• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : قرابين بوذا الأخير .
                          • الكاتب : ا . د . ناصر الاسدي .

قرابين بوذا الأخير

 قفز ثم ترك قدميه في فضاء الكوخ تتأرجحان .. الذاكرة تستفحل الأبجدية الحائرة  يلمح الظل مساره في دكنة الشجر المتعارش.القمر كان غائبا والغيمة رماد يعانق انزياح الضوء الذهبي و مازال اللون الفضي على الغيمة كما الماء المتجمد .الباب موارب .. يهرب ضوء باهت إلى الخارج خلسة  تتبعه قطية إلى حيث كان.. في ذلك الخارج نباح متقطع لكلب أو كلبين .
الشعر الذهبي يسرج نسيجه للريح كما الكحل يملأ الاهاب .. تنسلخ من بواباتها المدن الغائرة في صمت فتاة في الثلاثين لم تتعرق اكفها بعد .. اليافطة ذات الرقم احد عشر تحدد ملامح الشقة في الطابق الثالث وثمة صمت مشوب بالخوف ..تسمع دقات قلبها المتلاحقة حد اللهاث دم دم دم  ..أشارت بأصبعها صوب الباب الساجي اللامع وصوب الرقم أحد عشر على اليافطة الصغيرة المنحوتة فوق نسيج الخشب ..أناملها راعشة وهي في حساب الدقائق المكانية تلامس الرقم كما لو أنها تمسح غبارا لايرى أو بصمة تركت قبل قليل .. ضحك زر الجرس معلنا بضوئه الأحمر سريان الاستجابة لديه .
كان فضاء الشقة مستباحا تصفعه رائحة البخور التي تتشظى من خلل الباب الموارب لينسل في فضاء الرواق الطويل الذي تتوزع عليه الأبواب بانتظام ..لمعان أرقام الغرفات الملصقة على الأبواب يلفت النظر.. تحرك الرقم إلى أعلى بحركة نصف دائرة وكأنه يكشف عن سر كمون ثقب سحري في الباب .. شخصت عين من وراء الدائرة السحرية ثم تحرك المزلاج ليعلن عن فتح باب الغرفة اللامع بفعل سطوع الضوء عليه من باجورة أعلى الباب تشع كالشمس .تتحرك مرئيات الشقة مثيرة العجب فكل شيء فيها أزرق , الستائر زرقاء الأغطية زرقاء التحف مضاءة بالأزرق ماعدا الحائط المتخفي وراء ستارة كبيرة تخفيه بإحكام .
مد يده إليها جارا إليها صوب المنزع القريب . توارت خلف الستارة وكانت أول القطع المنثالة فوق عارضة المنزع هي الشال الأزرق ثم الرداء  ثم القميص الشفيف ثم ....... ولكن قطعة أخيرة استقرت على الجسد اللدن الأبيض كالجذام خرجت بها وهي تحجب عاري ثدييها  بباطن راحتيها مطرقة كما لو أنها ستقدم قربانا للألهة الجديدة .
في غرفة المحراب تنتظم أيقونات كثيرة مليئة بالشمع والبخور وثمة صور معلقة لأنصاف وجوه عليها دلائل رحيل قديم وصور نساء يبدو أنهن مررن بذات الطقوس في هذا المحراب .
أشار الرجل المتشح بالسواد  إلى جهة الحائط المغطى بالستارة الزرقاء .. أزاحها عن مكانها . تكشف المغزى من موراته حيث تبدت رسوم
غامضة لأجساد عارية ومقطعة  وخطوط حمراء على ظهور تلك الأجساد . وكأن المكان مخصص لإعداد شفرات من نوع خاص ومريب غاية في الخطورة والإتقان ..
على الأريكة كانت الفتاة تمدد جسدها العاري إلا من غلالة حمراء ارتمت على وجهها تاركة ظهرها تحت أنامل الرجل الخشنة بلا رحمة .. تمتم الرجل بكلمات هزت الفتاة رأسها محاولة سبر أغوار معانيها ثم غطت بنوم عميق .. ترك الرجل علاماته على جسد الفتاة دونما أن تشعر .. الرجل يرنو صوب قارورة من العطر تعلو المنضدة المزججة .. عفر شعر الفتاة بالعطر ثم غمر باقي الجسد العاري برذاذ العطر الذي راح يفوح كما لو انه نابع من جسدها الملائكي المسجى .. تستيقظ  الفتاة بعد برهة من الزمن الثقيل .. تهرع إلى منزع الثياب لترتدي ملابسها . تتمايل من شدة النعاس . دقائق مرت كان الرجل يناول الفتاة الخائفة كوبا من القهوة الساخنة لإعادة وعيها .
