• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : الحسين في ديوان العرب (4) .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

الحسين في ديوان العرب (4)

لم يكن الأمر سهلا مستطابا..فالموقف من الحسين يومئذ هو قضية نكون أو لا نكون..فلقد تلبّك القوم وحصلت فتنة ضارية وهناك من محبّيه من جبنوا..وكانت التوبة بعد مقتله حدثا تاريخيا جماعيّا..ومنهم من أخذ بثأره..تحوّل قبر الحسين إلى قبلة للثّوار..هنا دشّن عهد جديد..لم يعد التاريخ وحده شاهذا على قومة الحرّية بل شيئا فشيئا بتنا أمام بعد جغرافي ملهم للثورة الحسينية: كربلاء التي أصبحت أساسا لفكر جغرافي حسيني مرجعي لما جرى من بعده..كان عبد الله بن الحر الجعفي ممن تخلّفوا عن الحسين..ولكنه رثاه نادما تائبا ولقي من بعده تعنيفا من ابن زياد حيث لاحقوه وطاردوه..ومع أن عبيد الله بن الحر الجعفي لم يكن جبانا، بل كان من شعراء العرب وشجعانها ومن محبّي الحسين كما يروي بن مخنف، إلا أنه حصل أن خرج عبيد الله الجعفي من الكوفة حين سمع بقدوم الحسين إليها..وقد حصل أن اجتمع الجسين بعبيد الله لإقناعه بالنصرة ولكن من دون جدوى..هذا يحصل في كل العصور..فالحديث عن الثورات والتباكي عليها هو ديدن النّاس بعد فوات الأوان..بل لا أحد يدرك مرارة الخذلان إلاذ حينما تصادف هروبا وتبرّما وانقلابا ممن كنت تعتقد فيهم الحب والنصرة..إنّ أكثر إحساس أليم ينتج عن الخذلان..وأحسب أنّ الحسين تألّما ألما أشد حتى من وقع السيوف، ألم عزوف الأصحاب وتفرقهم وانقلاب بعضهم.. ما أسوأه من إحساس..غير أنّ عبيد الله الجعفي ما أن سمع بمقتل الحسين وأصحابه حتى أتى إلى كربلاء وكان أوّل من رثى الحسين متندّما على عدم مشاركته في القتال..لكن قيمة رثاء عبيد الله تكمن في كونه ندم واعترف بأنه كان خاذلا للحسين..وفي شعره بوح عارم بهذا الموقف..وهو مما يؤكّد على جدّية الندم والحسرة على مقتل الحسين..وما يؤكد على ذلك أيضا أنه هجا يزيد وجماعته..في هذا الظرف شديد الحساسية حيث انتشر الرعب وبات فعل البطش بالأشراف ساريا، تحدث الجعفي بما كان بمثابة استفزاز ليزيد وجلاوزته.. يرثي الجعفي نفسه ويتحسر على خذلانه للحسين معربا عن ندم بليغ لا يبرر منه شيئا:
يــقـول أمــيــر غــادر وابــن غــــــادر +++ ألا كــنــت قــابــلت الشــهيد بن فاطمة
ونــفــسي عــلــى خــذلانــه واعـتزاله +++ وبــيــعــة هــذا الــنــاكث الــعهد لائمه
وفــيــا نــدمــي أن لا أكــون نــصرتـه +++ لأكــــل نــفــس لا تــســــدد نــائــمـــه
ويــا نــدمــــي أن لــم أكــن من حماته +++ لــذو حــســرة مــا أن تــفــارق لازمه
ندم عبيد الله الجعفي لأنه لم يكن لديه مانع حقيقي من نصرة الحسين..فلقد كان فارسا كبيرا كما تقدم..ويدل على شجاعته ما ورد في أبيات من شعره إذ يقول حسب ما ذكره السيد الأمين في الأعيان:
يخوِّفني بالقتل قومي وإنمآ +++ أموت اذا جاء الكتاب المؤجلُ
لعل القنا تدني بأطرافها الغنى +++ فنحى كرامآ او نموت فنقتل
وِإنك إن لاتركب الهول لاتنل +++ من المال ما يكفي الصديق ويفضل
ِإذا القرن لاقاني وملَّ حياته +++ فلست ابالي أينا مآت أول
