صفحة الكاتب : الشيخ مصطفى مصري العاملي

رقص دموي في العراق على حافة الهاوية
الشيخ مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

حبس العالم أنفاسه مع الأيام الأولى لهذا العام.. ماذا جرى بين أميركا وايران على ارض العراق ؟ ما خلفيته؟ ولماذا؟ والى اين ستصل الأمور؟

لكي نعرف مسار الأمور فإننا نحتاج لأن نقرأ في محطات التاريخ القريب على الأقل، ونفهم دور الأشخاص وصفات الافراد الذين يصنعون الاحداث او يؤثرون فيها، وهوما سنسلط الضوء عليه في عدد من المحطات.

المحطة الأولى : ( الحرب العالمية الثانية ونتائجها ) عانت البشرية من كارثة إنسانية لا مثيل لها في التاريخ تجسدت في الحرب العالمية الثانية والتي اندلعت في العام 1939 و التي راح ضحيتها قرابة 85 مليون انسان وفق بعض التقديرات معظمهم من المدنيين ، وقد استمرت هذه الحرب لمدة ست سنوات واستعملت فيها ولأول مرة القنابل الذرية فاحترقت مدينتا هيروشيما وناكازاكي في اليابان بالقنابل الذرية الأميركية، وانتهت بانتصار الحلفاء وعلى رأسهم اميريكا والاتحاد السوفيتي وهزيمة دول المحور وعلى رأسها ألمانيا واليابان.

في خضم تلك المعارك كانت انظار الدول المتصارعة تتجه نحو الدول التي تشكل موقعا مؤثرا في سير المعارك من الناحية الجغرافية او العسكرية، او الاقتصادية، وكانت انظار قوات الحلفاء تتجه نحو ايران وتتوجس خوفا من أن ينضم ملكها الشاه رضا بهلوي الى دول المحور بقيادة هتلر، فدخلت تلك القوات الى ايران اثناء الحرب وعزلت رضا شاه ونفته الى جنوب افريقيا، ونصبت ابنه محمد رضا بهلوي ملكا على ايران، وكان ذلك في العام 1941، فصارت ايران بما تمثله من موقعية جغرافية واقتصادية تدور في فلك الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، وخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وما تبعها من تنافس وصراعات.

المحطة الثانية: ( اسقاط الاميركيين لثورة مصدق ) بعد سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية والتي تكرس فيها الحكم المطلق لشاه ايران على البلاد، حصل ما يمكن تسميته بثورة دستورية عن طريق الانتخابات أوصلت الدكتور محمد مصدق زعيم الجبهة الوطنية الى منصب رئاسة الوزراء، الذي عمل على تحويل البلاد الى ملكية دستورية بدل الملكية المطلقة، وعمل على استقلال البلاد عن المحاور الأجنبية، وأممّ صناعة النفط الذي كانت تستثمره الشركات الاجنبية في ايران، ليصبح استثماره وطنيا، فتعرضت البلاد لحصار اقتصادي، ثم عملت المخابرات الأميركية على ترتيب انقلاب عسكري أطاح بحكومة مصدق وأعاد الشاه من منفاه الاختياري ليعود ممارسا لدكتاتورية قمعية، ويدخل عضوا مؤسسا في حلف بغداد ويعادي الحركات الثورية في العالم العربي، ويعترف بإسرائيل ويقيم معها علاقات دبلوماسية واقتصادية، ويصطدم بعلماء الدين، وتحصل مواجهات ويتم اعتقال الكثيرين منهم، ويتم نفي السيد الخميني من ايران،وبالتالي فإن هذا السلوك الأميركي قد ترك اثرا سلبيا تجاهها في ذاكرة الشعب الإيراني الرافض للدكتاتورية.   

 المحطة الثالثة: (أحلام ملك الملوك) قبل قرابة نصف قرن من الزمن وفي العام 1971 بالتحديد، أقام شاه ايران في ذاك الوقت محمد رضا بهلوي ( الذي اطلق على نفسه لقب شاهنشاه آريا مهر – أي ملك الملوك ) احتفالا اسطوريا عالمياً حضره العشرات من الملوك والرؤساء والامراء من شتى دول العالم، بمناسبة مرور 2500 سنة على تأسيس الامبراطورية الفارسية الكبرى على يد (قورش العظيم) وقد ارتدى الالاف من الجنود في استعراضهم الزي الأخميني، في استحضار لعظمة تلك الدولة التي امتد نفوذها التاريخي من نهر السند شرقا الى نهر النيل، وفي أوروبا حتى مقدونيا غربا، بحيث صرفت مئات ملايين الدولارات على هذه الاحتفالات التي لم يشهد العصر الحديث احتفالا مثيلا فيه هذا المستوى من البذخ.

