صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

هل يشكو المؤمنُ رَبَّه؟
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
لقد ابتلى الله تعالى أنبياءه كما ابتلى سائر الخلق، بل زادهم في البلاء على قَدرِ قُربهم منه، ومِن ذلك ابتلاؤه تعالى نَبِيَّه يعقوبَ عليه السلام بِبَنيه، حينَ مكروا بأحبِّ أولاده إليه، يوسف عليه السلام، فغيَّبوه عنه وأبعدوه.
 
تألَّمَ يعقوبُ عليه السلام لفراقه، وحَزِنَ عليه أيامه، ولمّا لامه أولادُه على ذلك قال لهم:
(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْني‏ إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُون‏) (يوسف86).
 
فكان كسائر الأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين، يبثُّون الشكوى لله تعالى، فهو القادرُ القاهر، وهو العليم الحكيم، وهو من بيده ملكوت كلِّ شيء.
 
وقد قال الله تعالى لملائكته عند شكاية المؤمن من مَرَضِه: مَا أَنْصَفْتُ عَبْدِي إِنْ حَبَسْتُهُ فِي حَبْسٍ مِنْ حَبْسِي ثُمَّ أَمْنَعُهُ الشِّكَايَة (الكافي ج3 ص114).
 
لذا يتوجَّه المؤمن نحو الله تعالى كلَّما دهمته مصيبةٌ أو نزلت به نازلة، فيشكوها إلى ربه، بل يشكو نفسَه لربه فيقول: إِلَهِي إِلَيْكَ أَشْكُو نَفْساً بِالسُّوءِ أَمَّارَةً وَ إِلَى الْخَطِيئَةِ مُبَادِرَة..
ويقول ثانيةً: إِلَيْكَ أَشْكُو قَسْوَةَ قَلْبِي، وَضَعْفَ عَمَلِي، فَارْحَمْنِي يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين‏..
وثالثةً: إِلَيْكَ أَشْكُو ذُنُوبِي فَإِنَّها لا مَجْرى‏ لِبَثِّها إِلَّا إِلَيْك‏..
 
وهكذا يعتقدُ المؤمنُ أنَّ الله تعالى أقدَرُ عليه من نفسه! فيشكو النَّفسَ وضعفها لله، وقسوة القلب، وسوء العمل.
والعملُ مما يقدرُ الإنسانُ على تغييره، لكنَّ المؤمن يعلَم أنَّه يحتاجُ إلى توفيق الله تعالى، ومزيد عنايته ولطفه كي يأخذ بيده إلى الخير، فكلُّ خَيرٍ يكون بتسديد الله وتوفيقه ولُطفِه، فهو الذي يحول بين المرء ونفسه، وهو الذي يُقَلِّبُ القلوب، وهو القادر على فسخ العزائم ونقض الهمم.
 
وهكذا يكون المؤمن في نهاية التوكُّل على الله تعالى، والعَودِ إليه، فإن كان هناك شكوى من النَّفس أو مِنَ الغير فإلى الله تعالى لا إلى سواه، كما قال الإمام زينُ العابدين عليه السلام: اللَّهُمَّ لَا أَشْكُو إِلَى أَحَدٍ سِوَاكَ، وَلَا أَسْتَعِينُ بِحَاكِمٍ غَيْرِكَ، حَاشَاكَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَصِلْ دُعَائِي بِالْإِجَابَةِ، وَاقْرِنْ شِكَايَتِي بِالتَّغْيِير..
 
فالمؤمن لا يشكو إلا إلى ربه، لأنه لا يعتقد أنَّ هناك من يستحقّ أن يكون حاكماً فيما يرجع إليه غير الله تعالى.
 
لكنَّ هناك معانٍ في غاية الأهميَّة ترتبط بالشكوى منها:
 
أولاً: الشكوى المذمومة: شِكايةُ الرَّب
 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّ مما أنزله الله تعالى في التوراة:
مَنْ أَصْبَحَ عَلَى الدُّنْيَا حَزِيناً فَقَدْ أَصْبَحَ عَلَى رَبِّهِ سَاخِطاً، وَمَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِهِ فَإِنَّمَا يَشْكُو رَبَّهُ (الأمالي للطوسي ص229).
 
ثمَّ لَهَجَ بهذا المعنى رسولُ الله صلى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين عليه السلام، فكَشَفَا أنَّ الشِّكاية إما أن تكون لله تعالى، وإما أن تكون شكايةً على الله والعياذ بالله!
 
