مذهب الثَّقَلين.. في توحيد الله وصفاته
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ألقي هذا البحث في كربلاء المقدَّسة في (مؤتمر الإمام الحسين عليه السلام الدولي الخامس) الذي أقامته العتبة الحسينية المقدَّسة (دار القرآن الكريم) تحت عنوان (ثقلان لن يفترقا)، وذلك يوم السبت 26 ربيع الثاني 1445 هـ الموافق 11-11-2023 م
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
التوحيد.. هو مِحوَرُ الخلاف الأعظم بين الموحِّدين والمشركين والملحدين واللا أدريين.. بل إنَّه يشكِّل هُوَّةً كبيرةً حتى بين الموحِّدين أنفسهم.. فليست حقيقته عندهم على معنى ومذهبٍ واحد.
ويُعلم بعض أهميَّته من أنَّ الله تعالى ما أرسلَ رسولاً إلا بالتوحيد، قال عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)(1).
ومما قاله الصادق عليه السلام: إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ أَجْسَادَ المُوَحِّدِينَ عَلَى النَّارِ(2).
بل صار التلفُّظ بكلمة التوحيد خير العبادة كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله: خَيْرُ العِبَادَةِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله(3).
مِن ثمَّ صارت كلمةُ التوحيد ثمن الجنة، وهي كلمةٌ عظيمةٌ كريمةٌ على الله عزَّ وجل، وهي حصنُ الله الذي يأمن داخلُه ومُوَفِّي شروطه من العذاب، ومن أعظم شروطه محمدٌ وآله عليهم السلام.
لقد أرشدَ الأنبياء أمَمَهم إلى ما دلَّ عليه العقل، من أنَّ الله تعالى مُتَّصفٌ بكلّ صفات الكمال، مُنَزَّهٌ عن كلِّ نقص، لا يتثنّى ولا يتركّب، ولا يُدرَك كنهه بقلبٍ أو عقلٍ أو وهمٍ أو شيءٍ من الحواس.. لا يصحُّ التفكُّر في ذاته.. ولا الخوض فيها.
فخَشَعَ المؤمنون أمام عظمة الله تعالى، وخضعوا عند البحث في باب توحيده، وأقرُّوا بالعجز والقصور والضعف.
ولقد كان للصادق عليه السلام بيانٌ بديعٌ يَجبَهُ الإنسانَ القاصرَ عن اقتحام سدف الغيوب، حيث يقول عليه السلام:
يَا ابْنَ آدَمَ:
1. لَوْ أَكَلَ قَلْبَكَ طَائِرٌ لَمْ يُشْبِعْهُ!
2. وَبَصَرُكَ لَوْ وُضِعَ عَلَيْهِ خَرْقُ إِبْرَةٍ لَغَطَّاهُ!
تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ بِهِمَا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ؟!
إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فَهَذِهِ الشَّمْسُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله، فَإِنْ قَدَرْتَ أَنْ تَمْلَأَ عَيْنَيْكَ مِنْهَا فَهُوَ كَمَا تَقُولُ!(4).
هي كلماتٌ تهزُّ وُجدان العاقل، وتملأ كيانه رهبةً وخشوعاً أمام الإله العظيم، فيطرق البحث في التوحيد من بابه، معتمداً على الثَّقلين، فهما: خَلِيفَتَانِ بَصِيرَانِ، لَا يَفْتَرِقَانِ(5).
بل هما: صَاحِبَانِ مُؤْتَلِفَانِ، يَشْهَدُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ بِتَصْدِيقٍ(6).
فالقرآن يشهدُ ويهدي للعترة الطاهرة: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(7).
والعترة تهدي للقرآن وتدلُّ عليه: وَلِكُلِّ أَهْلِ زَمَانٍ هَادٍ وَدَلِيلٌ وَإِمَامٌ، يَهْدِيهِمْ وَيَدُلُّهمْ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ(8).
إنَّ دفائن العقول تُستثار بكلام الله ورسوله وأوليائه، فيسترشدُ المؤمن بكلام الخالق وأوليائه إلى حقيقة التوحيد، وإلى الحق في تنزيه الله تعالى وتعظيمه بعد توحيده.
