• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : البيحداثة (inter_modernity) .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

البيحداثة (inter_modernity)

    أشعر ببعض الاختناق..مرة أخرى تنحت الحداثة ثنائية جديدة تحاول أن تسجننا بين أسوارها من جديد: الحداثة وما بعد الحداثة..ثنائية لن تكون في منأى عن مصير الثنائيات القديمة..ثنائية جديدة تحتل أهمية الجدل التاريخي بين الحداثة وما قبلها..سيختفي رهاب القرون الوسطى سيئة الذكر في منظور حداثة ولعت بالقطيعة..سيكون خصيم الحداثة اليوم هو ما بعد الحداثة.. هو ما بعدها وليس ما قبلها..هنا بتنا أمام تحدّي ثنائية من شأنها أن تستنزف ما تبقى من اللوغوس..وأمام هذا الاستنزاف فكّرنا في وضع مصطلح جديد لعلّه يعفينا من كثير من قواعد اللعبة التي تفرضها ثنائية الحداثة وما بعدها..استراتيجيا لتطويق لعبتهما والقبض على إمكاناتهما.. وهذا ما نريد إثارته هنا على استعجال يخفي كثيرا من التفاصيل.. هذا المفهوم أسميه:البيحداثة (inter_modernity)..وسأشرح بعض أبعاده فيما يلي:
لازال الناقد العربي حائرا حول ما هو الفارق الحقيقي بين الحداثة وما بعد الحداثة..تستولي مقولة المتى على ذهن البعض فيمنحهما فرقا تاريخيا..تصبح ما بعد الحداثة لحظة وتحقيبا..كرونولوجيا..بينما هي موقف..هي اختيار وليست قدرا تاريخيا..هي تجربة وجودية..هل يا ترى أوربا حداثية وأمريكا ما بعد حداثية؟..ولماذا وجد أمثال دريدا في المجال الثالثي ما يمكنه أن يمنح الكثير للتفكيك؟ هل ما بعد الحداثة هي فقط موقف نقدي من الحداثة يراعي رغبتها في التمركز العقلي والمجالي أم هي تراعي قضية أخرى تتموضع خارج مشمولات الحداثة؟ إنّ النقاد الغربيين وتبعا لهم النقاد العرب ضاعوا بين الحداثة وما بعدها بالمفهوم التاريخاني للعبارة، ولكنهم لم يقفوا عند شيء أصطلح عليه(inter_modernity) البيحداثة..أقصد بالبيحداثة وهو مصطلح أنحته ليكون تعبيرا عما سبق وسمّيته بالإمكان الحداثي..هذا الإمكان الذي لا زال بين طيات الحداثة ولم يستنفذ بعد بل ظلّ يشكّل هامشها المستبعد أو مخزونها غير النافذ أو ممكنها المؤجّل الحضور..أقصد بها ما هو من الحداثة المتجاوز لمعضلتها..ما يصلح أن يصنع المفارقة من داخل الحداثة وتفجير انسداداتها..هو الممكن الذي يخرج من هامشها ليحتلّ المركز في ثورة عارمة ضدّ بداهاتها..هو البعد النسبي الذي تقمعه يقينياتها..ليست البيحداثة هي الحداثة كما هي في وضعيتها المستنفذة..ولا هي ما بعد حداثة ترفض كل تمأسس وتمركز أو قيمة..ولا هي حالة تواسطية بالمعنى التلفيقي..بل البيحداثة هي الموقف الذي يتيحه النقد التعادلي للحداثة..النقد الذي يهجو انسداداتها لكنه يعترف بإنجازاتها..هو موقف تأويلي لممكناتها التي لم تستنفذ بعد..هي ما هو واعد منها قهره مركزها العنيد..هي ما تخشاه الحداثة بنفسها من نفسها..البيحداثة هي نزعة لتفعيل المساحات المعتمة من الحداثة..