اذا آفتقد أحد ما الإلمام بذاته والإحاطة بتاريخه وماضيه فإنه من السهولة أن يقع فريسة لِلإنبهار بالآخر وقبوله ، بل التسليم له تسليما مطلقا ، بلا حد ولاحدود ، بلا قيد ولا شروط ، لأنه لم يعد لديه أسباب المقاومة العلمية وعوامل الدفاع المعرفية والثقافية ، أو لإِفتقاده لها تحت ضغوط التقليد والإنبهارية والمغلوبية التي حصلت له ، فالمغلوب [ مولع أبدا بالإقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده ] ، كما قال آبن خلدون في كتابه ( المقدمة ) ص 176 . وهذا الاقتداء هو التقليد الذي لم ينبني على التساؤل والتحقيق والتمحيص والاستقلال الذاتي في المتابعة ، وفي الإستقراء والاستنباط ! .
في هكذا أحوال فإنه أول ما يفعله هو التطوّع بولع في جلد الذات جلدا موجعا وداميا . وذلك عبر مقامع الآخر الإفترائية وسياطه التشويهية ، وهو بعد كل هذا يتوهم انه يحسن صنعا ، ومن ثم يخدع نفسه بأنه قد بلغ مدارج الرقي والمدنية والحضارة والتقدم ! .
عليه اذا آفتقد الانسان مَلَكَةِ النقد والفحص والتحقيق والتساؤل وآختلّت لديه الموازين العلمية والمعرفية ، فإنه سيبقى معتاشا بتقليدية على ما يقدمه له الآخر من زاد وعطاء مدسوس . وهذا الآخر – بطبيعة الحال – ليس ذاك الآخر من بني جنسه وثقافته وحضارته الذي نقد ونقّد ومحّص وحقّق فمزّق خلال معاييره العلمية والمعرفية الصحيحة حجب الظلام والجهل والحقد والتشويه المتعمد ! .
فالكثير من الآخر سواء كانوا سياسيين ، أو مستشرقين ، أو رهبانا ولاهوتيين كما المصطلح عندهم لم يكونوا – للأسف – أمناء ولا محايدون ولا مهنيون موضوعيين في تقييماتهم وبحوثهم ودراساتهم الاستشراقية عن الشرق ، وعن أجناسه وأعراقه وشعوبه ، وعن تواريخه وحضاراته وثقافاته وأديانه . على هذا الأساس يتساءل الدكتور إدوارد سعيد فيقول ؛ [ كيف يستطيع المرء أن يدرس ثقافات وشعوبا أخرى من منظور تحرري ، أو لا تلاعبي ، أو لا قمعي . لكن على الانسان في هذه الحالة أن يعيد التفكير في مشكلة المعرفة والقوة المعقدة المتشابكة بأكملها . وتلك جميعا مهمات تُرِكَتْ ناقصة الى درجة الإحراج في هذه الدراسة ] . ينظر كتاب ( الإستشراق / المعرفة ، السلطة ، الإنشاء ) لمؤلفه الدكتور إدوارد سعيد ، ترجمة ؛ كمال أبو ديب ، الطبعة العربية الرابعة لعام 1995 ، مؤسسة الأبحاث العربية ، بيروت / لبنان ، ص 57
المستشرقون عموما ليسوا على صعيد واحد من الفكر والتفكير ، ولا على صعيد واحد أيضا من التحقيق والنقد والتقييم عن الشرق وما يحويه ، بل من الممكن تصنيفهم الى ثلاثة أصناف – أقلا - كالتالي ؛
1-/ مستشرقون متشددون متطرفون .
2-/ مستشرقون أقل تشددا وتطرفا .
3-/ مستشرقون معتدلون سلكوا نهج الاعتدال والمهنية والموضوعية في مجال إستشراقياتهم عن الشرق .
يبدو ان الأستاذ جمشيد ابراهيم لم يحذو حذو الصنف الاستشراقي الثاني على الأقل فحسب ، بل إنه إنبهر بالصنف الأول منهم فراح يقلدهم ويستلهم منهم الإستزادة والتزود والاستنارة . وفي هذا الشأن لايخفى على الملم بأحوال المستشرقين من الصنف الأول وآراءهم غير البريئة ومطامعهم وأهدافهم وغاياتهم الستراتيجية السلبية عن الشرق ، مع أن الصواب كان عليه أن يستفيد من الصنف الثالث الذي نهج المنهجية الموضوعية والمحايدة في إستشراقياته ! .
