في البداية لا بد من التعريج على فكرة الصراعات الثقافية التي جاءت في كتاب ( الثقافات وقيم التقدم ) لمؤلفيه : لورانس هاريزون وصاموئيل هنتنغتون والصادر عام 2000 باللغة الانكليزية ثم ترجم الى العربية عام 2005في مصر) ، يبنى هذا الكتاب على دراسة تحليلية لكثير من الاحصاءات والبيانات التي جمعت من مناطق كثيرة من العالم .
ان ملخص فكرة المؤلفين هي : (( ان العالم مقسم على ثمان او تسع حضارات كبرى مرتكزة على فوارق ثقافية ثابتة ظلت باقية على امتداد قرون وان صراعات المستقبل ستحدث على امتداد خطوط التنازع الفاصلة بين هذه الحضارات وان هذه الحضارات صاغتها تقاليد دينية لا تزال قوية النفوذ حتى اليوم على الرغم من قوى التحديث ، وهي : المسيحية الغربية ، والعالم الارثوذكسي والعالم الإسلامي والكونفوشيوسي والياباني والهندوسي والبوذي والأفريقي وأميركا اللاتينية : إذ تؤلف هذه التجمعات المناطق الثقافية الكبرى )) .
وبعد مرور اكثر من 10 سنوات على صدور هذا الكتاب بدأت الآن ملامح لهذه الصراعات الثقافية ، لكن ليس في المناطق التي اقترتحها الدراسة او التي افترضتها ، بل داخل المنطقة الواحدة لان الدراسة بنيت – فيما يبدو- على مناطق ثقافية كبيرة متناسية الفروق الثقافية الواقعة ضمن حدود هذه المناطق ، فمثلا عندما صنفت منطقة المسيحية الغربية لم تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الثقافية الواقعة ضمن هذه المنطقة الثقافية ، لان هذه المنطقة لم تكن مقفلة على ثقافة المسيحية الغربية بل تشاركها ثقافات اخرى نقلها المهاجرون الى هذه البلدان معهم ، فالحدود أصبحت متداخلة نسبيا ، ولذلك سيتولد صراع ثقافي داخل حدود المنطقة الثقافية الواحدة ، وقد جعلت الدراسة – أيضا – العالم الإسلامي منطقة ثقافية واحدة متغافلة الاختلافات الداخلية ضمن هذه المنطقة والتي ستنتج عنها صراعات ثقافية حادة ، لذا يمكن ان تنطبق بعض الحقائق التي جاءت بها الدراسة على الاجزاء الثقافية المكونة للمناطق الثقافية الكبرى والتي بدأت بعض راياتها ملوحة في بعض الآفاق.
وسنستعين هنا ببعض الأمثلة المستمدة من بعض المشاكل التي تحدث الآن بدوافع ثقافية في منطقة المسيحية الغربية ومنطقة العالم الإسلامي لتتضح الرؤية جلية لتلك الصراعات الثقافية الداخلية .
المثال الاول من بريطانيا وسيعتمد على خلفية آراء بعض السياسيين البريطانيين مثل جاك سترو و ديفيد كاميرون ..
صرح جاك سترو لـ ( بي بي سي) الاخبارية في 18/1/ 2011 معلقا على حادثة ( اغتصاب شابين باكستانيين لفتاتين بريطانيتين ) قائلا : (Some white girls are 'easy meat' for abuse) ( ان بعض الفتيات (من الجنس الأبيض) ( لحم سهل) للإساءة ).
وجاءت في ثنايا هذا التعليق جمل وعبارات صريحة تبين مدى الخلاف الظاهر والصراع الثقافي الخفي الذي يدور الآن في المجتمع البريطاني ، لا سيما اذا عرفنا ان البريطانيين لا يميلون في كثير من الأحيان الى استعمال الخطاب المباشرة والتصريح العلني الا عندما تكون الأشياء قد خرجت عن النطاق المسموح في الأعراف الاجتماعية والسياقات الثقافية المعروفة ، فالخطاب السياسي البريطاني يميل الى التلميح والطلب غير المباشر لكي يصل الى غايته ، وعندما يكون التصريح بهذه الطريقة المباشرة فهو يعد في الحقيقة صراخا مدويا وليس كلاما دبلوماسيا هادئا .