فما هو الدور الأميركي في هذه المحطة؟  لقد كان الاميركيون يعتبرون ايران قاعدة متقدمة لنفوذهم في المنطقة وخاصة في مرحلة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، وكانوا في نفس الوقت يتمتعون بامتيازات وحصانات قل نضيرها، خاصة وانهم كانوا في ذلك يقبضون ثمن موقفهم السابق لذاك التاريخ عندما رتبوا انقلابا عسكريا أعاد شاه ايران من منفاه في أيام حكومة مصدق، بحيث تمكن من القضاء على معارضيه وممارسة شتى أنواع الشدة بمعونتهم فكان الدعم والغطاء الأميركي للشاه ولحكومته بلا حدود، بحيث مكنه من أن يعمل على تجسيد تلك الاحلام الأسطورية.

المحطة الرابعة: ( سقوط الحلم الكبير ) بعد بضع سنوات على ذاك التاريخ وفي أقل من عقد من السنين حصل ما لم يكن بالحسبان، فقد اندلعت في ايران ثورة شعبية عارمة في العام 1978 بعد أشهر من المظاهرات التي ابتدأت في العام 1977، مما أجبر الشاه على مغادرة بلاده مجددا في  مطلع العام 1979 تائها حائرا بعد أن بقي لعدة أيام يتوسل من أصدقائه في الدول الأوروبية إضافة الى اميركا أن يمنحه احد منها الفيزا لكي يستقر فيها مع افراد عائلته، متخليا عن عرش الطاووس، ولكن دون نتيجة، الى أن قبل باستضافته الرئيس المصري أنور السادات والذي سرعان ما استثقل استضافته، فغادر الشاه مصر الى المغرب العربي، التي لم يستطع مليكها الحسن الثاني أن يبقيه في ضيافته بعد أن صار منبوذا عالميا، فغادر المغرب رغم مرضه بهدف الاستشفاء متنقلا من مكان الى آخر حتى سمحت له اميركا بالدخول الي قاعدة عسكرية في اراضيها بداعي العلاج بعد أن ساءت حالته الصحية كثيرا، ولكن سرعان ما طلبت منه مغادرتها بعد أسبوعين من استقباله نتيجة لاحتلال السفارة الأميركية في طهران من قبل الطلاب الثائرين السائرين على نهج الامام الخميني (وفق التسمية التي اطلقوها على انفسهم) وأخذهم لـ 52 رهينة أميركية لمدة 444 يوما، مطالبين اميركا بتسليم الشاه، فتنقل من مكان الى مكان بعد أن أقفلت في وجهه الابواب قبل ان يعود الى مصر (بعيد توقيع رئيسها أنور السادات لاتفاقية كامب دايفيد مع بيغن، بحضور الرئيس الأميركي كارتر)  ليمضي فيها بضعة أشهر قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في شهر تموز من العام 1980.

فكيف نقرأ الدور الأميركي في هذه المحطة؟ لقد عملت اميركا على مراعاة مصالحها فتناغمت الى حد ما مع الزخم الذي ولدته الثورة في مراحلها الاولى برفضها استقبال الشاه، ثم بالإيعاز اليه لمغادرة اميركا بعد احتلال سفارتها، في رسالة أرادت أن توحي من خلالها برغبتها في التقرب من الثورة، وهو ما عبر عنه شاه ايران في تلك المرحلة بالقول ان الاميركيين رموه كالفأر، ولكن هذه المحاولة من الاميركيين لم تثمر إذ لم يكن قد غاب عن  ذاكرة الإيرانيين الدور الأميركي في إسقاط حكومة مصدق مما دفعهم الى مزيد من التشدد بعد أن تحولت اميركا بنظر الإيرانيين الى مرتبة العدو الأول بنيلها صفة الشيطان الأكبر، وأصبح هتاف (فلتسقط أمريكا) والذي يترجم أحيانا بعبارة (الموت لأمريكا) هو الهتاف الذي يردده الإيرانيون بعد كل صلاة جماعة وعند كل خطاب حماسي ولأي مناسبة كانت خاصة بعد سلسلة من المواقف السلبية اللاحقة التي ازداد فيها العداء نحو اميركا، لقد فقد الاميركيون حليفهم ولم يربحوا الثورة.