في هذا البحث أربعة محاور في مذاهب التوحيد وحقيقته، وصفات الله واكتناهها:
المحور الأول: مذاهب التوحيد
إنَّ المذاهب التي تُنسبُ إلى التوحيد تنقسمُ على بعض الإعتبارات والجهات والوجوه إلى ثلاثة:
المذهب الأول: مذهب التشبيه
وأصحابه قائلون بالمشابهة بين الله تعالى وبين مخلوقاته، وليس بممتنعٍ عندهم ذلك، فينزل الخالق مثلاً على حمارٍ! ويحلُّ في المكان! ويجري عليه ما يجري على المخلوقات!
وهو باطلٌ محضٌ، فإنَّ الخالق العظيم مُنَزَّهٌ عن كلِّ صفةٍ من صفات المخلوق، بل عن كلِّ مشابهةٍ بينه وبين سواه، كما قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ البَصير)(9).
وقد كان للأئمة عليهم السلام موقفٌ واضحٌ من هذا المذهب، ومن ذلك قول الإمام الرضا عليه السلام: مَنْ شَبَّهَ الله بِخَلْقِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَمَنْ وَصَفَهُ بِالمَكَانِ فَهُوَ كَافِر(10).
المذهب الثاني: مذهب التعطيل
وقد أراد أصحاب هذا المذهب تنزيه الله تعالى عن المشابهة مع المخلوقات، لكنَّهم عجزوا عن معرفة كيفية التنزيه.
ولمّا نظروا في صفاته تعالى وجدوه موجوداً قادراً عالماً، ووجد أحدهم نفسه أيضاً موجوداً قادراً عالماً، فتوهَّم أن إثبات الوجود والعلم والقدرة لله وإثباتها للمخلوق يعني المشابهة.
ولمَّا كانت المشابهةُ منفيةً، نفى الوجود والعلم والقدرة عن الله تعالى!
فصار في الشناعة شريكاً للأول، إذ أثبت الأول وجوده تعالى مُشَبَّهاً بخلقه، ونفى الثاني وجوده أو قدرته وعلمه وسائر صفاته!
والحال أنَّ الله تعالى قد أثبت هذه الصفات لنفسه في القرآن الكريم..
أما وجوده تعالى، فالقرآن بوجوده وإعجازه يدلُّ عليه تعالى.. ثمَّ تؤكدُّ نصوصه وجوده تعالى وربوبيته، كقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)(11)، وتثبت ألوهيته وحده، كقوله تعالى: (لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون)(12).
وأمّا قدرته تعالى، فقد ذُكِرَت في الكتاب العزيز ألفاظٌ تدلّ على كونه تعالى على كل شيء قدير ما يقرب من 35 مرة، بدءً من سورة البقرة: (إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(13)، وانتهاءً بسورة الملك: (تَبارَكَ الَّذي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ)(14).
وأمّا علمه تعالى، فقد وُصِفَ تعالى في القرآن الكريم أنَّه عليمٌ أكثر من 100 مرة، وأنَّه بكلِّ شيء عليم في آيات كثيرة، كقوله تعالى: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليم)(15)، وأنَّه عالمُ الغيب والشهادة، كقوله تعالى: (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزيزُ الْحَكيمُ)(16).
وهكذا سائر صفات الله تعالى، لكنَّ أصحاب هذا القول قالوا بالتعطيل، فنفوا الصفات عن الله تعالى.
وقد قيل في بيان حقيقة التعطيل: الخروجُ عن الوجود، وعن الصفات الكماليّة والفعليّة والإضافيّة(17).
أو: نفيه وإنكار وجوده وربوبيّته وإبطال صفاته على الوجه الّذي يليق به(18).
ونموذج ذلك ما وقع بين الإمام الرضا عليه السلام والزنديق الذي لما سمع أن الله تعالى هو الذي أيَّنَ الأين، وكيَّف الكيف، وأنه لا يعرف بكيفوفية ولا أينونية، وأنه لا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء، أي لما سمع أنَّه منزه عن المشابهة مع المخلوقين، قال: فَإِذاً إِنَّهُ لَا شَيْءَ إِذَا لَمْ يُدْرَكْ بِحَاسَّةٍ مِنَ الحَوَاسِّ!
فقد نفاه لأنّه عجز عن إدراكه بحواسه، وهذه صورةٌ من صور التعطيل.
أجابه الإمام عليه السلام: وَيْلَكَ، لمَّا عَجَزَتْ حَوَاسُّكَ عَنْ إِدْرَاكِهِ أَنْكَرْتَ رُبُوبِيَّتَهُ! ونَحْنُ إِذَا عَجَزَتْ حَوَاسُّنَا عَنْ إِدْرَاكِهِ أَيْقَنَّا أَنَّهُ رَبُّنَا بِخِلَافِ شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ(19).