قال سترو : ( نحن نريد من المجتمع الباكستاني ان يفكر مليا وبوضوح : لماذا يستمر هذا الامر ؟ ونريد – أيضا- ان يكونوا منفتحين حول هذه المشاكل التي تقود عددا من الرجال الباكستانيين المتمسكين بتراثهم الباكستاني لهذا الفعل ولماذا يسمح بان تكون الفتيات البيضاوات هدفا لهم بهذه الطريقة ؟ ..هناك مشكلة محددة في بعض المناطق التي يقطنها الرجال الباكستانيون المسلمون حيث تكون الفتيات البيضاوات هدفا للاعتداء .. هؤلاء الشباب هم في مجتمع غربي ويعيشون مثل الرجال الآخرين ، يشربون ويمرحون ويذهبون الى الحانات لكن النساء الباكستانيات يكن خارج هذه الدائرة ، و اذا اراد هؤلاء الرجال الزواج فانهم يختاروا – حصرا- النساء الباكستانيات ).
اذن المشكلة كما يعرضها سترو واضحة وتتعلق بالاختلاف الثقافي بين هذين الجنسين اللذين ينتميان الى وطن واحد هو بريطانيا لكن الصراع الدائر بينهما لا يزال ثقافيا ، حول العرق والجنس والدين والهوية وغيرها من العلامات الثقافية ، لم يستطع ان ينصهر الباكستانيون في الثقافة المسيحية الغربية ولم تفلح هذه الثقافة في جذبهم إلى اجوائها كليا ، وعلى الرغم من اشتراكهم في بعض العادات والسلوكيات الاجتماعية إلا انهم في نهاية المطاف هم عائدون الى تراثهم ، هذا الصراع مع الباكستانيين الذين يشاركونهم في بعض الممارسات الاجتماعية ، فكيف يكون الحال مع المتطرفين منهم ؟؟
وبعد مرور حوالي شهر على هذه التصريحات ، وبالضبط في 5/2/2011جاء رئيس الوزراء البريطاني الحالي ديفيد كاميرون ليعلن في المؤتمر الذي عقد في المانيا حول الأمن : إن حالة التعدد الثقافي في بريطانيا قد فشلت , ثم قال : ( بصراحة ، نريد التقليل من سلبية المسامحة التي اعتمدت في السنوات الحالية ولنكن فاعلين اكثر في جعل الليبرالية قوية..)
وقد انتقد كاميرون المنظمات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني التي تأخذ أموالا من الموازنة العامة لتسهم في توطيد العلاقات الاجتماعية بين المجتمعات ذات العرقيات والمرجعيات الثقافية المختلفة مشككا في أفكارها وأهدافها عندما تساءل بقوله : ( هل يؤمنون بحقوق الانسان العامة التي تخص المرأة ومعتقدات الناس الآخرين ؟ هل يؤمنون بالمساواة للجميع قبل إيمانهم بالقانون ؟ هل يؤمنون بالديمقراطية وحق الناس في انتخاب حكوماتهم ؟ هل يشجعون الاندماج الاجتماعي ام الانفصالية ؟ هذه هي نوعية الأسئلة التي نريد ان نسالها ..)
وأضاف معرفا القيم التي يؤمن بها الغرب قائلا : ( إن المجتمع الليبرالي يؤمن بقيم حرية التعبير، حرية المعتقد ،الديمقراطية ، ان يتخذ القانون دوره ، المساواة في الحقوق ، نبذ العرقية ، الجنس او الجنسانية ..) ويمكن تلخيص مجمل الخطاب بقوله :
( لقد فشلنا في تقديم رؤية عن المجتمع الذي يشعرون بانتمائهم اليه .. إن بناء احاسيس قوية للمواطنة والهوية الوطنية يحفظ مفتاح تحقيق التماسك الحقيقي عن طريق السماح للناس بالقول : أنا مسلم ، أنا هندوسي ، أنا مسيحي ، ولكن أنا لندني أيضا ).
هذا بعض ما يحدث في منطقة المسيحية الغربية ، أما الذي يحدث في منطقة العالم الإسلامي ، فلا أظنه مختلفا كثيرا ، حيث الأنظمة السياسية ذات الإيديولوجيات التوريثية التي تستعين بالدين الإسلامي الحنيف فتوظف تعاليمه لخدمة مصالحها السياسية ، وتحت هذا العنوان يدخل ما يسمى بالصراع الطائفي الذي يعد لونا من الوان الصراع الثقافي داخل المنطقة الثقافية الواحدة .
