صفحة الكاتب : عبد الناصر السهلاني

التسليم للمعصوم لا محاسبته
عبد الناصر السهلاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

ماذكره السيد كمال الحيدري في شان (محاسبة المعصوم) يعد من الضعف العلمي المفجع بطريقة استدلاله وعرضه ولغته، فلنطالع نصاً مما ذكره الحيدري ببدعته هذه، ثم نذكر الرد العلمي عليه:

 

🔶 نص ما ذكره السيد كمال الحيدري في درسه المعنون: (تعارض الادلة 126) ابتداءً من الدقيقة (31) الى الدقيقة (33) :

"ولذا أمير المؤمنين سلام الله عليه الخطبة المهمة في الخطبة 216 من نهج البلاغة خطبها بصفين قال أمّا بعد فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقا بولاية أمركم ولكم عليّ من الحق مثل الذي لي عليكم فإذاً لا يتصور أن المرجع الديني والله فقط عنده ولاية على الأمة لا إن لم يكن حق الأمة عليه أكثر من حقه على الأمة فليس بأقل من ذلك فإذاً لا يطالب فقط الأمة لماذا لا تستجيب هو لا يستجب لهم هو الذي لا يقوم بحقوق الأمة ولهذا تستطيع الأمة أن تحاسب المرجع قبل ان يحاسب المرجع الأمة ولهذا قال ولكم عليّ من الحق مثل الذي لي عليكم مساوي إمام معصوم يقول نعم وإن كنت معصوماً إذا قصرت من حقكم أن تحاسبوا الإمام المعصوم ولا أقل أن تسألوه لماذا فعلت بنا هذا لماذا سكت هنا ولماذا صالحت هنا ولماذا دخلت إلى بيتك هنا ولماذا كنت كالأموات هنا لابد أن نعرف السبب ولماذا تحركت هنا…"


 

🔶 الرد

في هذا المقطع يصرح السيد الحيدري بما لا يقبل اللبس والتأويل بجواز بل وبجعل الحق للمكلف كاملا بان يحاسب الامام المعصوم، بما تعنيه الكلمة من المحاسبة، وقوله: (ولا اقل ان تسألوه) تنزل لا يعتقد به السيد الحيدري، بل الاصل عنده هو المحاسبة، وامثلته ونبرة صوته قد اكدت مراده بكل وضوح بخصوص المحاسبة، وكيف تكون.

كلامنا مع السيد الحيدري ليس في الجانب الاخلاقي في الموضوع، بل كلامنا هو علمي محض نقسمه الى ثلاثة اقسام سنتناولها بالتوضيح وبعدد من الشواهد :

القسم الاول: في تفنيد مستنده الخاص الذي انطلق منه.

القسم الثاني: في بيان المحذور العقلي .

القسم الثالث: استدلال نقلي على بطلان المحاسبة .


 

🔷 القسم الاول:

تفنيد مستند السيد كمال الحيدري في جواز محاسبة المعصوم :

استدل السيد الحيدري بكلام للامام امير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة، الخطبة 216(على بعض النسخ) والتي خطبها (عليه السلام) في صفين. ومحل الشاهد فيها هو: " أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ ..." فهذا النص هو دليله على المحاسبة .

وفيه :

١- ان النص ليس فيه تصريح بالمحاسبة، واستشفاف المحاسبة منه غير مسلَّم، فهو مجرد احتمال في احسن حالاته ؟!!

٢- تأكيداً للنقطة الاولى، يوجد نص لامير المؤمنين (عليه السلام) في نهاية الخطبة رقم 33 يوضح بشكل صريح ماهو الحق الذي عليه وماهو الحق الذي له، وابتدأ بالحق الذي عليه فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا"

ففي هذا النص يذكر الامام (عليه السلام) اربعة حقوق، وليس فيها (حق) المحاسبة، بل ولا يستشف منها شي من هذا القبيل، لان الامام يفترض نفسه، مؤدٍ لتلك الحقوق عندما يذكرها، كما سيتضح ذلك من خلال حقه عليهم بالطاعة له، حيث قال بعد كلامه الاول: "وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ وَالْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ." فلو كانت هناك وصية بالمحاسبة، لما اطلق الاجابة حين الدعوة، ولا الطاعة حين الأمر. فابتكار مسالة المحاسبة فيها تكلف لا شاهد عليه، فمثلا اذا قال الوالد لولده ان لك حق علي في التربية والانفاق والنصيحة ... فهل يستبطن هذا الكلام انه يقول لولده حاسبني ؟!!! كلا وانما سياق الكلام عندما يخرج من الوالد يريد ان يعرف الولد بانه قائم بحقوقه التي يعددها.

