صحيفة الوطن العمانية
العدد الصادر صباح الخميس 28/4/2011
بتقديم الرئيس المخلوع حسني مبارك ونجليه ومعظم وزرائه الفاسدين إلى المحاكم في
مصر، تكون الثورة المصرية قد قطعت شوطًا هامًا على طريق تحقيق كامل أهدافها
التي نادت بها، وقدمت من اجلها الضحايا والدماء النبيلة التي سالت من أجساد
شباب مصر وأبنائها الأحرار.
ففي وصولها إلى نقطة محاكمة النظام القديم على جرائم السياسة الخارجية، وجرائم
الفساد الداخلي وكل ما هو متعلق بنهب أموال الشعب، تتابع الثورة المصرية
خطواتها الواثقة نحو استعادة مصر لدورها التاريخي في الفضاء الإقليمي والعربي،
وفي فضاء القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، حيث ترتعد مواقع القرار داخل
"إسرائيل" كل يوم جراء التحولات الهائلة في الخريطة الإقليمية وفي مصر على وجه
التحديد، والتنامي المتوقع لدور مصر التاريخي، على مستوى السياسات الخارجية
وعلى المستوى الداخلي المتعلق بإعادة بناء المناعة المصرية بعد أن كان النظام
السابق قد أوقع مصر في كف الارتهان.
ومن علائم التحول إياه، انه ليس هناك من ينكر الآن في مصر ما بعد الثورة أن
اتفاقات كامب ديفيد هي اكبر جرائم هذا النظام الخارجية. ولهذا لم تكد تمضي
أسابيع على بداية الثورة المصرية حتى كانت تسقط عن هذه الاتفاقات صفة القدسية،
التي اضفيت عليها منذ اغتيال موقعها أنور السادات وتولي حسني مبارك الرئاسة
خلفا له ليواصل سياسة إضفاء القدسية على نصوص كامب ديفيد وبالتالي على العلاقات
مع "إسرائيل".
ان صورة محاكمة مبارك ونجليه، صورة مرعبة للدولة العبرية الصهيونية، التي ترى
فيها قبل أن تكون محاكمة لنظام فاسد على المستوى الداخلي، محاكمة لسياسات نظام
سابق، ومحاكمة لنهج سياسي كان لصيقًا ومتممًا لرؤية أميركية واسرائيلية للتسوية
في المنطقة.
لقد ترك الحدث المصري الكبير، وبنتائجه الباهرة التي تمخضت باقتلاع نظام مبارك،
انعكاساته الهائلة داخل "إسرائيل"، فوضع كل قياداتها ومراكز صنع القرار فيها
أمام واقع جديد، وتحديات جديدة، بعد أن كانت "إسرائيل" طوال العقود الثلاثة
الماضية تعتقد بأن السكون سيكون دومًا هو الأصل على الجبهة الجنوبية مع مصر
العربية منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979.
فالإرباك الذي تعيشه "إسرائيل" الآن وعلى كل مستوياتها هذه الأيام يبدو واضحاً،
فهي تعتبر المشروع الأميركي للتسوية في المنطقة وفق المنظور الأميركي
الإسرائيلي المشترك خصوصًا بالنسبة للقضية الفلسطينية، بدأ يتراجع، لا بل تنهال
عليه الضربات مع هبوب عاصفة الانتفاضة المصرية التي قطعت خط اللا رجعة.
إن انتفاضة مصر، التي حققت مجموعة من النقلات النوعية حتى الآن، ومنها اقتلاع
كابوس نظام مبارك، دفعت بصناع القرار ومراكز الدراسات الأمنية والعسكرية
والسياسية في "إسرائيل" لدق ما أسمته " ناقوس الخطر"، جراء ما هو متوقع على
الوضع الاستراتيجي لـ "إسرائيل"، وهو ما حدا بالجنرال (شاؤول موفاز) رئيس أركان
جيش الاحتلال، للقول بأن ما حدث في تونس ومصر يشكل إنذارا استراتيجيا لـ
"إسرائيل"، متوقعا أن يكون عام 2011 نقطة تحول في عدة أماكن أخرى بالمنطقة، في
ظل محاولات ما وصفه المحور الراديكالي الذي يضم سوريا وإيران وحزب الله وحركتي
حماس والجهاد الإسلامي وباقي قوى المقاومة الفلسطينية، والتأثير على مجريات
الأمور في مصر.
