كانت ليالي رمضان في سامراء , ذات نكهة ومعنى , ودور في تهذيب السلوك , وتنمية الوعي , وإثراء الثقافة الدينية واللغوية , وإنعاش الذوق وإرهاف الحسّ , وإطلاق جمال الخُلق , وروعة المقال , وحُسن الإبداع , وأصول الحديث , في جلسات ونشاطات روحية وطقوسية , متوهجة بالإيمان والرحمة والمحبة الإنسانية الفياضة.
فكانت العوائل تستعد لشهر رمضان , بتوفير الحاجات الأساسية , اللازمة لإعداد (الشوربة) , والتي تكون من (الماش) أو (العدس) وأحيانا من (الرز).
وعادة تتواجد في البيت (بيشة تمر خستاوي) أو (تمر زهدي) , إضافة إلى اللبن الذي هو عنصر أساسي في الإفطار.
وتزدحم موائد الإفطار بالأكلات السامرائية اللذيذة , كالرز والكبة واللحم المشوي والدولمة , والطبخات الأخرى المتنوعة التي تتفنن في إعدادها ربة البيت , كل يوم.
وتبدو المدينة في مهرجان ديني متواصل , حيث تصدًح منائرها بالأصوات الشجية التي ترتل القرآن , والتواشيح النبوية , منذ صلاة العصر وحتى مطلع الفجر.
وفي سامراء قرّاء يتميزون بعذوبة الصوت وتأثيره على السامع , وكانت منارة الجامع الكبير المتألقة في روعة القراءات , حتى لتبدو المدينة وقد صارت تتحرك وفقا لإيقاعات المآذن الشادية بآيات القرآن الكريم , والمصدحة بالمدائح النبوية.
وترى الناس يهرعون إلى الجوامع قبل الغروب , ويتمتعون بالأحاديث الدينية , ويشاركون في الإفطار الجماعي الذي غالبا ما يكون على التمر واللبن , وبعدها ينفضون إلى بيوتهم , ليعودوا قبل صلاة العشاء , حيث الأجواء الروحية المعطرة بآيات الذكر الحكيم.
وأئمة سامراء الذين يخطبون ويئِمون الصلاة , لديهم قدرات ترتيلية مؤثرة في الأعماق , فيشدونك إلى الصلاة بقوة روحية مذهلة , حتى لتنقطع عن كل ما يرتبط بك , وتكون خالصا نقيا للصلاة , التي يأخذونك أثناءها إلى فضاءات التأمل والوعي والإدراك العميق.
وبعدها تبدأ صلاة التراويح العذبة , التي تحتشد الجوامع بها , فالناس قد تأهبوا لها بكل طاقاتهم الروحية والنفسية.
وبعد ذلك يأنس الناس بالبقلاوة والزلابية , وفي سامراء فرنان أو ثلاثة لإعدادها وفقا لخبرتهم , فكانت ذات طعم لذيذ , خصوصا عندما تكون قد أحضرت لتوها من الفرن.
وترى الناس تأكلها في المقاهي والمحلات وهي مبتهجة مسرورة , فرحة مرحة , تتبادل أجمل الأحاديث والفكاهات.
وعند الساعة الثالثة صباحا , يبدأ (التمجيد) يتعالى من مأذنة الجامع الكبير , بالآيات والتواشيح , بأصوات قرّاء معروفين ومؤثرين في السامع .
وقبل صلاة الفجر يبدأ الصوت يتردد (إشرب الماء وعجّل) , وبعدها (إمساك , أيها الصائمون إمساك) , ثم الآذان , وصلاة الفجر.
وكان معظم الناس يحرصون على إداء صلاة الفجر والتمتع بما يقوم به شيوخ سامراء العلماء الفقهاء من نشاطات إيمانية , وكان في مقدمتهم الشيخ أيوب الخطيب رحمه الله , الذي كان له تأثير روحي ونفسي وثقافي عميق , وكنا نشاركه بعض حلقات الذكر بعد صلاة التراويح , في الجامع الكبير , والتي كان يديرها بنقاء وإيمان مطلق وتسامي نبيل , وكان له دور واضح في بناء عالمنا النفسي والروحي , ولغتنا العربية , لحسن نطقه ومعرفته بها.
وفي جوامع سامراء , كنا نتعلم من رجالاتها , أنواع القراءات القرآنية , وكيفيات النطق السليم , وقد تعلمت من مشايخها , ورجالات دينها والبسطاء من عامة الناس , ما لا يمكن تعلمه في أي محاضرة أو كتاب.
وكانت ليالي رمضان في مرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري (ع) , ذات معاني وتجليات روحية وإيمانية ساحرة , حيث يكون تواجدنا في الحضرة المطهرة على مدى أيام الشهر وخصوصا ليلة الجمعة , وبعد صلاتها في الجامع الكبير المجاور لها , فكانت زيارة المرقد وكأنها جزء مهم من تلك الصلاة.
ولليلة القدر مذاق خاص , حيث المآذن لا تهدأ حتى الصباح , وهي تنقل حلقات الذكر التي تلهج بها القلوب والأرواح والنفوس " سبحان الله , والحمد لله , ولا إله إلا الله , والله أكبر , ولا حول ولا قوة إلا بالله , والله أكبر ولله الحمد...."
وفي الأسبوع الأخير تبدأ الإستعدادات للعيد , فتجد الناس منشغلة بشراء الملابس الجديدة , وحلويات العيد , وإعداد (الكليجة) , وترى (صواني الكليجة) في طريقها من وإلى الأفران التي تعمل على مدار الساعات.
تلك أيام خَلت , وبقيت حيةً في ذاكرة الذين تنعموا بصفائها ونفحات لياليها!!
ورمضان كريم.
|