وفي الكامل لابن الأثير وغيره حديث عن موقف عبيد الله الجعفي وكونه أقام في بيته على شاطئ الفرات حتى مات يزيد..يقول:" لما مات معاوية، وقتل الحسين بن علي، لم يكن عبيد الله بن الحر الجعفي من حضر قتله، وتغيب عن ذلك تعمداً. فلما قتل الحسين جعل ابن زياد يتفقد الأشراف من أهل الكوفة فلم ير عبيد الله بن الحر ثم جاءه بعد أيام حتى دخل عليه، فقال له: أين كنت يا ابن الحر؟ قال: كنت مريضاً قال: مريض القلب، أم مرض البدن؟ فقال أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد من الله علي بالعافية. فقال ابن زياد: كذبت، ولكنك مع عدونا. فقال: لو كنت معه لرأى مكاني. وغفل عنه ابن زياد فخرج، فركب فرسه، ثم طلبه ابن زياد فقالوا: ركب الساعة. فقال: علي به. فأحضر الشرطة خلفه. فقالوا: أجب الأمير. فقال: ابلغوه عني أني لا آتيه طائعاً أبداً. ثم أجرى فرسه وأتى منزل أحمد بن زياد الطائي، فاجتمع إليه أصحابه. ثم خرج حتى أتى كربلاء، فنظر إلى مصارع الحسين ومن قتل معه فاستغفر لهم، ثم مضى إلى المدائن. وكان عبيد الله قد قال في هؤلاء الصرعى قصيدة: ( يقول أمير المؤمنين وابن غادر...) إلى أخر القصيدة وأقام ابن الحر بمنزله على شاطئ الفرات إلى أن مات يزيد..".. حكاية لقاء الحسين بعبيد الله الجعفي لها تفاصيل أخرى..فققيل كما في نفس المهموم : وسار الحسين (ع) حتى نزل قصر بني مقاتل فاذا فسطاط مضروب ورمح مركوز وخيول مضمرة ، فقال الحسين : لمن هذا الفسطاط قالوا لعبيد الله بن الحر الجعفي فأرسل اليه الحسين رجلاً من أصحابه يقال له الحجاج بن مسروق الجعفي فأقبل فسلم عليه فرد عليه‌السلام ثم قال : ما وراءك؟ فقال : ورائي يابن الحر أن الله قد أهدى اليك كرامة ان قبلتها فقال وما تلك الكرامة ، فقال هذا الحسين بن علي يدعوك الى نصرته فان قاتلت بين يديه أجرت ، وإن قتلت بين يديه استشهدت فقال له عبيد الله بن الحر والله يا حجاج ما خرجت من الكوفة الا مخافة أن يدخلها الحسين وانا فيها ولا أنصره لأنه ليس في الكوفة شيعة ولا انصار الا مالوا الى الدنيا الا من عصم منهم فارجع اليه فأخبره بذلك ، فجاء الحجاج وأخبر الحسين فدعا عليه‌السلام بنعليه فلبسهما واقبل حتى دخل على ابن الحر فلما رآه قد دخل وسلم ، وثب عبيد الله وتنحى عن صدر مجلسه وقبّل يديه ورجليه وجلس الحسين (ع) ثم قال : يابن الحر ما يمنعك أن تخرج معي قال : احب أن تعفيني من الخروج معك وهذه فرسي المحلقة فاركبها فوالله ما طلبت عليها شيئاً الا ادركته ولا طلبني احد إلا فتّه حتى تلحق بمأمنك وأنا ضمين لك بعيالاتك أوديهم اليك أو اموت انا وأصحابي دونهم..قال الحسين : أهذه نصيحة منك قال نعم والله ، قال : إني سأنصحك كما نصحتني مهما استطعت ان لا تسمع واعيتنا فو الله لا يسمع اليوم واعيتنا أحد ثم لا يعيننا إلا كبه الله على منخريه في النار قال عبيد الله بن الحر دخل عليَّ الحسين ولحيته كأنها جناح غراب فوالله ما رأيت أحداً أملأ للعين ولا أهيب في القلب منه ولا والله ما رققت على أحد قط رقتي على الحسين حين رأيته يمشي وأطفاله حواليه..لقد حارب الجعفي في صفوف معاوية في صفين وانتقل إلى الكوفة بعد مقتل الإمام عليّ..وقد خاض معارك حتى بعد مقتل الحسين وعزى الكوفة وحارب جيش مصعب ولما تفرق عنه الجمع خشيء من الأسر فانتحر حيث ألقى بنفسه في الفرات ومات غرقا..