المحطة الخامسة: ( نهاية عرش الطاووس ) بعد أيام من مغادرة الشاه لطهران في منتصف كانون الثاني عاد اليها السيد الخميني واعلنت الثورة انتصارها في شهر شباط من العام 1979، وتسارعت الاحداث والتطورات فتبدل النظام الملكي الشاهنشاهي الى جمهوري اسلامي، وكانت نهاية لعرش الطاووس، وانقلبت الثورة على الإرث الأخميني الذي أراد الشاه تثبيته في البلاد من خلال اعتماده التقويم الذي يرمز الى تلك الحقبة الفارسية القديمة من حكم الامبراطور قورش، كما انقلبت ايران على موقعها السياسي في المنطقة الذي كان داعما لإسرائيل و ابرز معالم ذاك الدعم تجسد بتزويدها بالنفط اثناء حرب تشرين في العام 1973، فقامت الثورة بتحويل سفارة إسرائيل في طهران الى سفارة لفلسطين، في دليل على التحول السياسي الكبير.

وكان من أولى الخطوات التي نفذتها هي الغاء التقويم الفارسي الأخميني من الاستعمال الرسمي، واعتماد التاريخ الهجري الشمسي، فكأنها اقتلعت ألف الدولة الاخمينية الفارسية التي حاول الشاه بناءها، لتصير ايران في رحاب الدولة الإسلامية خمينية بدل الاخمينية، وتتم السيطرة على مبنى السفارة الأميركية

فماذا فعلت اميركا في تلك المرحلة ؟ بعد احتجاز 52 رهينة من سفارتها والذي استمر لمدة 444 يوما، فشلت في اطلاق سراحهم من خلال المساعي السياسية  وفشلت في محاولة انقاذهم المباشر من خلال عملية طبس الفاشلة، ، وسرعان ما أعلنت عداءها للثورة بتشجيع جماعات في داخل ايران على القيام بحالات تمرد على خلفيات قومية وعرقية، وبتنفيذ سلسلة من الاغتيالات لقيادات في الثورة، وبدعم لصدام حسين في الحرب التي شنها ضد ايران والتي كان من المتوقع ان تؤدي كل تلك الأمور الى سقوط النظام الجديد ولكن الحرب استمرت ثمان سنوات بدعم ومساندة أميركية لصدام لتحصد تلك الحرب اكثر من مليون ضحية من الطرفين، فلم يتحقق الغرض وازداد العداء بين الطرفين.

المحطة السادسة: ( التحولات السياسية الكبرى ) مع انتهاء الحربة العراقية الإيرانية في العام 1988، فقد شهدت المنطقة سلسلة من  الاضطرابات والتحولات السياسية الكبرى التي ترافقت مع رحيل السيد الخميني، وكانت بدايتها مع قرار مغادرة السوفييت لأفغانستان وما تلى ذلك من اندلاع للحرب الداخلية الأفغانية، وصولا الى انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991، الذي أدى الى بروز محور القطب الواحد في العالم الذي تمثله اميركا، ومع استمرار صراع الاخوة الأعداء في أفغانستان كان صعود نجم طالبان وسيطرتها على البلاد مع اعلانها البلاد أمارة إسلامية قبل أفول نجمها بعد التدخل الأميركي في العام 2001، وصولا الى اسقاط نظام صدام حسين في العراق في العام 2003 وما تلاه من تحولات كبرى في العراق، بحيث تلاقت المصالح الأميركية الإيرانية مع بعضها حينا في التخلص من طالبان وصدام، واختلفت حينا آخر على ملفات كثيرة، وابتدأت المفاوضات المضنية الطويلة حول الملف النووي مع ايران والتي استمرت 12 سنة وصولا الى انجاز اتفاق اعتبر تاريخيا بين ايران وأميركا في عهد اوباما من خلال مجموعة خمسة ( الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن) زائد ( المانيا) وبعد أن بدأت الأمور تسير نحو نوع من التقارب حول القضايا الإقليمية بقيت قضية مركزية عالقة وهي ما يرتبط بالقضية الفلسطينية، واذ بعقلية راعي البقر (الكاوبوي) الأميركي التي اشتهرت في الأفلام والمسلسلات تظهر على مسرح الاحداث السياسية في العالم من خلال وصول دونالد ترامب الى سدة الرئاسة الأميركية و الذي أعاد خلط الأوراق من جديد بإلغائه الاتفاق النووي وما تبع ذلك من إعادة للعقوبات الاقتصادية، مما أعاد العلاقات الأميركية الإيرانية الى مرحلة الاضطراب الأولى التي حصلت مع انتصار الثورة قبل أربعة عقود من الزمن.

