع الكبير الآخر أمام إلغاء المذاهب وتوحيدها وتجاوز حقيقتها.
الاختلاف المذهبي والصراع الطائفي
الخلاف الطائفي المغلف بالدين والمذهب، هو تدافع وتزاحم اجتماعي سياسي إنساني بين أتباع المذاهب، وليس بين المذاهب أنفسها، وهو يرتبط بالمصالح والمغانم والعصبية الاجتماعية السياسية، وليس بالاختلاف في قراءة الدين ومصادره. وليس بالضرورة أن يكون الأتباع المتصارعون طائفياً، ملتزمين دينياً ومذهبياً، أو أنّ تطبيق عقيدة المذهب وفقهه وأخلاقه في أنفسهم وفي المجتمع، يعنيهم بشيء. أمّا الخلاف المذهبي فهو خلاف عقيدي فقهي تاريخي، أي خلاف في قراءة الدين والتاريخ ومصادرهما، وعادة ما يكون المختلفون هنا فقهاء وعلماء أو باحثين عقيديين متفقهين ملتزمين نسبياً بتعاليم المذهب؛ ما يعني أنّ الخلاف المذهبي (العقيدي الفقهي) هو خلاف طبيعي وغير مذموم، وأنّ الحديث فيه لا يمتُّ إلى الطائفية بصلة، إذا لم يتجاوز ضوابط الخلاف العلمي والفكري وآداب الحديث والحوار.
ولذلك؛ فإنّ مشكلة المسلمين الأساسية تكمن في صراع المصالح الطائفية الاجتماعية السياسية، وليس في الخلاف المذهبي، وليس في الانتماء الطائفي؛ لأنّ الخلاف المذهبي يخلق تعددية عقيدية وفقهية طبيعية في الآراء، وإن شابها بعض التعصب والتزمت والتطرف، وأن الانتماء الطائفي يخلق تعددية اجتماعية دينية طبيعية أيضاً، بينما يفرز خلاف المصالح الطائفية السياسية، وخاصة الذي تمارسه الأنظمة والجماعات المتطرفة طائفياً؛ أبشع ألوان الإقصاء والتهميش والتمييز على أساس الهوية.
والمفارقة أنّ الغالبية الساحقة من الأنظمة والجماعات الطائفية في البلدان العربية والمسلمة، هي أنظمة وجماعات علمانية، ولا يعني لها الدين ولا تطبيق أحكامه، بل إنّ الغالبية الساحقة من حكام وقادة هذه الأنظمة والجماعات لا يعرفون حتى اتجاه قبلة الصلاة، وهم يرتكبون كل أنواع المحرمات والموبقات، ولكن في الوقت نفسه؛ يهمهم جداً أن يظهروا بمظهر حماة المذهب السائد، أمّا تعصباً أو للحصول على مكاسب اجتماعية سياسية، أو الاحتماء بالحاضنة المذهبية الاجتماعية.
وقد خلق صراع المصالح الطائفية، هويات طائفية سياسية اجتماعية انعزالية في مضمونها، ومذهبية تاريخية في شكلها، تبعاً للمسارات التاريخية التراكمية المتعارضة واختلاف السلوكيات الاجتماعية السياسية، والتي تستثمر الخلافات العقيدية الفقهية؛ لتضفي على تعارضاتها شرعية دينية متعالية. والحقيقة؛ أنّ الانتماء المذهبي والطائفي، وكل ما ينتج عنه من هويات دينية مذهبية وطائفية اجتماعية، هو انتماء طبيعي لا مشكلة فيه، وأنّ الحديث عن التباينات الدينية المذهبية والطائفية الاجتماعية، هو حديث طبيعي لا مشكلة فيه أيضاً، بينما تكمن المشكلة في تحول هذه الانتماء والحديث إلى صراع طائفي سياسي اجتماعي دعائي، وإلى حرب مكاسب طائفية على حساب الطوائف الأُخر، بهدف إقصائها وتهميشها والعدوان عليها، وهو ما كان يحدث في العراق قبل العام 2003، ولا يزال يحدث في أغلب البلدان العربية والمسلمة.