ان هذا اللون من الصراع الداخلي بين المسلمين لم يكن وليد هذه اللحظة بل كان قديما حيث بدأ بعد وفاة الرسول الكريم (ص ) مباشرة وقد لا أكون مغاليا إذا ادعيت ان الصراع حول بعض القيم كان معروفا في عصر الرسول (ص) ، فهناك ثلة تؤمن بقيم مثالية إسلامية إنسانية محضة وهناك طائفة اخرى تميل إلى الاخذ باسباب الواقع الدنيوي لبناء الدولة الإسلامية ، وقد أطلق عليهما بعض الدارسين : اليمين واليسار في الإسلام ، واستمر هذه الصراع الثقافي الى وقتنا الحاضر ، فهو لم يكن طائفيا خالصا بل الخلاف في مجمله كان ثقافيا بمعنى : إن الفرق التي اختلفت لم يكن خلافها حول قضايا فقهية وعقائدية فقط بل تجاوز ذلك ، فدخل ضمن إطاره العرق والهوية والنسب والبيئة ، والسياسة ونظام الحكم ، فهذا حضري وذاك بدوي ، وهذا عربي وذاك أعرابي ، وآخر حبشي ، وثالث رومي ، ورابع فارسي ، وهذا من الانصار وذاك من المهاجرين ، وهذا من قريش وذاك من تيم ..
ولم يتخلص الخطاب الإسلامي في إي عصر من عصوره الذهبية او النحاسية من حضور الاختلاف الثقافي الذي شكل مشكلة مستعصية الحل ، بدلالة ما يعانيه الإسلام السياسي الآن من مشاكل جمة ، وقد كشف الغطاء تماما بعدما أزيحت بعض الانظمة الدكتاتورية عن سدة الحكم ، وبعدما منح الناس فرصة للاطلاع والتواصل عبر وسائل الاتصال الحديثة ، فالصورة الآن أوضح من الماضي وهي تعكس ما كان قد حدث حقا في عصر الرسول (ص) إلى يومنا هذا ، فالدولة الأموية اعتمدت على العنصر العربي وهمشت العناصر الاخرى ، وجاءت بعدها دولة بني العباس التي اعتمدت على العنصرين الفارسي والتركي وهكذا الايام دول بين الأجناس التي حكمت باسم الإسلام وفي حقيقتها تحكم بدافع عنصري ، فالدولة البويهية الفارسية والدولة السلجوقية التركية ثم المغولية والعثمانية وهلم جرا الى وقتنا الحاضر ، كل دولة ترفع الإسلام شعارا لها لكنها تخفي عنصريتها تحت رايته .
إن الانقسام حول شرعية الثورات العربية الآن خير دليل على هذا الاختلاف الثقافي الأزلي بين الأجناس التي اعتنقت الإسلام ، فالثورة في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها من البلدان ثورات مشروعة ، لكنها في البحرين تعد خروجا على ولي الامر والثوار ليسوا عربا بل هم من الفرس المجوسية ! وهذا الوصف ولد خطابا مضادا من الإيرانيين بدأ مع بعض الدبلوماسيين الذين وصفوا العرب بالهمجية والبدائية حتى تحول على يد شاعر إيراني معاصر معروف يدعى مصطفى باد كوبه إلى شعوبية جديدة !! عندما تهجم على الأعراب وثقافتهم البدوية اثناء إلقائه قصيدة بالفارسية بتاريخ 29 / 3 /2011 . ومما يؤكد ان الصراع الثقافي قد بدأ حقا هو انتشار هذه القصيدة في المواقع الإيرانية أولا ثم تناقلتها المواقع العربية فقد تصدرت عبارة ( شاعر إيراني معروف يسب العرب ويسئ للذات الإلهية ) أكثر من (200) موقعا في الانترنت ، ولهذا الامر دلالة على ان الأرض خصبة لهذا الصراع وان هناك مؤسسات تغذيه لكي يطفو وتمتد مساحته فيتحول من صراع ثقافي إلى حرب مدمرة تزهق فيها الانفس ، والسبب هو : هذه العصبيات القومية والعنصرية التي لم يستطع المسلمون التخلص منها على مدى القرون الماضية ، وها نحن اليوم نعود إلى الجاهلية حيث التنابز والتفاخر بالالقاب تاركين تعاليم السماء الإنسانية .. أين الخلاف الفقهي في هذه الأمور ؟ أين الخلاف العقائدي ؟ لقد شغل المسلمون بالعنصر والعرق والحكم فهذا بدوي وذاك حضري وهذا عربي وذاك فارسي عن المثل والقيم الإسلامية الحقيقية حيث العدل والمساواة والعفو وكرامة الإنسان والأخلاق ..
وخلاصة القول : إن عصر الصراعات الثقافية قد بدأ من داخل المركزيات والمناطق الثقافية الكبيرة ولن ينتهي الا بطريقين ، إما العيش المشترك والتالف بين هذه المناطق او التناحر والفناء ونتيجة هذين الطريقين ستؤدي إلى إنتاج ثقافة واحدة مهيمنة على العالم نموذجية وصالحة لكل الأعراق والأجناس والألوان .. |