٣- ومن الشواهد على تأييد ماجاء في النقطة السابقة، هو شرح الشيخ محمد صالح المازندراني لعبارة الامام التي استشهد بها السيد الحيدري، حيث وردت هذه الخطبة مع تغير في بعض الفاظها في كتاب الكافي الذي شرحه الشيخ المازندراني حيث قال في الشرح: "- ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم - المراد المماثلة في جنس الحق وإن كان الحقان متغايرين في النوع لأن حقنا عليه الأمر والإرشاد وحقه علينا الإطاعة والانقياد" وقال في شرح عبارة اخرى: "- لا يجرى لأحد إلا جرى عليه ولا يجري عليه إن جرى له - أشار بالحصر الأول إلى أن كون الحق لأحد لا يفارق من كونه عليه، وبالحصر الثاني إلى عكس ذلك ليفيد التلازم بين الحقين تسكينا لنفوسهم بذكر الحق لهم وتوطينا لها على الوفاء به إذ هو لا يترك حقهم فيجب أن لا يتركوا حقه"(1) والكلام واضح جدا في بعده عن موضوع المحاسبة بل يؤكد فهم الطاعة الانقياد، ولا يحتاج الى تعليق.

٤-لو غضضنا الطرف عن النقاط السابقة، وقلنا ان مقصوده (عليه السلام) هو (لكم الحق بمحاسبتي)، فنسأل هذا السؤال:

هل قالها (عليه السلام) من حيثية العصمة، وانه امام منصوب من قبل الله تعالى، ام قالها من حيثية انه حاكم عليهم مثله كمثل من سبقه من الحكام ؟ فهذان احتمالان .

والصحيح هو الثاني للكم الكبير من الشواهد والاحداث التي تؤكده بما لا مجال للشك فيه، فان القوم المخاطبين هم جيش الامام في صفين، وهو جيش من اهل الكوفة في غالبه ان لم يكن كله، ومن المعلوم ان شعب الكوفة في ذلك الوقت لم يكن غالبيته شيعية تؤمن بعصمة الامام عليه السلام ومرجعيته في الدين وان له ما لرسول الله (صلى الله عليه واله) بلا فرق، وان طاعته طاعة لله ورسوله، لم يكونوا يؤمنوا بذلك، ويوجد شواهد كثيرة على هذا الامر منها:

*ماذكره الشيخ الطوسي من رواية الامام الصادق (عليه السلام) قوله: "لما قدم أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة أمر الحسن بن علي أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في الناس الحسن بن علي بما أمره به أمير المؤمنين، فلّما سمع الناس مقالة الحسن بن علي(عليه السلام) صاحوا: واعمراه، واعمراه ! فلّما رجع الحسن إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له: ماهذا الصوت ؟ ـ قال ـ: يا أمير المؤمنين، الناسُ يصيحون: واعمراه، واعمراه ـ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ: قل لهم: صلّوا"(2)


 

*ماذكره الشيخ الكليني من خطبة لامير المؤمنين (عليه السلام) قوله: "قَدْ عَمِلَتِ الْوُلَاةُ قَبْلِي أَعْمَالًا خَالَفُوا فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ ص مُتَعَمِّدِينَ لِخِلَافِهِ نَاقِضِينَ لِعَهْدِهِ مُغَيِّرِينِ لِسُنَّتِهِ ولَوْ حَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا وحَوَّلْتُهَا إِلَى مَوَاضِعِهَا وإِلَى مَا كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (ص) لَتَفَرَّقَ عَنِّي جُنْدِي حَتَّى أَبْقَى وَحْدِي أَوْ قَلِيلٌ مِنْ شِيعَتِيَ الَّذِينَ عَرَفُوا فَضْلِي وفَرْضَ إِمَامَتِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (ص)... واللَّهِ لَقَدْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ لَا يَجْتَمِعُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا فِي‏ فَرِيضَةٍ وأَعْلَمْتُهُمْ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي النَّوَافِلِ بِدْعَةٌ فَتَنَادَى بَعْضُ أَهْلِ عَسْكَرِي مِمَّنْ يُقَاتِلُ مَعِي يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ غُيِّرَتْ سُنَّةُ عُمَرَ يَنْهَانَا عَنِ الصَّلَاةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَطَوُّعاً ولَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَثُورُوا فِي نَاحِيَةِ جَانِبِ عَسْكَرِي"(3)