فكيف نقيم السلوك الأميركي ؟ يظهر من هذه المرحلة أن السلوك الأميركي قد اتجه نحو شيء من العقلانية من خلال التعاطي مع الملف الإيراني بشيء من الموضوعية وصولا الى ما سمي بالاتفاق التاريخي، ولكن سرعان ما تبدلت الأمور بحيث وصلت الى الرقص على حافة الهاوية وهو ما حصل في المواجهة الأخيرة في الأيام الماضية على أرض العراق.

المحطة السابعة: ( المواجهة في العراق ) شكل العراق في العقد الأخير محطة فارقة في العلاقات الأميركية الايرانية، وساحة للالتقاء والافتراق، فهو يمثل لكل منهما موقعا متقدما مهما في دائرة المصالح والنفوذ، وكما قال السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الأسبق عن نفسه في حديث مع قناة الميادين بأنه يمثل نقطة التقاء المصالح الأميركية الإيرانية في العراق،

فإن الاختلاف على تلك المصالح والاهداف شكل أرضية لتلك المواجهة الأخيرة ( بغض النظر عن خلفيات وأهداف كل طرف منهما)  

وبما أن مرحلة التوافقات التي سادت تلك العلاقة في نهاية عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ( الذي وقّع على قرار مغادرة العراق، ووقّع على الاتفاق النووي مع ايران)، قد انتهى مفعولها بوصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب الى الحكم والذي انقلب على كل التفاهمات السابقة مع سلفه والاتفاقات الموقعة عندما أعلن خروج اميركا من الاتفاق النووي من جانب واحد وشرع في فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على ايران، مما أدى الى توتر في العلاقة معها، وفي نفس الوقت كان يتعامل باستخفاف مع القيادة العراقية كزيارته للقاعدة العسكرية الأميركية وطلبه من المسؤولين ملاقاته هناك، وهو ما لم يحصل، وبالتالي فقد تسارعت في العام المنصرم وتيرة الرسائل الساخنة المتبادلة بين الطرفين في ظل فشل مبادرات الوسطاء المتعددين، بحيث توسعت تلك الرسائل في اكثر من اتجاه سواء ما كان منها مباشرا أو غير مباشر، من عملية اسقاط الطائرة الأميركية فوق المياه الإيرانية، الى قصف اليمنيين لمصفاة أرامكو في السعودية، التي وضعت في خانة الرسائل الإيرانية، مرورا بالتفجيرات التي استهدفت ناقلات النفط في الخليج، والاحتجاز المتبادل لبعض الناقلات ، وقد تحول العراق في ظل هذه الاجواء الى ساحة احتكاك مباشر، وبشكل متوتر اكثر مما كانت عليه الأمور قبل الاتفاقيات المبرمة مع الإدارة السابقة.

ورغم ان القوات الأميركية كانت قد غادرت العراق رسميا في العام 2011 التزاما باتفاق انهاء الاحتلال، الا أنها سرعان ما عادت من نافذة مواجهة داعش، وبعد تحقيق العراقيين لانتصارات غير متوقعة على داعش بمساعدة من الإيرانيين والأميركيين، كان من اللافت حصول ضربات مجهولة المصدر لمواقع القوات العراقية تصب في خدمة داعش، وكانت أصابع الاتهام توجه الى الاميركيين تارة والى الإسرائيليين طورا آخر دون أن يتبنى ذلك أحد رسميا، سوى ما ذكره مؤخرا رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي من ان الاميركيين سبق وأخبروه بأن عمليات القصف السابقة التي استهدفت مواقع عسكرية للحشد الشعبي كانت بواسطة الإسرائيليين.