ألهب الحسين قلوب من خذلوه أيضا..وأي شعور بالذنب ذاك..ولعلنا هنا شكّلنا صورة عن وضعية من جاء بعد ذلك معلنا التوبة..هذا هو نفسه الإحساس الذي انتاب حركة سليمان بن صرد الخزاعي..لقد عبر الجعفي بما كان يجيش في تلك النفوس بعد مقتل أبي عبد الله..إحساس ثقيل بالذنب..ابن الزهراء صريعا بأرض الطفوف..وحوله أصحابه وعياله..ترى ماذا تبقّى من مروءة ونبل ومشاعر إنسانية أو دين؟؟ وماذا يجدي الرثاء وقد علموا أنّ الحسين سيقضي؟.. وما جدوى القتال بعده وكان القتال معه أجدى؟..وهل ثمة من فارق مجدي بين خاذل نادم وخاذل غير نادم يا ترى؟..أمّا البعض فقد رأى في رثائه ما يؤكّد على أنّه من سلفنا الصالح كما فعل النجاشي الذي قال فيه: "عبيد الله بن الحر الفارس الفاتك الشاعر ، وعده من سلفنا الصالحين المتقدمين في التصنيف وقال : له نسخة يرويها عن أمير المؤمنين عليه‌السلام". وهناك من استثقل هذا الوصف واعتبرها خاذلا للحسين إذ كيف يكون صالحا من خذل الحسين في حياته وبعد أن عرض عليه الحسين النصرة فأبى..ولم يكن من مانع له وهو الفارس الذي قاتل وجرّب امتشاق السيوف؟ وفي هذا يقول السيد بحر العلوم : والعجب منه (من النجاشي)ـ رحمه الله ـ كيف عدّ هذا من سلفنا الصالح وهو الذي خذل الحسين وقد مشى اليه يستنصره فأبى أن ينصره وعرض عليه فرسه لينجو عليها ـ فأعرض عنه الحسين وقال : لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك وما كنت متخذ المضلين عضدا.
الإحساس بالذنب هو الذي حرّك الأمة بعد فقد الحسين..فلقد بات الحسين ملهما للثورات بعد مقتله أكثر مما كان عليه في حياته..لقد أراد بمقتله هذا أن يكون شاهدا وشهيدا..لقد كرس إحساسا بالذنب تجاه النهضة والإصلاح..فالخذلان مصيره الكآبة والذّل والخنوع..لم يكتف الجعفي بإعلان الندم على عدم النصرة بل رثى ومدح أصحاب الحسين على إخلاصهم وبلائهم الحسن ونصرتهم لابن نبيهم:
ســــقــى الله أرواح الــــذيــن تــآزروا +++ عــلــى نــصــره سقياً من الغيث دائمه
وقــفــت عــلــى أجــداثهــم ومــحالهم +++ فــكــاد الــحشى ينقض والعين سـاجمه
لــعــمري لقد كانوا سـراعاً لي الوغى+++ مــصــاليت في الهيجا حـماة خـضارمه
تــآسوا عـلى نـصـر ابـن بـنـت نـبـيهم +++ بـأسـيـافـهـم آســـاد غــيـل ضـراغـمـه
فـإن تـقـتـلـوا فـكــــل نــفـــس تــقـيــة +++ عـلـى الأرض قـد أضـحت لذلك واجمه
ومــا أن رأى الـــراؤون أفـضـل منهم +++ لــدى الـمـوت ســادات وزهـر قـمـاقمه
قيمة هذا الرثاء هو كونه أوّل رثاء لشاعر عربي كبير، استهدف من قبل ابن زياد بعد مقتل الحسين..وهذا إنما يؤكّد على أنّ ابن زياد وجماعته لم يكن يهمهم من شارك مع الحسين أم لا، بل كان يهمهم تفتيش الضمائر والبحث عن من له ميل لأهل البيت ولو في نطاق المشاعر..إنّها سياسة دواوين التفتيش والإذلال الممنهج..وقد قالها الحسين في الميدان عن يزيد وتنبّأ بمستقبل حرج لأهل الخذلان:
"ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ، ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام ، على مصارع الكرام ، الا واني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر ، ثم انشد أبيات فروة بن مسيك المرادي:
فان نهزم فهزامون قدما +++ وإن نهزم فغير مهزمينا 
وما إن طبنا جبن ولكن +++ منايانا ودولة آخرينا 
فقل للشامتين بنا افيقوا +++ سيلقى الشامتون كما لقينا 
إذا ما الموت رفع عن أناس +++ بكلكله اناخ بآخرينا
ثم قال: " أما والله لا تلبثون بعدها الا كريثما يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إلى أبي عن جدي رسول الله .. فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ، إني توكلت على الله ربى وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم " .
يمكن اعتبار رثاء الجعفي منطلقا لتنامي الإحساس بالندم والتوبة..بل يمكن اعتباره نصّا تأسيسيا لحركة التّوابين ما زالت هذا الإحساس يدبّ في النّاس حتى نما وترعرع وأنتج حركة سليمان بن صرد وحركة المختار الثقفي..ولكن حركة التوابين لم تكن توبة بل تكفيرا أيضا عن الذّنب، وذلك بمواصلة الثورة من حيث بدأت..من حيث كربلاء..ووضعوا كل ما في عنقهم من بيعة فاسدة ليزيد الذي أفسد في الأرض وطغى..يعلن الجعفي توبته وانضمامه لقضية الحسين ويهجو عدوّه ويكفر بشرعيته ويتهدّدهم بالثورة
أتـقـتـلـهـم ظـــلـمـاً وتـرجــوا ودادنـــاً فــــــدع خــطــة لـيـسـت لـنـا بـمـلائمه
لـعـمـري لــقـد راغـمـتـمـونـا بـقـتـلهم فـكـــم نـــاقـــم مـنـا عـلـيـكـم ونـاقـمـه
أهــــم مـــراراً أن أســيـــر بـجـحـفـــل إلى فـئــة زاغــت عـــن الـحـق ظـالمه
فــكـفــــوا وإلا زرتــكـم فـي كــتـائـــب أشــــد عـلـيـكـــم من رصوف الديالمه
موقف عبيد الله صعب..ولكن فيه حار أهل التراجم..حاروا لأنّ عبيد الله الجعفي كان شديد الميل لأهل البيت..حتى وهو في صفوف معاوية في صفين قال لمعاوية يوما: "ان علياً على الحق وأنت على الباطل"..
وهذا يدل على صحة اعتقاده لا سيما ما أظهره من شدة ندمه وتحسره ـ نظماً ونثراً على تركه لنصرة الحسين.. فهو بتعبير السيد بحر العلوم صحيح الاعتقاد سيئ العمل..وقد يرجى له النجاو لحنو الحسين عليه يوم أمره بالفرار من مكانه حتى لا يسمع الواعية فيكبه الله على وجهه في النار..لقد كان ندمه واضحا..فيقال ندم حتى كادت تفيض نفسه.. يقول:
فيالك حسرة نادمتُ حيا +++ تردّد بين حلقي والتراقي
حسين حين يطلب بذل نصري +++ على أهل الضلالة والنفاق
غداة يقول لي بالقصر قولاً +++ أتتركنا وتزمع بالفراق
ولو أني اواسيه بنفسي +++ لنلت كرامة يوم التلاق
مع ابن المصطفى نفسي فداه +++ تولى ثم ودّع بانطلاق
فلو فلق التلهف قلبَ حي +++ لهمَّ اليوم قلبي بانفلاق
فقد فاز الاولى نصروا حسيناً +++وخاب الآخرون الى النفاق
وأحسبها كلمات صادقات في شدّة التندم.. وتأكّد ذلك بعد أن شارك في قتال المختار لخصوم الحسين والثأر منهم.. حيث ترك رغد العيش وحياة القصور وثار على أعداء الحسين من بعده..وهو القائل في خروج المختال وثأره للحسين:
ولما دعا المختار للثأر أقبلت +++ كتائب من أشياع آل محمد
وقد لبسوا فوق الدروع قلوبهم +++ وخاضوا بحار الموت في كل مشهد
هم نصروا سبط النبي ورهطه +++ ودانوا بأخذ الثأر من كل ملحد
ففازوا بجنات النعيم وطيبها +++وذلك خير من لجين وعسجد
ولو أنني يوم الهياج لدى الوغى +++ أعملت حد المشرفي المهند
وواأسفا إذ لم أكن من حمآته +++ فأقتل فيهم كل باغ ومعتد
يصعب الحكم أمام هذا الوضع الملتبس الذي تتداخل فيه الرغبة بالندم حدّ التكفير عن الخطأ بركوب ملاحم القتال للثأر لمقتل الحسين، مع عدم الاستجابة لطلب الحسين في النصرة..حالة من اللبس يصعب على إنسان القرون المتأخرة أن يحكم فيها قطعا..ولكن يبقى المدار في هذا القول أو ذاك هو الحسين ومأساته التي لم تدع أحدا في رضى واطمئنان وهدوء : محبوه وخاذلوه وخصومه على السواء..إنّها كربلاء الحسين التي ليس ما بعدها كما قبلها..
 24/10/2015



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=69270
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 10 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29