- خذي القهوة ستعيد إليك الوعي.
- أين أنا ؟ .
- أنت في اللامكان .
- هل ؟ .
- أجل.
- عليك الذهاب إلى هناك .
- أنا خائفة .
ترقرقت دمعة ساخنة من عينيها  ثم شهقت وهي تلملم الغطاء على بقايا الجسد العاري مزمعة الانطلاق نحو الكوخ القابع في ظلمة الغابة المجاورة .
..................................
الساعة الثانية بعد منتصف الليل ولاشيء من حراك الأنام إلا الظلمة المتناهية ونقيق ضفادع هناك تنق وثمة الصفير لريح باردة تأز على أغصان الأشجار المتشابكة كالموت .. تلفعت بمعطفها وصوب الغابة المجاورة كانت تحث الخطى إلى الكوخ.. كان الرجل الأخر يراقب  المكان والريح تعلن مخاوف حراك قريب . كانت تسمع دقات قلبها الفرق .فتاة يافعة يكاد الخوف يقضي على أنفاسها وبحركة هستيرية ارتطم الباب الصفيح بأناملها النحيفة .. تنفرج بوابة الصفيح عن ممر صغير.. يهرب ضوء مصباح زيتي هزيل إلى الخارجة من فتحة الباب الموارب ليفضح المكان الذي كانت فيه قطية تموء مرحبة بالقادم المشتعل بارتعاش الطقس المثلج .. دست جسدها في فجوة الباب الموارب لتغوص في فضاء الكوخ الصغير.
يتداعى الجسد المنهوك بالخوف والبرد .. تتهاوى على الأريكة المبثوثة في ركن الكوخ . كان الرجل يحيطها بعناية فائقة . ألقى عليها دثاره .. أعلنت عن خوفها .
-أنا خائفة.
- لا عليك أنا معك .
- بل هم يريدون الكثير .
- ستنقضي المهمة بسلام
- لا إنهم خطرون .
طبع قبلة ساخنة على شفتي الفتاة الغائبة بطعم الموت . لوت ذراعيها لتحتضن الجسد المحيط بها ثم غابت عن الوعي في ظل منعطف جديد لاتعرف كنه مستقبله .
.........
في الطريق إلى الغابة كان لابد من المرور عبر النفق الأرضي وكان لابد من توصيل الشفرة التي على ظهرها إلى جماعة المعبد وعلى الفور توجهت صوب النفق .. أحست بحرارة النفق .. وان سيلا من الدماء قد تدفق من ظهرها ..أماطت المعطف عن كتفيها ثم أماطت القميص الملتصق ثم رنت صوب الجدار الكونكريتي الأملس ..أدارت ظهرها العاري صوب الجدار ثم طبعته عليه .. كانت خطاطات ظهرها تمارس انطباعا منفردا كما لو أنها عزف من عالم آخر  . أحست ببرودة الجدار وراحت ترتجف . تمتمت بكلمات وكأنها تزيح عن جسدها قربانا إلزاميا . أحست أن الدم المنسكب من على ظهرها راح يشكل خارطة لعالم جديد تحسست آثار  الخارطة على الجدار انزاح بعض دمها على أناملها وبحركة يائسة فركت أصبعها على الجدار لتكتب حرفين متقابلين س- ك على مقربة من الشكل المرسوم بدقة  . ثم تناهت إليها أصوات من نهاية النفق . لمعت نقطة ضوء باهتة نهاية النفق الطويل تتلاشى ببطء . واجتياز النفق بمسافته القادمة  أمر صعب  كونه قد تحول إلى مسرب مائي يتعمق شيئا فشيئا .. بدا عليها الخوف ثم أدارت زر مصباح يدوي فضح ضوءه ظلمة المكان  ثم وجهت ضوءه الثاقب صوب انطباع ظهرها الدامي .. رأت عجبا . حملقت في الجدار كانت الخرائط المنطبعة تشكل رموزا غامضة ودلالات موحية. تململت بشدة وأدركت أنها هالكة لامحالة لامت نفسها لأنها عملت مرغمة كوسيط لنقل عينات خطيرة ما كانت تعي ملابسات قضيتها رغم أنها لم تك راضية بانجاز ذلك لولا إلحاح الرجل الذي أحبته بجنون والتي كانت تقول له .