 ومع عودة التوتر الى العلاقات الأميركية الإيرانية فقد صار واضحا أن هناك استثمارا ترعاه الولايات المتحدة الأميركية داخل المجتمع العراقي، ضد ما تعتبره نفوذا إيرانيا، فغدا العراق ساحة للتجاذبات استطاعت خلالها الإدارة الأميركية من اختراق البيئة الشيعية في العراق وأثرت بها بشكل غير مسبوق، مستفيدة من حالة التذمر الكبيرة في المجتمع المثخن بالجراح من سوء الأداء الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي لبعض الطبقة السياسية الحاكمة بشتى الوانها، فتمكنت من استغلال حالة الغضب هذه وتوجيهها نحو ايران مستفيدة من سلوكيات خاطئة كانت تمارسها تيارات وأحزاب وجماعات، وكانت هناك رسائل قاسية جدا ابرزها حرق القنصلية الإيرانية في النجف الاشرف لعدة مرات، ومحاولة حرقها في كربلاء والهتافات العدائية المفاجئة ضد ايران في بعض المظاهرات الشعبية.

 وهذا ما أوهم ترامب بأنه صار المؤثر الأقوى في الجمهور العراقي بعد سلسلة التطورات الشعبية الأخيرة، وبأنه صار بإمكانه ان يقلب الطاولة ويحقق نصرا على ايران فيخرجها من هذا البلد أو يحد من نفوذها الى أقصى حد، ليجبرها على العودة الى مفاوضات جديدة وفق برنامجه، خاصة بعد أن عجز عن التأثير الكبير عليها داخل الساحة الإيرانية من خلال الضغط الاقتصادي الكبير وخروج المظاهرات، فكان الخروج الاميركي عن الخطوط الحمر المرسومة في  سلسلة احداث الأسابيع الأخيرة والتي أدت الى هذا التصعيد الخطير في أساليب المواجهة المكشوفة.

فمن الذي انتصر في هذه المواجهة؟ ولمن كانت الغلبة؟ وماذا حقق كل طرف؟

يمكننا في البداية تشبيه ما حصل بين الاميركيين والإيرانيين بأنه يشبه مباراة ساخنة جرت على الملعب العراقي بين فريقين متنافسين متعاديين يهدفان الى تحقيق الانتصار الحاسم مهما كان الثمن، وقد انتهى الوقت الأصلي والإضافي لتلك المباراة، فلجأ الفريقان الى ركلات الترجيح الحاسمة، التي تبادلها الطرفان كلٌ على طريقته مزهوا بفائض القوة التي يشعر بها ويملكها، مما أوقع الاميركيين نتيجة الاستهتار الناتج عن ارتفاع نسبة الغرور في مأزق كبير لم يحسنوا حسابه.

هذا المأزق الأميركي الكبير الناتج عن سلسلة احداث الأيام الماضية يفوق المأزق الذي وقعت به الإدارة الإسرائيلية في العام 1982 عند احتلالها لجنوب لبنان، ومما لا شك فيه أن هذا المأزق سيرخي بظلاله على مجريات الاحداث داخل المجتمع الاميركي خاصة مع احتدام الصراع الدائر حاليا بين الديمقراطيين من جهة الذين يعملون على إسقاط الرئيس ترامب من خلال إجراءات عزله ومحاكمته عبر الكونغرس الذي يملكون فيه الاغلبية، وبين ترامب الطامح بالعودة نهاية العام لسدة الرئاسة مرة ثانية، على حصان ابيض كما يتصور ويسعى، مستندا على دعم الجمهوريين الذين يملكون الأغلبية في مجلس الشيوخ،

وهذا الطموح لدى ترامب قد تجسد منذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض عندما قدم ورقة ترشيحه للانتخابات القادمة التي ستجري نهاية هذا العام خلافا لكل ما كان متعارفا عليه بين رؤساء اميركا من انتظارهم الى السنة الأخيرة لتقديم ترشيحهم.

ولو رجعنا الى مسلسل الضربات المتبادلة لوجدنا أن ترامب قد استفاد من ضربة لإحدى القواعد العسكرية في شمال العراق في منطقة كركوك حيث يتواجد فيها قوات أميركية مدعيا مقتل أميركي من اصل عراقي، ليبرر ردة فعله وليخرج على قواعد الاشتباك في النزاع القائم، فيوجه ضربة علنية لفصائل من القوات العراقية المرابطة على الحدود العراقية السورية تنتسب الى الحشد الشعبي، فيقتل عددا كبيرا ويجرح آخرين ويتبنى ذلك علنا، ظنا منه بأن ذلك يقوي موقفه ويسجل في رصيده هدفا ثمينا يستثمره في سعيه لإعلان فوزه في تلك المواجهة، فتتغير بذلك قواعد الاشتباك المستقبلي كما صرح يومها مسؤول إسرائيلي قائلا بأن المعادلة التي كانت قائمة قد تبدلت.