نخلص من كل ذلك؛ بأنّ الخلاف الطائفي المغلف بالدين والمذهب، هو تدافع وتزاحم اجتماعي سياسي إنساني بين أتباع المذاهب، وليس بين المذاهب أنفسها، وهو يرتبط بالمصالح والمغانم والعصبية الاجتماعية السياسية، وليس بالاختلاف في قراءة الدين ومصادره. وليس بالضرورة أن يكون الأتباع المتصارعون طائفياً، ملتزمين دينياً ومذهبياً، أو أنّ تطبيق عقيدة المذهب وفقهه وأخلاقه في أنفسهم وفي المجتمع، يعنيهم بشيء.
أمّا الخلاف المذهبي فهو خلاف عقدي فقهي، كأيّ خلاف في قراءة الدين ومصادره، وعادة ما يكون المختلفون هنا فقهاء وعلماء أو عقديين متفقهين ملتزمين نسبياً بتعاليم المذهب؛ ما يعني إن الخلاف المذهبي (العقدي الفقهي) هو خلاف طبيعي وغير مذموم، إذا لم يتجاوز ضوابط الخلاف العلمي والفكري وآدابه؛ فالطائفة السنية نفسها ثمة اختلافات فقهية وعقيدية واسعة فيما بين مذاهبها.
ولذلك؛ فإنّ مشكلة المسلمين الأساسية تكمن في الخلاف الطائفي الاجتماعي السياسي، وليس الخلاف المذهبي؛ لأنّ الخلاف المذهبي يخلق تعددية عقيدية وفقهية في الآراء، وإن شابها بعض التعصب والتزمت والتطرف، بينما يفرز الخلاف الطائفي السياسي، ولا سيّما الذي تمارسه الأنظمة والجماعات الطائفية؛ أبشع ألوان الإقصاء والتهميش والتمييز على أساس الهوية، رغم أنّ الغالبية الساحقة من هذه الأنظمة هي علمانية، ولا يعني لها الدين وتطبيق أحكامه شيئاً، بل إنّ الغالبية الساحقة من حكام هذه الأنظمة لا يعرفون حتى اتجاه قبلة الصلاة ويرتكبون كل أنواع المحرمات والموبقات، ولكن في الوقت نفسه يعني لهم أن يظهروا بمظهر حماة المذهب، أمّا تعصباً أو للحصول على مكاسب اجتماعية سياسية، أو الاحتماء بالحاضنة المذهبية الاجتماعية.
وقد خلق الانقسام الطائفي الشيعي ـ السني هويات طائفية في مضمونها ومذهبية في شكلها، تبعاً للمسارات التاريخية التراكمية المتعارضة واختلاف السلوكيات الاجتماعية السياسية، والتي تستثمر الخلافات العقيدية الفقهية، لتضفي على تعارضاتها شرعية دينية متعالية.
الشيعة: إشكالية معرفية لدى النخب السنية
من العوامل المهمة التي تفاقم الفرقة والخلاف بين أتباع مذاهب المسلمين هو جهلهم بالتفاصيل العقيدية والفقهية والتاريخية المثيرة للجدل للآخر المذهبي، وعدم الاطلاع عليها من مصادرها الأصلية، رغم إدراك الجميع حقيقة أنّ ((الإنسان عدو لما يجهل)). ولكي لا نعمم ونبتعد عن الإنصاف؛ فإنّ النخب الشيعية، بل عموم متعلميهم، لا يفرقون في مطالعاتهم بين كتاب مؤلفه شيعياً كان أو سنياً، لذلك نجدهم مطلعون بعمق على معتقدات وأفكار وآراء الفقهاء والمتكلمين والمفكرين السنة. كما أنّ كثيراً من النخب الشيعية؛ يعد فكر الشخصيات الإسلامية السنية فكراً إسلامياً عاماً وثقافة إسلامية مشتركة، وليس فكراً مذهبياً أو طائفياً. ولكن؛ في المقابل تحجب أغلب النخب السنية عن أعينها الفكر الإسلامي الذي ينتجه المفكرون والعلماء الشيعة، ويعدّونه فكراً مذهبياً، وظلت هذه الحالة مثار سؤال دائم، فلماذا لا يطّلع أهل السنة ومتعلموهم على معتقدات الشيعة وفقههم ورؤاهم الفكرية من كتبهم وليس من كتب أهل السنة أو من كتب خصومهم؟ ولماذا لا تقرأ النخب السنية للمفكرين الإسلاميين الشيعة؟