يبدأ السيد جمشيد ابراهيم في الحلقة الأولى من مقالته ذات العنوان السيء والسلبي والخاطيء في ذات الوقت ، وهو ؛ ( هل كان محمد يتاجر بالخمر ؟ ) ، فيقول ؛ [ أحيانا يكفي الشعر الأسود وبعض الملامح الشرقية للأوربي ليصدر حكم بأن حاملها مسلم متدين يضرب زوجته ويمارس الطقوس الاسلامية بإنتظام لايشرب الخمر ولا يأكل لحم الخنزير ] . ينظر المقالة المذكورة لكاتبها جمشيد ابراهيم . المصدر ؛ موقع صوت كوردستان .
هذه البداية للكاتب عن حُكْمِ الأوربي – أحيانا – على أصحاب الشعر الأسود و( بعض الملامح الشرقية ) ، هي بداية غير بريئة ، وغير منطقية سواء كانت له ، أو للأوربي لكي يصدر حُكْمَهُ التعميمي الخاطيء بلا شك ، لأن الكثير من الشرقيين ، ومن أصحاب الشعر الأسود ليسوا بمسلمين . ثم إن هذا الحكم السريع والعجول للأوربي يحمل في طياته خلفية سلبية وتراكمية نمطية متوارثة عن الإستشراقيين حيال الشرق !
بعدها ينطلق الكاتب الى موضوعة ( الكرم ) و ( العنب ) مستشهدا بالأغاني حول ما قيل وما غني عنهما ، ليصل الى نقطة مفادها إن ( موطن العنب والخمر ) ( لم يكن الجزيرة العربية بحكم طبيعتها الصحراوية ) ، مع حديثه عن مناطق أخرى في المنطقة كانت معروفة بصناعة الخمر ، فيقول بعد هذه التمهيدات المفرداتية للألفاظ كي يبلغ الى هدفه المنشود ، ليكتب ؛ [ لربما كان محمد يتاجر بالخمر ] ، ثم يتساءل ؛ [ لماذا إذن منع محمد شرب الخمر < وهو تاجر الخمر > وأكل لحم الخنزيز ] . ينظر نفس المقالة والكاتب والمصدر .
هنا السيد جمشيد ابراهيم يتناقض مع نفسه ، ومع ما كتبه ، إذ إنه بداية قال مشككا ( لربما كان محمد يتاجر بالخمر ) ، وبعدها مباشرة وعقب تساؤله ينسف تشكيكه وجملته القبلية نسفا ليكتب بيقين ؛ < وهو تاجر الخمر > بدون أن يبرهن على صحة تشكيكه الأول بالشواهد والأدلة من المصادر الموثوقة والمعتمدة ، فضلا عن إثبات جملته التناقضية الثانية ، لكن - كما يبدو - إنه لايهمه الإثبات والإستدلال والتحقيق الموضوعي الجاد بقدر ما يهمه التشويه وإلقاء الشبهات وزراعة الألغام في الطريق العام . وهذا بداهة يتنافى مع العرف والنقد الرصين والتحقيق الأمين في سِيَرِ وتاريخ الشخصيات ! .
أما الخطأ الأبرز الآخر الذي وقع فيه الكاتب هو توهمه بأن رسول الله محمد عليه وآله الصلاة والسلام هو الذي حرّم ومنع الخمر . حتى في هذا لم يُقَدّم لنا قرينة واحدة لصدق وصحة مُدّعاه . إن الحقيقة هي إن منع الخمر وتحريمها لم يكن من النبي عليه السلام قطعا ، بل كان من الله سبحانه وتعالى كما جاء في محكم التنزيل الكريم ، وكما صرّح بذلك رسول الله محمد – ص – في الكثير من أحاديثه الصحيحة المتفق عليها . إذن ، فإن التحريم والمنع والتحليل والتجويز في القضايا الأساسية لم يكن بيد رسول الله محمد عليه وآله الصلاة والسلام ، بل كان أمرا ربانيا ! .
إن المتفق عليه في المصادر التاريخية كلها أن رسول الله محمدا – ص – لم يكن تاجرا ، أو رجل أعمال وتجارة على الاطلاق ، حتى إنه لم يكن ثريا ليتمكن بالتجارة وأعمال البيع والشراء داخل مكة وخارجها إذن ، من أين جاء الكاتب المذكور بالقول الذي ذكره مرسلا ، ومن أيّ مصدر جاء به ، ولماذا لم يذكره ، ثم لماذا تَقَوَّلَ بهذا القول الفاقد لجميع الاعتبارات التوثيقية على المستوى التاريخي والمصدري !؟
|