وجاء الرد الاول بوصول المتظاهرين العراقيين الى السفارة الأميركية في بغداد وحرق بعض أبوابها اثناء تشييع شهداء ذاك القصف وتنديدهم بل وتهديدهم بعواقب ما جرى، وكان من رسائل الرد تلك ما ظهر على احد أبواب السفارة الذي احترق من شعارت مستفزة للأميركيين، كعبارة ( سليماني قائدي).

ولم تقتصر تداعيات هذا الرد على الساحة الإقليمية المحلية بل تعداها الى داخل اميركا حيث تم  استثمار ذلك من قبل خصوم ترامب الذين سخروا منه بالقول: إن أكبر واعظم سفارة لأميركا في العالم هي تلك الموجودة في العراق ورغم وجود الآف الجنود في ذاك البلد بعد صرف مليارات الدولارات على تجهيزها فقد كانت بحاجة لحماية من الجنود العراقيين استجداها ترامب من رئيس الوزراء المستقيل كي يحمي السفارة التي لم يغادر مداخلها المتظاهرون الا بعد طلب وإلحاح من رئيس الوزراء العراقي المستقيل، وهذا اظهر مدى الضعف الأميركي والاستهانة به وبقواته.

بعد هذه الصفعة التي تلقاها ترامب يبدوا أن فكرة أفلام الكاوبوي هي التي طغت على فكر الرئيس الأميركي فكان قرار الاغتيال على هذه الطريقة من خلال القصف الذي استهدف قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الفريق سليماني، والذي يحمل صفة مستشار عسكري للحكومة العراقية  منذ مرحلة مواجهتها لداعش، إضافة الى نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، وكان التباهي الاميركي بتلك العملية من خلال نشر صور لتنفيذها، مما يعني خروجا عن كل ما هو مألوف.

كانت هذه هي الخطوة الثانية من خطوات الرقص على حافة الهاوية، والتي خرج فيها الأميركي على كل الضوابط والخطوط التي تحكم الصراع، وحبس العالم أنفاسه، هل سينجر الى حرب لا أحد يعرف كيف ستكون نهايتها، أم سيتم ضبط إيقاع الردود، فكان الرد من شقين: احدهما في قرار مجلس النواب العراقي الذي صوت على خروج القوات الأميركية من العراق، وثانيهما : القصف الإيراني للقواعد الأميركية في العراق، والذي جعل الأميركي يبتلع الضربة ويخفف من وقعها لكي لا تتدحرج الأمور، وراح بعد ذلك يفصح شيئا فشيئا عن الاضرار والخسائر.

لقد بدأت المواجهة المكشوفة التي نستطيع القول انها أسست لمرحلة جديدة تحمّل فيها الأميركي الضربة الإيرانية الأخيرة من دون رد، وهو الحدث الأول الذي يحصل على هذا النحو منذ الحرب العالمية الثانية، إذ لم يسبق أن تعرضت مواقع عسكرية أمريكية لقصف معاد من مكان معلوم دون ان يحصل الرد، فكان الأثر المعنوي مع دقة الإصابات ونوعها اكبر بكثير من ارقام ضحايا ربما تسقط هنا وهناك.

والخسارة الأكبر التي طاولت الاميركيين نتيجة لسوء تقديرهم مقارنة بما انجزوه هي أنهم تمكنوا من قتل فرد او اثنين ممن لهم موقعهم الكبير والمؤثر والذي تجلى في مسيرات تشييعهم في العراق وايران في اكثر من مكان، إلا أنهم خسروا مشروعا كبيرا بذلوا من أجله الدماء، لقد خسروا شيعة العراق، بل خسروا العراق فلن يبق وجودهم في العراق بعد ذلك كما كان من قبل ، و صدق الله العظيم حين يقول:   وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ..

  وللحديث تتمة ..  


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/01/21



كتابة تعليق لموضوع : رقص دموي في العراق على حافة الهاوية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net