-لولا حبك لم أغامرهكذا , ماكان علي أن أطيعك في أمر لاأعرفه .
- إنه من أجل ....
- مهما يكن فإنها النهاية .
- لاتقولي ذلك . 
- نحن متورطان .
عالم بوهيمي قابع في ظل تناقضات وطقوس وعبادات لآلهة جديدة لاتصحو من تقلباتها من ورائها أشخاص مجهولون يمارسون طقوسا في الظلام .. تركت عبير عطرها في المكان بل إن آثار خطوط ظهرها كانت تفوح عطرا  حتى غدا فضاء النفق منثالا بدوائر العطر تدلل على حركة صاحبتها  الذاهبة إلى المجهول .
..................................
تجاوزت المسرب المائي في النفق المتضائق متكئة على امتداد الجدار وحين لفحتها الريح الباردة أدركت أن النفق يلفظ أنفاسه الأخيرة  وان حركة أقدام تترى في الجوار وصفير وإشارات ضوء احمر تنبعث من أركان الغابة المظلمة وصفير الريح ونقيق الضفادع  يغمر المكان .. فكرت مليا في لحظة سنحت بالفرار لعلها تنهي قلقا مدمرا لنهاية محتمة . أحكمت أزرار معطفها ثم ربطت الحزام المتدلي ثم تنقبت بشال لها علها تخنق خوفا راح يتمرد بداخلها
قالت :
-سأحاول الفرار, فدروب الغابة كثيرة ولعل واحدا منها يهيأ لي طريق النجاة . مالي ومال هؤلاء الرعاع علي أن أعود إلى  أهلي .
تحت جنح الليل الذي تتخذه الفتاة جملا للهروب ومن زاوية متخفية تفلح الفتاة بالهرب راكضة صوب الكوخ الذي جاءت منه لعلها تدرك الرجل الذي ينتظر .. تمتد يدها إلى باب الكوخ . ينفرج الباب كان الرجل بانتظارها . ألقت بنفسها بين ذراعيه .. أدركني إنهم يجرون ورائي لقد فررت منهم .
-لاعليك سأغير ملامحك .
- كيف ؟
- إنهم يتبعون رائحة عطرك ألا تعلمين أنهم عفروا شعرك وجسدك بعطرهم الخاص وكان سهلا عليهم تتبع العطر لذا سأقوم بامحاء الأثر أينما كان .. عليك الاغتسال فورا وان تبدلي ثيابك هذه ثم هرع إلى خزانة الثياب ليخرج منها ثيابا له أمرها بارتدائها ثم راح يرش قليلا من النفط على شعر الفتاة للتمويه على بقايا العطر الفائح من شعرها ثم قال : علينا ألان أن نخفي الأدلة قالت : كيف . قال : علينا إحراق الكوخ .
عقصت الفتاة ضفيرتها  ثم طوت الشال عليها واعتمرت بقبعة الرجل حتى بدت وكأنها رجلا 
ثم عمد الرجل إلى رش داخل الكوخ بالنفط داعيا الفتاة إلى التأهب للفرار عند إشعال الفتيل . أشعل عود الثقاب  ثم رماه وسط النفط المنسكب مناديا هيا علينا الفرار سيحترق الكوخ برمته
تصاعدت السنة النيران تتبعها حزم من الدخان الكثيف وعند ركضهما كانت النيران تضيء المكان ..عندها بدأ الكوخ يتهاوى ويصبح رمادا مشتعلا بالجمر تذروه الرياح في كل اتجاه .
وفي طريق هروبهما سالت الفتاة حبيبها قائلة : مامصير الآثار التي تركوها على ظهري ؟ رد عليها لاعليك فقد أخفيت الآثار كلها لكنها لم تبح له أن بقايا آثارها تركت على الجدار في النفق المظلم الذي صار جزءا من فيضان النهر القريب .
فقد اثر الحبيين ولم يستدل عليهما رغم المحاولات الجادة لاستعادة الرمز المفقود . بعد أعوام كان الهواة من الصيادين الذين يمرون على النفق القديم يشاهدون انبعاثا للضوء من خلل الماء يتشكل كما الحروف المشعة بالنور وكأن الحروف الخفية كانت لتشهد  قصة لغز من وراء الماء كان شاخصا لجيل جديد قد يتمكن من فك رموز الحياة القادمة .
  
تمت ....
 
 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=20952
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 08 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29