* خطاباته (عليه السلام) لاهل الكوفة التي لا يمكن معها ان يكون الامام مخاطبا لهم من حيثية مقام العصمة، فمثلا قوله (عليه السلام): "أَمَا وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَاراً وَلَكِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ سَوْقاً وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلِيٌّ يَكْذِبُ قَاتَلَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ أَ عَلَى اللَّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ كَلَّا وَاللَّهِ لَكِنَّهَا لَهْجَةٌ غِبْتُمْ عَنْهَا وَلَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا"(4)

وهناك شواهد كثيرة جدا في نهج البلاغة وغيره من المصادر وذكرها يستدعي التطويل لذا اكتفي بهذا المقدار.

اذن فهل يمكن ان نتصور ان هؤلاء القوم الذين تارة يلتزمون بدعة عمر ويدافعون عنها وتارة يتهمون الامام بالكذب (حاشاه) ان يستوعبوا او يصدقوا بعصمته فيخاطبهم(عليه السلام) من مقامها؟!!!

بل من الواضح ان الامام (عليه السلام) في فترة حكمه القليلة كان في نظر الغالبية من المسلمين انه خليفة كبقية (الخلفاء) الذين سبقوه، جاء ببيعة الناس له، فلا عصمة له في نظرهم، الا الخواص من شيعته كانوا يعرفون هذا الامر، وهو (عليه السلام) كان مدركا لذلك، وكانت خطاباته مع الرعية على هذا الاساس لكي يقيم الحجة عليهم حتى من موقع كونه حاكما غير معصوم (كما ينظرون اليه) ولعل كتبه الى معاوية من اوضح مصاديق اقامة الحجة من هذا الموقع ففي كتاب له يخاطب فيه معاوية: "إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَعُثْمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وَإنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالاْنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُل وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لله رِضىً، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْن أَوْبِدْعَة رَدُّوهُ إِلَى مَاخَرَجَ منه، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلاَّهُ اللهُ مَا تَوَلَّى"(5)

اذن من مجموع ما تم ذكره في هذا القسم يتبين بان الاستدلال بكلام الامام (عليه السلام) على ترسيخ مبدأ (محاسبة المعصوم) في غاية الوهن والضعف، من جهتين: الاولى: عدم استشفاف معنى المحاسبة ظاهرا، والثانية: ان الامام (عليه السلام) لم يكن يخاطب القوم من حيثية العصمة لعدم ايمانهم بذلك .


 

🔷 القسم الثاني:

بيان المحذور العقلي:

نسأل أولاً: صفة المعصوم ماذا تعني؟

القدر الذي عليه الاتفاق هو ان المعصوم لا يتعمد ارتكاب الخطأ او المعصية، وغالب علماء الامامية يدرجون تحت العصمة ايضاً عدم السهو والتوهم، وكل امر من شأنه ان يوقع المعصوم في الخطأ، وشذ بعض منهم في تجويز السهو بعد تدخل من الله تعالى، معبرين عنه بالاسهاء.

ونسأل ثانياً: المحاسبة لمن ؟

المعروف عند العقلاء ان المحاسبة تصح عند احتمال او تصور ارتكاب الخطأ او المعصية من شخص معين، فاما ان يثبت الارتكاب بعد تلك المحاسبة فيعاقب المرتكب (على التفصيل بين العامد المختار وغيره من المضطر مثلا في القوانين الوضعية)، او لا يثبت فلا عقاب.


 

بعد ان عرفنا بصورة مبسطة جواب السؤالين االسابقين، كيف لنا ان نتصور اجتماع المحاسبة مع المعصوم، او قل كيف لنا ان نتصور امكانية (فضلا عن الوقوع) محاسبة المعصوم من حيث انه معصوم ؟!!!

وهل هذا الا اجتماع للنقيضين !!

فمن جهة: هو لا يتصور بحقه ارتكاب الخطأ او المعصية، فالمعصوم ليس بمخطئ.

ومن جهة: ان المحاسبة تتعلق بالذي يتصور منه الخطأ.

يعني بالامكان ان نرى شخص المعصوم في آن واحد، في حادثة واحدة، انه مخطئ، ولا مخطئ !!!

وهل يقبل العقل هذا التناقض الصارخ ؟!!!

ولا اعتقد بأن المقام يستحق اكثر من هذا التنبيه والتذكير الذي يدركه كل عاقل.