لقد أدت الانتفاضة الشعبية في مصر، وبنتيجتها العالية وسقوط نظام مبارك، إلى
تعاظم المخاوف داخل "إسرائيل" حيث اعتبر البعض فيها ومن صناع القرار أن
الانتفاضة المصرية هي أسوأ كابوس استراتيجي يواجه "إسرائيل" منذ ثلاثة عقود
خلت، وقد تفتح الطريق أمام ما أسمته الصحافة "الإسرائيلية" ولادة (شرق أوسط
جديد) معتبرة أن النتائج المترتبة عليها حال نجاحها ستكون وبالاً كبيرًا على
"إسرائيل" لجهة السياسة والاقتصاد ولجهة إعادة النظر ببناء "الجيش الإسرائيلي"
في احتمال ممكن لنشوء جبهة جديدة في الجنوب، ستكون كما كانت أصلاً أكبر جبهات
المواجهة "الإسرائيلية" مع العرب، وهو أمر سيلزم "إسرائيل" حسب الصحافة
"الإسرائيلية" وحسب مصادر القرار "الإسرائيلي" على إعادة النظر في الاستراتيجية
العسكرية وإعادة هيكلة قوات "الجيش الإسرائيلي".
إن المخاوف "الإسرائيلية" تتحدد أكثر فأكثر بالقلق على معاهدة كامب ديفيد
الموقعة عام 1979، وصعود القوى القومية والناصرية إضافة إلى باقي التشكيلات
السياسية المصرية التي تمتلك رؤية نقدية للدور المصري في المنطقة في ظل سياسة
نظام الرئيس المخلوع مبارك.
فالبديل الديمقراطي المتوقع ولادته في مصر، وبعد انتهاء المرحلة الانتقالية
للمجلس العسكري سيكون بالضرورة نظامًا وطنيًّا لا يمكن له أن يقبل بتهميش دور
مصر وتحويله إلى دور (عراب) في المنطقة، بل سيعود بمصر إلى موقعها الطبيعي
والأبوي، كحاضنة للحالة العربية على كافة مستوياتها.
إن "إسرائيل" تردت اليوم وتعرف معرفة يقينية أن التطورات التي تجري في مصر وفي
بلدان عربية مجاورة ليست في صالحها. ولهذا فإن إسرائيل ـ كما تعبر عنها تصريحات
حكامها وكتابات صحفييها ـ تبدي قلقا شديدا إزاء هذه التطورات. وليس خافيًا أن
اشد قلق ينتاب "إسرائيل" نابع من تطورات مصر وفي مقدمتها فقدان كامب ديفيد
قدسيتها التي احتفظت بها منذ توقيعها في 17 سبتمبر 1978، إذ يتوقع أن تصل
الأمور في المرحلة التالية إلى احتمال أن تلجأ مصر إلى طلب تغيير نصوص
الاتفاقات أو إلغائها.
وفي هذا السياق، وفي إطار متابعتها للحدث المصري الذي هز العالم بأسره، وأذهل
المراقبين، وسحر شعوب العالم إعجابا وتقديرًا واحترامًا لحركة الشعب المصري
بكافة فئاته ومواطنيه، كرست وسائل الإعلام "الإسرائيلية" جل تغطياتها لمتابعة
تلك الانتفاضة المصرية وحراكاتها اليومية المتعاظمة والمآلات المتوقعة للحراكات
والتحولات الجارية في مصر، مبدية القلق والتوجس على مستقبل معاهدة كامب ديفيد
الموقعة عام 1979، فشددت بعض تعليقاتها على ضرورة أن تلتفت القيادات
"الإسرائيلية" إلى النتائج المتوقعة جراء وقوع تحول جديد مفترض داخل مصر
ونظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، معتبرة إياها هي التي ستحدِّد بشكل
كبير اتجاه الشرق الأوسط الجديد في الفترة المقبلة ومعتبرة في الوقت نفسه أن
"المعسكر المعتدل" في منطقة الشرق الأوسط، سيلقى ضربة قاسية حال وقوع أي تغير
في مصر.
وفي هذا الصدد، فإن الصحافة "الإسرائيلية" وبعض كتابها المعروفين، وان ابدوا
الإعجاب بشعب مصر وبانتفاضته التي سحرت العالم بأسره، وجذبت اهتمامه، إلا أنهم
يشاركون مراكز صنع القرار في قلقها، حتى لو جاء إلى القيادة الجديدة المرتقبة
في مصر شخص شديد الاعتدال ومقرب من الغرب والولايات المتحدة. |