والناس على صنفين:
 
1. فالأول هو الذي يشكو ما نزل به من مصائب إلى الله، ولا يستكبر عن الطلب من الله تعالى، والتوسل اليه، والدعاء لرفع ما نزل به، فيأخذ الله تعالى بيده لما فيه خيره وصلاحه.
 
2. والثاني يشكو على الله تعالى! فلا يكتفي بالسَّخَط على الله وعدم الرضا بما أنزله به، بل يُبالغ في ردَّة فعله، فيذهب إلى مخلوقٍ ضعيفٍ من مخلوقات الله تعالى ليشكو له ما أنزل به الله تعالى!
 
فكأنَّه لا يعتقدُ بعدل الله تعالى، فيظنُّ أن الله تعالى قد ظلمه!
أو كأنّه لا يعتقدُ بحكمة الله تعالى، فيظنُّ أن الله تعالى لا يفعل به ما هو صلاحه!
 
ومِنهم مَن يرى أنَّ الله تعالى قد ابتلاه بما لم يبتل به أحداً من خلقه، وقد قال الصادق عليه السلام: إِنَّمَا الشَّكْوَى أَنْ يَقُولَ: قَدِ ابْتُلِيتُ بِمَا لَمْ يُبْتَلَ بِهِ أَحَدٌ، وَيَقُولَ: لَقَدْ أَصَابَنِي مَا لَمْ يُصِبْ أَحَداً (الكافي ج3 ص116).
 
وكأنَّ القائل يرى أنَّ الله له ظالمٌ، وعليه جائرٌ، أو أنَّهُ يرى نفسَهُ أكمَلَ الناس بحيثُ ابتلاه الله تعالى أكثر منهم جميعاً، والله تعالى يبتلي العباد على قدر قُربهم منه.
 
ثانياً: الشكوى إلى المؤمن
 
لقد ميَّزَت الشريعة بين نوعين من الشكوى:
 
الأولى: هي الشكوى إلى الكافر أو المخالف، فتكون مصداقَ الشكاية على الله عزَّ وجلَّ إلى أعدائه، وهي التي تقدَّم الحديثُ عنها.
 
والثانية: هي شكوى المؤمن إلى المؤمن، وهذه لا تكون بتلك المثابة، بل تكون كالشكاية إلى الله تعالى.
 
قال الإمام الصادق عليه السلام:
أَيُّمَا مُؤْمِنٍ شَكَا حَاجَتَهُ وَضُرَّهُ إِلَى كَافِرٍ أَوْ إِلَى مَنْ يُخَالِفُهُ عَلَى دِينِهِ، فَكَأَنَّمَا شَكَا الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَاءِ الله.
وَأَيُّمَا رَجُلٍ مُؤْمِنٍ شَكَا حَاجَتَهُ وَضُرَّهُ إِلَى مُؤْمِنٍ مِثْلِهِ كَانَتْ شَكْوَاهُ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ (الكافي ج8 ص144).
 
فالشكوى إلى المؤمن بمثابة الشكوى إلى الله تعالى، وهو معنىً في غاية الدقَّة، وله آثارٌ عظيمة، منها أنَّ المؤمن ينظر إلى أخيه المؤمن على أنَّه طريقٌ لله تعالى، فيعرِف مقدارَ ما أكرمَ الله تعالى به عبادَه المؤمنين بتنزيلهم هذه المنزلة، ويعظُم الإيمان في عينه، والتقدير لأخيه المؤمن، فيترك ذلك أثراً عظيماً على تآلف المؤمنين وتوادّهم وتراحمهم، ويكون عاملاً يُساهم في صيرورتهم كالجسد الواحد، يتعاطَف مع مَن يشتكي منه.
 
فتفتح الشكايةُ للمؤمنِ باباً من أبواب البِرِّ والتعاطف بين المؤمنين، فيسهر بعضهم لبعض، ويُعين بعضُهم بعضاً، ويأتلف حالهم، ويصلح أمرهم، فيعُمُّهم الله تعالى بمزيد رعايته.
 
ثالثاً: الكِتمان خيرٌ مِن الشكاية
 
رغم أنَّ الشكاية للمؤمن أمرٌ حَسَنٌ ممدوحٌ، إلا أنَّ ما هو أرقى من ذلك وأسمى مرتبةً هو كِتمان البلاء والشدّة والمَرَض، فإنَّهُ يكشفُ عن تسليم العبدِ لأمر الله تعالى، والرضا البالغ بما يوقعه على عبده، فيجزيه الله تعالى ثواباً لا تكادُ عظمته تُدرك.
 