 

🔷 القسم الثالث:

الاستدلال النقلي على بطلان المحاسبة:

الضد من المحاسبة المقصودة في كلام السيد الحيدري هو التسليم، والتسليم لهم (عليهم السلام) بدءاً بالنبي الاعظم، وانتهاءاً بالقائم المعظم، لهو من الامر المحكم في نهج طائفة الحق بعد ان نطق بذلك الوحي المبين على لسان سيد المرسلين وبتأكيد من الائمة الميامين صلوات الله تعالى وسلامه عليهم اجمعين.

فقد ازدحمت الاحاديث الشريفة الواردة عنهم (عليهم السلام) في ذكر هذا المعنى بشتى التعابير، ونحن ذاكرون من حقولها في هذا القسم رياحين تفي بدحض بدع الجاهلين ، والبداية دوماً بالذكر المبين، حيث قال رب العالمين:

"فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"(6)

واما ماورد عن المعصومين (عليهم السلام) فقد عقدت له ابواب في مصادر الشيعة الامامية كما في (الكافي) و (بصائر الدرجات) وغيرهما، والروايات في ذلك مستفيضة بل متواترة، نذكر منها:

ما جاء بسند معتبر عن الامام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) حيث قال:

"لَوْ أَنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وأَقَامُوا الصَّلَاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ وحَجُّوا الْبَيْتَ وصَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ ثُمَّ قَالُوا لِشَيْ‏ءٍ صَنَعَهُ اللَّهُ أَوْ صَنَعَهُ النَّبِيُّ(ص): أَلَّا صَنَعَ خِلَافَ الَّذِي صَنَعَ، أَوْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة: (فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه(ع): فَعَلَيْكُمْ بِالتَّسْلِيمِ."(7)

هكذا يؤكد لنا الامام الصادق(عليه السلام) مسألة التسليم لله تعالى وحججه، بعد ان ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز، وذكرها كذلك آباؤه الطاهرون(عليهم السلام)، فالتسليم يكون بكل ماجاء من عند الله عبر النبي والاوصياء من عترته (صلوات الله تعالى عليهم اجمعين).

وهذا النص يبين بوضوح خطورة هذا الموضوع، حيث يؤكد الامام(عليه السلام) بصراحة ان الافعال العبادية مهما التزم بها المكلف مالم يرافقها التسليم التام لأي شيء آخر ثبت انه من الدين، وانه من الله تعالى ونبيه، فان تلك العبادات لن تنفع بشيء، وينزل صاحبها منزلة المشرك، اذ كيف يتصور عابد لله مقر بحقيقة العبودية ثم يعترض على مولاه ولا يسلم له، فكيف يكون مسلماً ؟!!!

والملفت للنظر ان الآية الشريفة تعتبر حتى الحرج النفسي الداخلي مضراً بايمان الشخص وانه غير لائق، فضلا عن ابراز ذلك الحرج الى الخارج وبيانه بالقول او الفعل.


 

وفي بيان آخر حديٌّ للصادق(عليه السلام) في وصيته المهمة لشيعته يؤكد فيه ان مقوم الاسلام هو التسليم، حيث قال:

"واعْلَمُوا أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ التَّسْلِيمُ، والتَّسْلِيمَ هُوَ الْإِسْلَامُ، فَمَنْ سَلَّمَ فَقَدْ أَسْلَمَ، ومَنْ لَمْ يُسَلِّمْ فَلَا إِسْلَامَ لَهُ "(8)

فلا واسطة في البين اما ان تُسلِّم فانت مسلم فتكون لعبادتك قيمة، واما ان لا تُسلِّم فانت لست بمسلم فلا عبرة بافعالك، فبطاقة الدخول الى حرم الاسلام هو التسليم وبعد ذلك يكون ميزان المحاسبة على لوازم التسليم من عبادات وغيرها داخل هذا الحرم.

وما ذكره الصادق(عليه السلام)، كان تاكيداً لما ذكره آباؤه (عليهم السلام) من قبل، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال:

"لَاَنْسُبَنَّ الْإِسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ يَنسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي. الْإِسْلاَمُ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقِينُ، وَالْيَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْإِقْرَارُ، وَالْإِقْرَارُ هُوَ الْأَدَاءُ، وَالْأَدَاءُ هَوَ الْعَمَلُ."(9)


 

وهذا التسليم قد طبقه بعض اصحاب الامام الصادق(عليه السلام) عملياً، وقد اقرهم الامام على ذلك ومدحهم، بل كان مع بعضهم هو المبادر(عليه السلام) لابراز هذه الحالة كما في قصة صاحب التنور:

فعن مأمون الرقي قال: كنت عند سيدي الصادق(عليه السلام) إذ دخل سهل بن حسن الخراساني فسلّم عليه ثم جلس فقال له: يا ابن رسول الله لكم الرأفة و الرحمة و أنتم أهل بيت الإمام، ما الذي يمنعك أن يكون لك حقّ تقعد عنه و أنت تجد مِن شيعتك مئة الف يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال(ع) له: "اجلس يا خراساني رعى الله حقك"، ثم قال(ع): "يا حنيفة اسجري التنّور"، فسجرته حتى صار كالجمرة وابيضّ علوه، ثم قال(عليه السلام): "يا خراساني قم فاجلس في التنّور"، فقال الخراساني: يا ابن رسول الله لاتعذبني بالنّار، أقلني أقالك الله، قال(ع): "قد أقلتك". فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، فقال له الصادق(ع): "القِ النّعل من يدك واجلس في التنور"، قال: فألقى النعل من سبابته، وأقبل الإمام يحدّث الخراساني حديث خراسان حتّى كأنّه شاهد لها، ثمّ قال(ع): "قم يا خراساني وانظر ما في التنّور"، قال: فقمت إليه فرأيته متربّعاً فخرج إلينا وسلّم علينا، فقال له الإمام(ع): "كم تجد بخراسان مثل هذا"؟ فقلت: والله ولا واحد. فقال(ع): "لا والله ولا واحد، أما إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت"(10)


 

وفي بيان واضح لا لبس فيه يشدد الامام الباقر (عليه السلام) على التسليم للمعصوم:

"قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ(ع) يَا سَالِمُ إِنَّ الْإِمَامَ هَادٍ مَهْدِيٌّ لَا يُدْخِلُهُ اللَّهُ فِي عَمَاءٍ وَ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى هَيْئَةٍ لَيْسَ لِلنَّاسِ النَّظَرُ فِي أَمْرِهِ وَ لَا التَّخَيُّرُ عَلَيْهِ وَ إِنَّمَا أُمِرُوا بِالتَّسْلِيمِ‌"(11)


 

ونختم بهذا الخبر عنه (عليه السلام)، فعن أبي خالد الكابلي قال: "سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: " فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ والنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا فَقَالَ يَا أَبَا خَالِدٍ النُّورُ واللَّهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (ص) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وهُمْ واللَّهِ نُورُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ وهُمْ واللَّهِ نُورُ اللَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ وفِي الْأَرْضِ، واللَّهِ يَا أَبَا خَالِدٍ لَنُورُ الْإِمَامِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْوَرُ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ بِالنَّهَارِ وهُمْ واللَّهِ يُنَوِّرُونَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ ويَحْجُبُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ نُورَهُمْ عَمَّنْ يَشَاءُ فَتُظْلِمُ قُلُوبُهُمْ واللَّهِ يَا أَبَا خَالِدٍ لَا يُحِبُّنَا عَبْدٌ ويَتَوَلَّانَا حَتَّى يُطَهِّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ ولَا يُطَهِّرُ اللَّهُ قَلْبَ عَبْدٍ حَتَّى يُسَلِّمَ لَنَا ويَكُونَ سِلْماً لَنَا فَإِذَا كَانَ سِلْماً لَنَا سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ شَدِيدِ الْحِسَابِ وآمَنَهُ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْأَكْبَرِ."(12)


 

ملاحظتان :

١- هذا رابط درس السيد الحيدري المرئي

http://alhaydari.com/ar/2012/05/62862/

٢- وهذا رابط درس السيد الحيدري المكتوب

http://alhaydari.com/ar/2013/08/50078

_______________________

(1) شرح اصول الكافي:ج 12 ص504

(2) تهذيب الاحكام : ج3: ص70

(3) الكافي: ج8، ص59-63

(4) نهج البلاغة: الخطبة 71

(5) نهج البلاغة: الكتاب6

(6) القرآن الكريم: النساء: 65

(7) الكافي: ج2، ص398

(8) الكافي: ج8، ص11

(9) نهج البلاغة: الحكمة 125، او 118 بحسب اختلاف النسخ

(10) مناقب آل ابي طالب: ج4، ص237

(11) بصائر الدرجات: ص543

(12) الكافي:ج1، ص194


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبد الناصر السهلاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/11/05



كتابة تعليق لموضوع : التسليم للمعصوم لا محاسبته
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net