هي مصالحة مع روحها الذي استبعدته عبادة العقل الأداتي كما استبعدته اختزالاتها المادّية..البيحداثة هي ليست شيئا ما بعدي بل هي الحداثة نفسها حينما تستعيد ذاكرتها كرغبة أولى في تحرير العقل..لا تهتم البيحداثة بالحقب والمسافات بل تهتم بالموقف النقدي بالحداثة من الحداثة..محاسبة الحداثة بالقيم الأولى التي رسمت بدايات الرشد البشري أو الحلم بعصر العقل..هي البحث بشجاعة حول ما استبعدته الحداثة لأسباب تاريخية تبددت أسبابها اليوم..معانقة ما كان يشكل تابو للحداثة..ومفارقة ما ظل يشكل روحها المزيفة..البيحداثة هي مشوار لتحقيق قطيعة مع زيفها وأيديولوجياتها التي هرّبتها وأجهزت على كل إمكانها لتصبح حداثة كلّيانية تستبعد ولا تحتوي..البيحداثة هي مخرج من تكلس الحداثة وقفزات ما بعدها..استراتيجيا البيحداثة تهتم بكل الآراء التي تبثها الحداثة وكذا تلك التي تبثها ما بعد الحداثة..تنظر فيها وتستفيد منها وتكرس منها ما يصلح لانفتاحها واستعابها وثوراتها المتجددة..البيحداثة غير معادية لنحلة ولا مقاطعة لحقبة ولا منطوية على مقولاتها ولا معجبة بأساطير مجانينها..ولا هائمة في هوس قتل الأب ولا منجذبة للقطائع المفتعلة..ولا وفية لمقولاتها الثابتة..إنها المساءلة الدائمة لبداهات الحداثة..والاعتراف الدائم بصواب ما يصدر عن الإنسان بالوجدان..والخروج الدائم من سكرة التحقيب ومنح الأهمية للإيجابية والإنجاز..فكائن المستقبل هو كائن يتحرك في كل أبعاد التّاريخ..هو كائن بيحداثي بامتياز..يلتقط المعنى من كل الحقب ويركبها تركيبا آنيا يجعله وفيّا لكل أزمنته ومحيّن لكل عصوره ومهيمن على سائر العهود..إنه يجيب عن كل انسداداته بالذهاب والإياب بين ماضيه وحاضره..يوجد مستقبله في ماضيه وماضيه في مستقبله..هو بتعبير هيدغيري زمانية..والزمانية إذن في اعتقادنا هي أكثر من اندماج أنطولوجي بين الكينونة والزمان..بل هي في اعتقادنا تجاوز للتحقيب، بحيث الزمانية هي لحظة تحرر من مقولتي الأين والمتى..هي حركة مرنة تستطيع أن تقرأ المستقبل بعين الماضي كما تستطيع أن تقرأ الماضي بعين المستقبل..البيحداثة هي باختصار الحداثة نفسها حين تتجاوز أوهامها ولكن لا تسقط في أوهام ما بعدها..هي ما سيتبقّى من الحداثة حين تستنفذ كبرى يقينياتها وهو ما لا تستطيع غواية ما بعد الحداثة أن تتحرّش به أو تشكّك في جدواه..إنها استراتيجيا جديدة من أجل تحديث الحداثة.. قد يتساءل المهتم عن أي قيمة مضافة لمصطلح من هذا القبيل، وهو سؤال أو تساؤل مشروع..فالمصطلح تدبير لأزمة مفهومية..اللغة أحيانا تسهّل الجواب بقدر ما تعقّده..والواقع كما يتموضع خارجنا هو ملهم هذا التعقيد..والتعقيد هو نابع من توالد وتركّب وتفرّع الظاهرات..ولا يعني بتاتا تعسير الفهم واستحالته..إنّ أهم وظيفة للعقل أن لا يستسلم لنزعة استحالة العلم..وأهم مهمة للفلسفة هي ابتكار المفاهيم وفي الحدّ الأدنى ممارستها..وتبدو القيمة المضافة لمفهوم البيحداثة هو كونها تعطينا هامشا لمزيد من تأويل ما لم يؤول في الحداثة..