صفحة الكاتب : محمد افليحي

التظاهر وعلاقته بالعنف
محمد افليحي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

  التظاهر هو نوع من أنواع الاحتجاجات المعبرة عن سلب حق من الحقوق لفرد معين أو لمجموعة من الأفراد، وهو لا ينشأ عن طريق العادة والتكرار أو عن طريق الصدفة، بل عن طريق العنف الممارس من طرف جهة معينة على الأفراد، وقد يكون هذا العنف إما ماديا يتمثل من خلال استعمال آليات العقاب الجسدي، أو معنويا يتجسد من خلال السب والشتم والنظرات الدونية وإصدار قرارات غير صائبة في حق مواطن من المواطنين، فالتظاهر هو بكيفية من الأحوال تعبير عن العنف المادي أو الرمزي الممارس قهرا. فكيف يمكننا الربط بين التظاهر والعنف؟ وما هي أنواع هذا العنف؟ وهل هو عنف مشروع أم غير مشروع؟

  لا مجال للحديث عن التظاهر من دون ربطه بالعنف، فجل الشعوب العربية اليوم نجد أن شعبها خرج من تقوقعه، إما احتجاجا عن العنف المادي الممارس من طرف دولة غربية على دولة عربية مثل: العنف الذي مارسته دولة إسرائيل على فلسطين، أو احتجاجا عن العنف الرمزي المتمثل في سوء الأوضاع الاقتصادية للبلاد وما خلفته هذه الأوضاع من بطالة وتهميش لذوي الشواهد العليا وما يقوم مقامها.

فالعنف دائما يتخذ في ظاهرة التظاهر أحد هذين النمطين اللذين تستنجد بهما جهة ما لحل أزمتها أو لزرع الرعب في مواطنيها، وقد عبر عنهما السوسيولوجي بيير بورديو من خلال كتاباته المختلفة، ففي كتابه: " أسباب عملية- إعادة النظر بالفلسفة - " يرى أن الدولة تتبنى العنف الجسدي والرمزي من أجل الحصول على امتيازات في هذا الحقل من الصراعات، يقول بورديو: " إن بناء احتكار الدولة للعنف البدني والرمزي هو صورة متلازمة مع بناء حقل الصراعات من أجل احتكار الامتيازات المرتبطة بهذا الحقل "، أما في كتابه: " العنف الرمزي " فقد رأى أن أي نشاط تربوي سواء كان مؤسساتيا أو عائليا، فهو نوع من أنواع العنف الرمزي القائم على عملية التمييز والعزل والانتقاء التعسفي، بوصفه مفروضا من قبل جهة تعسفية لتعسف ثقافي معين، ويقول في هذا الصدد: " إن أي نشاط تربوي هو موضوعيا نوع من أنواع العنف الرمزي، وذلك بوصفه فرضا من قبل جهة متعسفة لتعسف ثقافي معين ". بيد أنه علينا أن نتساءل، هل يعد هذا العنف شيئا مشروعا ووسيلة ناجعة لتدبير الشؤون العامة للمجتمع؟

هذا السؤال نجد تبريرا له لدى السوسيولوجي ماكس فيبر في كتابه: " رجل العلم ورجل السياسة "؛ إذ يعتبر فيه أن العنف حق مشروع للدولة، لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا بشرط خضوع الرعايا المسودين للسلطة التي يطالب بها الأسياد، حيث يقول: " إن الدولة، مثل كل التجمعات السياسية التي سبقتها تاريخيا، تكمن في علاقة سيادة للإنسان على الإنسان مبنية على وسيلة العنف المشروع "، ويقدم فيبر ثلاثة أسباب داخلية لتبرير هذه المشروعية، أولا المشروعية التقليدية: وهي التي تحتكم إلى سلطة العادات والتقاليد، حيث كان الكل ينصاع للشيخ نتيجة تراكم تجاربه. وبالدرجة الثانية المشروعية الكاريزمية: وهي التي تتمثل في الخضوع لشخص يتسم بامتلاكه مجموعة من الصفات والخصائص الخارقة، كالقوة والذكاء والنزاهة. ثم هناك أخيرا المشروعية العقلانية: المتمثلة في السلطة التي كان يمارسها خادم الدولة الحديثة وفق قواعد حكم عقلانية ومضبوطة، يقول فيبر أن: " هناك ثلاثة أسباب داخلية تبرر السيطرة، وبالتالي مناك ثلاثة أسس للشرعية. أولا نفوذ الأمس الأزلي، أي نفوذ التقاليد المقدسة بصلاحيتها العريقة وبعادة احترامها المتجذرة في الإنسان. هذه هي السلطة التقليدية التي كان البطريريك ( الشيخ ) أو السيد الإقطاعي يمارسها فيما مضى. وبالدرجة الثانية النفوذ المبني على السحر الشخصي والفائق للفرد، وهو يتميز بالتفاني الشخصي للرعايا تجاه قضية رجل وبثقتهم بشخصه فقط بمقدار ما يتفرد بصفات خارقة، بالبطولة أو بميزات أخرى مثالية تجعل منه زعيما. هذه هي السلطة الكاريزمية التي كان النبي يمارسها، أو الزعيم الحربي المنتخب أو الديماغوجي الكبير أو زعيم حزب سياسي. وهناك أخيرا السلطة التي تفرض نفسها بفضل الشرعية، بفضل الإيمان بصلاحية وضع شرعي وكفاءة إيجابية مبنية علة قواعد قائمة عقلانيا، بتعابير أخرى السلطة المبنية على الطاعة التي تؤدي الواجبات المطابقة للوضع القائم. هذه هي السلطة كما يمارسها خادم الدولة الحديثة، وكذلك كل الذين يمسكون بزمام السلطة والدين يقربون منه بهذا الخصوص ".

