ما تمرُّ به أمَّتنا من واقع مرير نتيجة عدم الوعي والبصيرة
شَخَّصَّهُ، بل حذَّر منه المصلحُ
و العالِمُ و القائدُ و الفيلسوفُ
الفْذ جمال الدين الأسد آبادي الأفغاني قبل مائة و خمسين عاماً أو يزيد ، حين ربَطَ بين
مآسي المسلمين و فکرهم الرجعيِّ المتخلِّف ، فحملَ
راية التجديد و الإصلاح ؛
بکلِّ ما اوتيَ من قوة ، لذا
نال مانال من تهم و تنکيل
و تخوين وتسقيط وتکفير
حتي قيل بحقه زوراً و جزافا، تمنطق فتزندق، و مَن اتّّهمهُ بالإنتماء للحرکة الماسونية العالمية ، و هي تهمة کفيلة لهدم جبل، لکنه قاوم فانتصر، بل ترك أثراً خالدا .
تماماً کيومنا هذا ، کان الجهل
و الظلام و انعدام الهوية، قد وصل حدّاً مهولاً بين شرائح المجتمع ،، فاختار الأفغاني
خيارالمواجهة مع مسبِّبَينِ رئيسَين ؛ رجال الدين
المنافقين و الساسة العملاء ،
و الانفتاح مع النبلاء و الشرفاء من کافة الأديان و المذاهب
و القوميات، لتحقيق حلم ايقاض المجتمع من نومه .
و اذا کان سيِّد زمانه -جمال الدين- قد تميز بقدرته الخارقة علي التکيُّف بمحيطه السياسي و الإجتماعي ، مهما اختلف مع نهجه و عقيدته ، فتراه يغيِّر القابه تارة ، و زيّه الذي يتبدّل حسب تقاليد مضيِّفيه تارة أخري (من العمائم البيضاء والسوداء و الخضراء ، الي طربوش ترکي أو أزهري ،
الي عقال و کوفية) ، فساستنا العرب في عصرنا هذا ايضاً تميّّزوا و بجدارة ، لکن ، بعجزهم عن التکيُّف مع
الشريك و الحليف و الصديق في نفس الحزب ، فما بالك
مع الخصوم ؟!.
انهم ، ابعدُ خلق الله عن القادة العظام ، بصرخاتهم المدوِّيةِ الموقِضةِ للشعوبِ النائمة ؛ أمثال سيد جمال و روح الله الخميني و عمر المختار، اصحاب رسالات عالميةٍ تجاوزت حدود الحزب
و الطائفة و الوطن . هؤلاء استهدفوا اصلاح الفکر قبل
کل شيء ، لإصلاح الأمة من جذورها . أمّا حکّامنا الجدد إلّا ماندر، فإمّا اطفالٌ هواة ، أو عجزة رجعيينَ منَ العصر العتيق ، لاهمَّ لهم ولاغمَّ الّا ملئ بطونهم والهاء فروجهم ، و في افضل الأحوال ، عساکرَ ، لم يشُمّوا رائحة الفکر، لامن قريب، ولا من بعيد !.
لکن ماهي أسباب ظهور هکذا قيادات علي رأس أمَّةٍ حکمت العالم لقرون بدينها و لغتها و علمها و علماءها ؟!.
هنا اذ لا اُقلل من دور النهوض الغربي خلال القرون الأخيرة،
الفکري منه و العسکري ، ثمَّ الإقتصادي، وهو ما ساهم
کثيراً بتضعيف الامبراطوريتين العثمانية و الصفوية بشتي الوسائل ، بدءاً من الحروب التقليدية و الاحتلال المباشر ، مرورا بحملات المستشرقين الثقافية و غزواتهم العقائدية ،
الي تسخير و نهب الثروات، لکنَّني لا اتجاهل ما حلَّ بالعقل العربي من فسادٍ ، لادخل للأجنبي فيه ، أحلَّ التخاذل،
و بسَّط الإستسلام ، و اجاز الخيانة ، و جمَّل الخضوع
و الخنوع و کلّ ممنوع !.
من يقول إنَّ هذا الخراب الذي حلَّ بنا ، بفکرنا ، کُلُّه بسبب الاستعمار و مخططاته
الخبيثة ، کذّابٌ أو جاهل لامُحال، و إن آمنّا بذلك جدلاً ، فأمَّتنا ، هي من مهدت لذلك ، حين جسَّدت انها فعلاً ، أمَّة ، لاتعرف من الاسلام الّا اسمه ،
و في أفضل الأحوال شيءٌ
من طقوسه ، فانطلت عليها لعبة الغرب باغراءاتها ، و قبلت بالتغيير و الجديد الآتي من وراء البحار . و من الجديد، حکامٌ جدد و بحلةٍ جديدة ،
و بأعراف و تقاليد ، من نوعٍ غربي مثيرٍ و جديدْ !.
عدوُّنا تلقَّف الرسالة قبل غيره
و فهما دون عناء ، و تيقَّن أننا اصحاب بَصرٍ من دون بصيرة ، فمَلأَ عيوننا بمانُحب ، وافرغ عقولنا مِمّا لايُحب .
حينها أخذت ديکتاتورية التخلُّف و الرجعية و السذاجة، تفرض رأيها و بقوة على الفکر و التعقُّل و المعرفة عند العرب ، و بات العرب أمَّة ، تستحق قادتها بکل جدارة ، فالإمة التي تتقبَّل الذلَّ بترحاب ، مقابل الحصول علي رغبات دنيوية رخيصة، ليست کتلك التي ناضَلت و قاومت و تحمَّلت ماتحمَّلت ، حفاظاً علي تاريخها و شرفها ، و اکراماً لعظماءها و رُسلها ، و وفاءاً لدينها ، و مرضاةً لربِّها .
لا ، لاتستوي الأمَّتان أبدا !.
أمَّتنا العربية جاهلة و غارقة حتي الرأس بجهلها ، لم تعد تستوعب حقوقها ، ولا طعم الحياة الکريمة بعَدْلها و حرِّيَتها، و اِن وَعَت علي حالها بعد سُکرها ، ستستبدل الداء بداء ، السلطان المستبد المتخلف المتعجرف بسلطان آخر ،
اسفلَ منهُ و أدهي .
هکذا يسرد التاريخ ، قصص اممه الغابرة دون مجاملة .
و کما عبَّر جميلاً ، احد روّاد النهضة العربية، عبدالرحمن الکواکبي، في کتابه الشهير "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" ، إنَّ الله جلَّ و عَلا، قد فوَّض الأمم تقييم اداء حکامها ، فإن استغنت عن
حقِّها ، أذلَّها الله لأمَّةٍ أخرى .
إنها سنَّة الحياة ،
ولنْ تجدَ لها تبديلا .. |