مجتمعاتنا تعاني من مرض حضاري خطير إسمه "الجوع للموسيقي" , أو الحرمان من الموسيقى وفقدانها في مناهج التربية والتعليم.
فالتربية الموسيقية تكاد تكون معدومة عندنا.
وهذا مرض حضاري وثقافي فتاك!!
ذلك أن الموسيقى من ضرورات تنمية قدرات التفكير المنطقي , وإطلاق الطاقات الإبداعية , ووعي المكان ومؤثراته الحسية والفكرية , لأنها وخصوصا الكلاسيكية , تؤثر على العُصيبات الدماغية , وتحقق إرتباطات ودوائر ذات قدرات معرفية إبتكارية إبداعية متميزة وولادات حضارية واعدة.
فالموسيقى تمنح المهارات اللازمة للعلوم الرياضية والمنطقية والتقديرية الأصيلة , وتنشّط قدرات الكلام وإستحضار المفردات , وتعلم لغة الطبيعة والمحيط الذي ينشأ فيه الإنسان.
ذلك أن أبجديات الصوت بأنغامه وتناسق ألحانه , المتمثلة بالمعزوفات الموسيقية , إنما تحدثنا بلسان الطبيعة , وتمنحنا طاقات التوافق مع إيقاعاتها وإتجاهات مسيرتها الراشدة.
فالطبيعة أدرى بمصالحها منا , وعندما نصغي لأناشيدها وترانيمها , نتعلم كيف نرعى مصالحنا ونتآلف مع بعضنا.
ويبدو أن من أهم أسباب غياب المنطق والمعقولية في تفاعلاتنا الإجتماعية والثقافية والسياسية , يمكن تلخيصه بغياب التربية الموسيقية في مجتمعاتنا , ولهذا فأنها تفتقد المهارات والدوائر العُصيبية اللازمة للتوجيه نحو آليات التفاعل العقلانية , والسببية الواعية المدركة للمؤثرات المحيطية بأبعادها الزمانية والمكانية.
فالموسيقى تحقق التآلف والتماسك الإجتماعي والإنساني , ولم يكن إختراع آلاتها لهوا أو عبثا , وإنما حاجة حضارية ملزمة لصناعة المجتمع القادر على العمل سوية لبناء حاضره ومستقبله.
ومن المعروف أن أول الآلات الموسيقية وخصوصا "القيثارة" , صُنعت في حضارة سومر وربما قبلها , وكانت المعابد السومرية , أشبه بالمسارح التي تؤدى فيها الأغاني والأناشيد , وتصدح الموسيقى بألحانها الشجية الفاعلة في تنوير العقل والنفس والروح.
والواضح في واقعنا الإجتماعي العربي , مقارنة بمجتمعات الدول المتحضرة , أن الموسيقى غائبة من حياتنا , وربما مُحارَبة وممنوعة وفقا لإدعاءات متنوعة , لا تمت بصلة إلى الفهم الصحيح لمعاني الحياة وتفاعلات الإنسان فيها.
ولهذا الحرمان الموسيقي تأثيراته الحضارية السلبية التي نشهدها ونعاني منها جميعا.
فالموسيقى حاجة نفسية وروحية وعقلية , لا يستغني عنها الإنسان , الذي يريد أن يكون معاصرا ومتحضرا ومبدعا ومساهما في صناعة الحياة الأفضل!
فهل سنربي عقولنا على التفاعل مع الموسيقى ؟
وهل سيكون للموسيقى دور في مناهجنا التربوية والتعليمية؟