لحظات اللقاء لها أجنحة، تسافر خلف سحاب اللاشعور بالوقت، لحظات الوداع لها مخالب، تنهش أميال الساعة لتقتل الوقت، هكذا كان لقائي مع معلمتي، التي لم أرها منذ عشرون عام، بقايا من الذكريات العالقة في مخيلتي، كثيرً ما كانت ترسم لنا وجوه وأجساد الحيوانات على السبورة، كل شيء تغير خلال تلك السنوات، حتى مهنتها التدريسية، هي اليوم رسامة عربية معروفة، تدعوني لحضور معرض لوحاتها في بغداد، وتشوقني لحضوره، بقولها :سأكون سعيدة لو كنت أحد ضيوفي العراقيين والعرب.
قاعة كبيرة، دخان السكائر يقلص فرصة الحصول على الأوكسجين، الحياة مركونة في زوايا القاعة، متسائلا مع نفسي، أين الثقافة التي يدعيها المهتمين بالفن؟ لطافة الفضاء، وإحترام مشاعر الذين يملئون المحيط، نظافة الفم وإشراقة الابتسامة، جزء من الثقافة، أدركت بيقين، إن الثقافة بالتعامل، شعار يحمله هولاء بين طيات السنتهم، ويحتاج الى شيء من الواقعية والتطبيق، تكلمت بهذا الموضوع مع معلمتي، وتطابقنا الرؤى، بعد إن إستقبلتني بحفاوة، وقدمتني للتعرف، على بعض المدخنيين هناك.
مميزاً بين المدعوُين، لعلها أناقتي بثياب جميلة، ولكن ما ميزني أكثر، إهتمام معلمتي المفضوح، كانت تحرص على أن أكون الى جنبها دائماً، يسألونها عن تفاصيل بعض اللوحات، تجيبهم بلباقة وثقة، ثم تلتفت ألي بإبتسامة لطيفة، أليس كذلك؟ نعم هو كذلك مع أبتسامة جميلة، رغم شعوري بإهتمامها بوجودي، لكنني أدركت إن كل من حضر يعتقد بنفس الشعور،إذ كانت معلمتي رغم تزاحم الأوامر برأسها، إلا انها قادرة، على أن تنسق بين تلك الأوامر دون إلتباس أو إرباك.
لكل شيء آفة من جنسه،الحديد لا يأمن المبرد! شعوري بالمتعة، طغى على ملامحي،ولفت نظر أحد المدعوُين، عشرينية من لبنان، ذات الجسد الفاتن المفتقر للحشمة، تتدلى من رقبتها، قلادة تنتهي بقطعة فضية، نحت عليها صورة لجيفارا، تدل على إنها علمانية،تحاول حسداً أن تقتل الشعور الذي بداخلي، إقتربت عرفت نفسها، حديثها مشحون بشيء من الغَيرة أو المشاكسة،عالجت إستفزازها المتواصل لي بالهدوء، والثقة بالنفس والكلام اللطيف،جاريتها بالحديث، حتى وصلنا، حيث حجاب معلمتي وحشمتها،وأنفتاح رؤيتها هي بحقوق المرأة بما ترتدي.
بإمتعاض وإستهزاء قالت:"أنتم الإسلاميون تحتقرون المرأة! وتقيدون حقوقها ومفاتنها بقيود دينكم! كحجاب معلمتك الذي يخفي تحته حقوقها،أما نحن نعطي للمرأة حريتها، بما تريد وتلبس وتتصرف"إبتسامة بثقة ثم سألتها" لو شاءت الصدف، أن تحصلي على (جوهرة أو ماسة)، لا تقدر بثمن لندرتها وجودتها، كيف ستتصرفين معها؟من حيث تشعر أو لا تشعر، أجابت:"سأحرص على أن أضعها في مكان خاص، حتى لا يتمكن الاخرين من رؤيتها، خوفا من سرقتها، أو العبث بها من قبل الأخرين".
مع ضحكة صفراء أجبتها :" نحن نتعامل مع نسائنا، كما تتعاملين أنتي مع جوهرتك تلك، خوفاً عليها من إن تسرق من نظرات المجتمع، التي تنهش جسدك ألأن، وحتى لا يعبث بها الآخرين، نجعلها تحت مظلة الحجاب، كي تبقى خاصة لنفسها أو زوجها، أما أنتم تتعاملون مع المرأة، بأنها سلعة تباع وتشترى يومياً بالأسواق، عبر دكاكين الأجساد العارية، والشعور برغبة الهوى والعاطفة، دون إحترام لها ولقدسيتها ومكانتها، وضعت يدها على فمي، وقطعت حديثي بقولها( ما أعظمك من إسلام!).
مملكة من يدعون الثقافة والإنفتاح، لا تعدو لغة الشعارات الخاوية، التي تفتقر ألى الاستدلال واليقين، و قبل الغوص، في تفنيد تلك الشعارات، عبر متاريس حجج الإسلام، نعمل أولا الى تفنيد مصطلح (الثقافة)،وإرجاعه الى أصله الحقيقي، بمصطلح ( التفقه)، كالفقه الإسلامي أو الفقه السياسي أو الديني، ويخطئ الكثير ممن يستعمل كلمة الثقافة الإسلامية أو الدينية أو المجتمعية، حيث أن أغلب تلك المصطلحات والشعارات دخيلة ولا أصل لها مطلقاً، وجدت لضرب فصاحة القرأن وتعاليمه بسهام طيش عباد الطبيعة. |