فعن الباقر عليه السلام أنَّ الله تعالى قال:
مَا مِنْ عَبْدٍ ابْتَلَيْتُهُ بِبَلَاءٍ فَلَمْ يَشْكُ إِلَى عُوَّادِهِ إِلَّا أَبْدَلْتُهُ لَحْماً خَيْراً مِنْ لَحْمِهِ، وَدَماً خَيْراً مِنْ دَمِهِ، فَإِنْ قَبَضْتُهُ قَبَضْتُهُ إِلَى رَحْمَتِي، وَإِنْ عَاشَ عَاشَ وَلَيْسَ لَهُ ذَنْب‏ (الكافي ج3 ص115).
 
إنَّ كتمان الفاقة والمصيبة والوجع والمرض من كنوز البِرّ، بل من كنوز الجنّة كما في الحديث، ذلك أنَّ مَن قَبِلَ البلاء ليلةً، وصبر عليه، ولم يُخبر به أحداً، ينال ثوابَاً عظيماً.
 
فَمَن مَرِضَ ليلةً دون أن يشكو إلى أحدٍ أو يخبر أحداً، أعطاه الله ثواب ستين سنة من العبادة! ومَن كتم ما نزل به من المرض ثلاثاً عافاه الله تعالى لكتمانه.
والصبر مع الكتمان هو الصبر الجميل، فهو: صَبْرٌ لَيْسَ فِيهِ شَكْوَى إِلَى النَّاس (الكافي ج2 ص93).

وأعظم من كل هذا ما روي عن النبي (ص):
مَنْ مَرِضَ يَوْماً وَلَيْلَةً فَلَمْ يَشْكُ إِلَى عُوَّادِهِ بَعَثَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ (ع)، حَتَّى يَجُوزَ الصِّرَاطَ كَالْبَرْقِ اللَّامِع‏ (الفقيه ج4 ص16).
 
وكأنَّ هذا الأمر يكشفُ عن اكتمال مراتب الإيمان، فأركانه التوكُّل على الله والتفويض إليه والرضا بقضائه والتسليم له، وهذه بأعلى مراتبها تجتمع في الكُمَّل، ومَن دونَهم من المؤمنين يلونهم في الفضل.
 
لقد اشتكى الإمام السجاد يوماً من مرضٍ شديد، ولما سأله سيِّد الشهداء عليه السلام عمّا يشتهي قال: أَشْتَهِي أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ لَا أَقْتَرِحُ عَلَى [الله‏] رَبِّي سِوَى مَا يُدَبِّرُهُ لِي.
فقال له سيد الشهداء عليه السلام:
أَحْسَنْتَ، ضَاهَيْتَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (ع) حَيْثُ قَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ (ع): هَلْ مِنْ حَاجَةٍ؟
فَقَالَ: لَا أَقْتَرِحُ عَلَى رَبِّي، بَلْ حَسْبِي الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏ (الدعوات ص168).
 
هكذا هم الكُمَّل والمؤمنون مِن بعدهم:
 
1. إن أوكلوا الأمر إلى الله تعالى سلَّموا له وتيقَّنوا أنه لا يفعل بهم إلا ما فيه صلاحهم وخيرهم، وكان الله عند تعالى عند حسن ظنهم.
ولا يكون عدم اقتراحهم على الله تعالى تَكَبُّراً عن الدُّعَاء والطلب، بل يكون تسليماً وتفويضاً، بل يكون دعاءً حقيقة، بأن يفعل الله تعالى بهم ما يُريد، وهو لا يفعل بهم إلا ما فيه خيرُهم وصلاحهم.
 
2. وإن طلبوا من الله تعالى أن يرفع عنهم البلاء والمرض والشدَّة، فقد استجابوا لأمره بالدُّعاء، وكانوا من أهله، فأجزل لهم ربُّهم العطاء.
 
جَعَلَنا الله تعالى من أهل التوكُّل والتفويض، والرضا والتسليم، واختارَ لنا ما فيه الصلاح، وأعاذنا من الشكاية عليه لعباده، إنَّه سميعٌ مجيب.
 
والحمد لله رب العالمين
 
الأربعاء 22 ذو القعدة 1443 هـ الموافق 22 – 6 – 2022 م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/06/25



كتابة تعليق لموضوع : هل يشكو المؤمنُ رَبَّه؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net