وإظهار ما لم يظهر بين طياتها..دون مبارحتها ودون إعلان موتها..ذلك لاستحالة تكرار الوجود واستحالة استعادة الأزمنة القديمة كما هي..إنذ البيحداثة هي بحث في الممكن الحداثي..وهذا يتيح لنا الوقوف على واحدة من أنماط تحديث الحداثة بجعلها تعددية في مظاهرها وتجلّياتها وغنية في تجاربها وابتكاراتها..حيث يصبح تمثّلها لا يعصف بما يسمّى أحوالا خاصة للأمم، وتحويل الاختلاف إلى مصدر غنى للحداثة نفسها..وللتذكير فقط فإنّنا نعتقد أنّ الخصوصي ليس مقابلا حقيقيا للكوني، بل هو مجرد تقييد الكوني ضمن اشتراطات يفرضها المجال والتجربة والتاريخ والتشخص الواقعي..إنّ الخصوصي هو الكوني متى تشخّص في تجربة معيّنة..فلا بدّ من تشخّص، وحينما يتشخص الكوني تتجلّى الخصوصية إذ لا وجود للكوني في الخارج، بل الكوني هو مثال ذهني فقط..وكل خصوصية تسعى لتكون هي الكوني ستنهار لا محالة، فالكوني يتعالى والخصوصي هو تنزيل ديمقراطي للكوني..وفي موضوعنا هذا نتحدّث عن لقيا ومعانقة حميمة بين الإمكان الإسلامي والإمكان الحداثي..في الحداثة ممكنات هي التي تمنح الاختلاف فسحة للتواصل..فالممكن الحداثي يتسع للمحلي، للمختلف، لكل الثقافات..الحداثة هنا لما جعلت له..وهي على كل حال دعوة لكسر أصنام الحداثة نفسها المؤسسة لأقلمتها ومركزتها وعنصريتها التي لا تمثل جوهرها، وبالتالي نكون أمام موقف لدحض الأساطير المؤسسة للصدام بين الحضارات..البيحداثة ليست دعوى غير مسؤولة تهدف خلق عالم افتراضي خارج الإلتزام التاريخي والاجتماعي..هي بحث في الإمكان الممكن..وليس في الإمكان غير المستحيل، أي غير العملي..هي توجّه بالحداثة نحو الإلتئام..ترشيد الحداثة وتدبير أزمتها وتطويع مؤسساتها الرمزية والمادية قدر الوسع لكي تكون في خدمة الإنسان..هي هي نفسها التنمية والتنوير والرفاهية الإيجابية لكن بأنماط أخرى أقل تكلفة في مجال القيم والحقوق والبيئة..هي هي نفسها لكن بطرائق أقلّ توحش وأكثر أنسنة..هي هي بعد إعلان حركة تصحيحية وثورية ضدّ كسادها وإفلاسها وضمور مزاعمها الكبرى..البيحداثة ترفض الإقامة ولكنها ترفض أيضا التّيه..ترفض حصر العقل والعاقل والمعقول والتمييز بينهما في المقول والمقولة..ترفض التوحش والاستبعاد والاستعباد وتحسن الإنصات لكل دعوى قبل أن تستدمج جوهرها الخلاّق أو تدحض كنهها القاتل..البيحداثة هي إمكان مفتوح كما الإنسان إمكانا مفتوحا..هي هي نفسها الحركة الجوهرية التي تلامس كل أبعاد الإنسان دون أن تمسّ كنهه..هي تطور في الحياة الفردية والجماعية وليست انقلابا على جوهر الإنسان..البيحداثة هي ما فوق الحداثة وما بعدها..هي سوبرا ـ حداثة..حداثة لغيرها وليست حداثة لذاتها..حداثة يسودها الإنسان وليست هي من يسوده ويستغربه.. حداثة يستنزفها الإنسان ولا تستنزفه..



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=68597
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 10 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29