وليس ماكس فيبر هو الوحيد الذي ذهب في هذا الاتجاه الذي يعتبر أن العنف قادر على تنظيم وتسيير الحياة العامة وامتصاص عنفوان الرعايا، بل نجد عدة مفكرين وفلاسفة آخرين ذهبوا في نفس هذا الاتجاه، ومن بينهم الفيلسوف نيكولا ماكيافيل الذي يعتبر في كتابه: " الأمير " أن القانون وحده لا يكفي لتدبير شؤون المجتمع، لذلك وجب على الأمير الجمع بين القانون والقوة؛ إذ أن تطبيق الأمير للقانون يؤدي به إلى فقدانه لمنصبه، وبتعبير ماكيافيل: "إن القانون غير كافي لتحقيق الأهداف التي يصبو الأمير إلى تحقيقها، لذلك عليه أن يلجأ إلى القوة والبطش، وأن يعمل على استخدام كلتا الطريقتين معا، أي طريقتي الإنسان والحيوان"، فإذا أراد الأمير ألا يلحق الضرر بمصالحه، فعليه أن يعطي الوعود ولا يلتزم بها؛ إذ على: " الحاكم العاقل اللبيب المتبصر ألا يعمل على المحافظة عهوده ووعوده عندما يجد أن هذه المحافظة تؤدي إلى إلحاق الضرر بمصالحه، وأن الأسباب التي حملته على إعطاء هذه الوعود لم تعد قائمة "، ويجب عليه كذلك أن يتظاهر أمام الناس بالشفقة والرحمة والأخلاق الحميدة والتدين، ويتصف بعكسها، لأنه: " من الحكمة والفضيلة أن يتظاهر الأمير بالرحمة واللين والتدين، وأن يكون فعلا متصفا بها. ولكن عليه أن يعد نفسه ليكون متصفا بعكسها تماما "، ومصدر هذا كله حسب ماكيافيل، صفتين اثنتين، واحدة إنسانية والثانية حيوانية، فالأمير واجب عليه أن يكون ماكرا كالثعلب حتى يستطيع حماية نفسه من الأشراك التي تنصب له، وقويا كالأسد حتى يتمكن من مواجهة من يتربص به، يقول ماكيافيل: " في رأينا أن الأمير الذي يجد نفسه مجبرا على تعلم طريقة عمل الحيوان، عليه أن يقلد الثعلب والأسد معا، إذ أننا إذا نظرنا إلى الأسد نجد أنه لا يستطيع حماية نفسه من الشرك الذي نصب له. والثعلب يفشل في الدفاع عن نفسه أثناء مواجهة الذئاب، لذلك يحتم عليه أن يتصرف كالثعلب حتى يتمكن من تجنب الفخاخ. وكالأسد حتى يستطيع إرهاب الذئاب ".  

ولكن هذه التصورات في نظرنا نجدها مخالفة تماما لما يقع الآن في الدول العربية، فكل أشكل العنف حسب رينيه جيرار في كتابه: " العنف والمقدس " أضحت غير مقبولة وغير مشروعة، وأصبحت توصف اليوم باللاعقلانية، لأن العنف لا يولد إلا العنف، وكما يقول الفيلسوف جان جاك روسو في كتابه: " العقد الاجتماعي ": " إن القوة لا تخلق الحق "، وخير مثال على ذلك ما حدث مع رؤساء الدول العربية، ومن ببينهم الرئيس المصري محمد مرسي والرئيس الليبي معمر القذافي، حينما أرادوا مواجهة التظاهرات السلمية التي تعبر عن حرية التعبير بالعنف، فكانت النتيجة هي ثأر الشعب وانتقامه منهم، فعوض تهدئتهم لرغبة العنف واحتوائها، قاموا بإثارتها مما جعل التوازن يختل داخل المجتمع، وعندما يختل التوازن يصعب علاجه وإعادته إلى ما كان عليه حتى ولو كان هذا العلاج بالعنف، وهذا ما عبر عنه رينيه جيرار حينما قال: " إن آلية العنف، هي دائرة مفرغة ما إن تلجأ إليها الجماعة حتى تعجز عن الخروج منها "، فلا يمكن سلب الناس حريتهم وحقهم في التظاهر للتعبير عن رفضهم للعنف الرمزي الممارس عليهم والمتمثل في التمييز العنصري بين الطبقات الاجتماعية، والبطالة والتهميش في حق أصحاب الشواهد العليا المنتمين للطبقة الاجتماعية الكادحة. ولا يخفى علينا ما قاله الفيلسوف باروخ سبينوزا في كتابه: " رسالة في اللاهوت والسياسة " عن الحرية باعتبارها شرطا ضروريا لتقدم العلوم والفنون، وأي سلب لهذه الحرية يجعل الناس يفكرون بطريقة متعارضة مع قوانين الدولة، يقول سبينوزا: " إن الدولة التي تسلب الناس حريتهم وتقضي على استقلالهم بحيث لا يمكنهم التفوه بكلمة إلا بأمر منها، تجعلهم يفكرون على نحو متعارض مع قوانينها "، لأن الغاية التي تأسست عليها الدولة، ليست هي جعل الناس مجرد حيوانات أو آلات صماء، بل إتاحة الحرية لهم، يقول: " إن الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات أو آلات صماء، بل المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم لكي تقوم بوظائفها كاملة في آمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما حرا دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع وبحيث يتعاملون معا من دون ظلم أو إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة ".

  وخلاصة القول إن العنف ليس شيئا متعاليا عن ظاهرة التظاهر، بل هو محايث لها ويمارس من خلالها ليتفاقم وتزداد حدته شيئا فشيء.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد افليحي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/11/23



كتابة تعليق لموضوع : التظاهر وعلاقته بالعنف
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net