وكنت شخصياً أكرر هذا السؤال على أصدقائي من الباحثين والمفكرين والأكاديميين الإسلاميين السنة في كثير من البلدان العربية والإسلامية؛ ففي العام 1996، زرت الدكتور عبد الرحيم علي في بيته بالخرطوم، وكان يعدّ حينها الرجل الثاني في الحركة الإسلامية السودانية بعد الدكتور حسن الترابي، فضلاً عن منصبة الأكاديمي رئيساً للجامعة الإفريقية العالمية. اتجهت إلى مكتبته أُطالع عناوين الكتب؛ فلفت نظري أنّ مكتبته التي تحتوي على أكثر من خمسة آلاف عنوان كتاب، ليس فيها مؤلفات لمفكرين وعلماء دين شيعة، عدا عن خمسة كتب فقط حسبما أتذكر، أحدها للسيد محمد باقر الصدر واثنين للشيخ مرتضى المطهري والرابع للإمام الخميني وآخرها للدكتور علي شريعتي، فسألته عن سبب عدم وجود كتب إسلامية شيعية في مكتبته؛ فقال: ((يا أخي الشيعة لا يرسلون لنا كتبهم))؛ فقلت له: ((وهل هذه الآلاف من الكتب لديك هي إهداءات وكتب مرسلة من مؤلفيها !؟)).
كما أثرتُ هذا الموضوع في الندوة الخاصة التي عقدت في القاهرة في العام 2000 بحضور ست عشرة شخصية من علماء ومثقفي الشيعة والسنة، بينهم شيخ الأزهر المرحوم الدكتور الطنطاوي ومفتي مصر الدكتور فريد نصر واصل ووزير الأوقاف المصري وأمين المجلس الإسلامي الأعلى المصري الدكتور حمدي زقزوق وغيرهم. في تلك الندوة تحدثت عن ضرورة أن تطّلع النخب السنية على المذهب الشيعي وعقائده وفقهه وفكره من كتبه التي يجمع عليها رجال المذهب، وكذا التعرف على نتاجات الفقهاء والمفكرين والباحثين الشيعة؛ لأنّه المدخل العلمي للتعارف الحقيقي، الذي يحول دون الجهل بحقائق الآخر وما يتبعه من ممارسات التجهيل لعامة الناس، وبالتالي؛ الإصرار على بقاء قواعد الفرز الطائفي والفتنة المذهبية. (أُنظر: وقائع الندوة في ملاحق كتابي الجديد «المنظومة الطائفية»).
فمن المدهش والغريب، والعالم يعيش عصر المعلوماتية وسهولة اقتناء أيّ كتاب، وبحث أيّ معلومة خلال ثوان، أن تكون معلومات أغلب السنة عن الشيعة هي معلومات مأخوذة من مؤرخين وصحافيين وباحثين خصوم!
والمشكلة أنّ ممارسات التجهيل لعامة الناس يقوم بها بعض من يُعدُّ من أهل العلم والفكر والثقافة؛ وإلّا كيف نفسر إصرار كثير من هؤلاء على أنّ الشيعة مجوس، وأنّهم مذهب يهودي وطائفة ماسونية، وأنّ مؤسسهم هو الشخصية الأُسطورية عبد الله بن سبأ وغيرها من التخاريف؟! بل ويبذلون جهوداً مضنية لإثبات ذلك، مستندين إلى كتب المشايخ السلف من خصوم الشيعة، وبالتالي؛ يحكمون على الشيعة بالكفر والشرك والزندقة عقائدياً، والخيانة والعمالة سياسياً؛ وبأنّهم مهدورو الدم عملياً. ويعود ذلك ـ كما ذكرنا ـ إلى ظاهرة عدم الوعي المتعمد وغير المتعمد لدى مفكري السنة وعلمائهم ومثقفيهم وكتّابهم؛ بعقائد الشيعة وفقههم وفكرهم ومساراتهم التاريخية؛ الأمر الذي يؤدي قسراً إلى تفسيرات طائفية عدائية لدى هؤلاء في كل تحرك أو حدث يكون طرفه شيعي.
|