وهكذا تَوَهَّمَ آخرُ أنَّ في إثبات وجوده تحديدٌ له، فأجابه الإمام عليه السلام: لَمْ أَحُدَّهُ وَلَكِنِّي أَثْبَتُّهُ إِذْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ مَنْزِلَة(20).
وهكذا يدخلُ في مذهب التعطيل من نفى صفةً من صفات الله تعالى، كنفي العلم أو القدرة أو الحياة وما شابه.
المذهب الثالث: مذهب الإثبات بغير تشبيه
وهو مذهب الشيعة الإمامية أعزَّهم الله تعالى، ورثوه عن أئمتهم عليهم السلام وعن كتاب الله العزيز.
وحقيقته قائمةٌ على إثبات الوجود والعلم والقدرة لله تعالى، لكن دون أي مشابهةٍ بين هذه الصفات وبين صفات المخلوقات.
وبهذا تخلصوا من الإشكال الوارد على المذهب الأول حيث نفوا التشبيه، ومن الإشكال الوارد على المذهب الثاني حيث نفوا التعطيل.
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: اعْلَمْ رَحِمَكَ الله أَنَّ المَذْهَبَ الصَّحِيحَ فِي التَّوْحِيدِ مَا نَزَلَ بِهِ القُرْآنُ مِنْ صِفَاتِ الله جَلَّ وعَزَّ: فَانْفِ عَنِ الله تَعَالَى البُطْلَانَ والتَّشْبِيهَ، فَلَا نَفْيَ ولَا تَشْبِيهَ، هُوَ الله الثَّابِتُ المَوْجُودُ، تَعَالَى الله عَمَّا يَصِفُهُ الوَاصِفُونَ(21).
وهكذا في إثبات الشيئية، فقد قال تعالى في سورة الأنعام: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ الله شَهيدٌ بَيْني وَبَيْنَكُمْ)(22).
وقال في سورة الشورى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ البَصير)(23).
فأثبتت الآية الأولى الشيئية لله تعالى، ونفت الآية الثانية أي مشابهةٍ بينه وبين شيءٍ من الأشياء، فكلُّ الأشياء الأخرى مخلوقاته.
ولقد سأل الإمامُ الرضا بعضَ أصحابه مُعَلِّماً، فقال عليه السلام لمحمد بن عيسى بن عبيد: مَا تَقُولُ إِذَا قِيلَ لَكَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الله عَزَّ وَجَلَّ شَيْءٌ هُوَ أَمْ لَا؟
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ أَثْبَتَ الله عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ شَيْئاً حَيْثُ يَقُولُ (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)، فَأَقُولُ: إِنَّهُ شَيْءٌ لَا كَالأَشْيَاءِ، إِذْ فِي نَفْيِ الشَّيْئِيَّةِ عَنْهُ إِبْطَالُهُ وَنَفْيُهُ.
قَالَ لِي: صَدَقْتَ وَأَصَبْتَ.
ثُمَّ قَالَ لِيَ الرِّضَا (عليه السلام): لِلنَّاسِ فِي التَّوْحِيدِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ:
1. نَفْيٌ
2. وَتَشْبِيهٌ
3. وَإِثْبَاتٌ بِغَيْرِ تَشْبِيهٍ
فَمَذْهَبُ النَّفْيِ لَا يَجُوزُ، وَمَذْهَبُ التَّشْبِيهِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَالسَّبِيلُ فِي الطَّرِيقَةِ الثَّالِثَةِ: إِثْبَاتٌ بِلَا تَشْبِيهٍ(24).
وقد سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): أَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ شَيْءٌ؟
قَالَ: نَعَمْ، يُخْرِجُهُ عَنِ الحَدَّيْنِ: حَدِّ التَّعْطِيلِ وَحَدِّ التَّشْبِيهِ(25).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله ع أَنَّهُ قَالَ لِلزِّنْدِيقِ حِينَ سَأَلَهُ: مَا هُوَ؟
قَالَ: هُوَ شَيْءٌ بِخِلَافِ الأَشْيَاءِ، ارْجِعْ بِقَوْلِي شَيْءٌ إِلَى إِثْبَاتِ مَعْنًى، وَأَنَّهُ شَيْءٌ بِحَقِيقَةِ الشَّيْئِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا جِسْمٌ وَلَا صُورَةٌ(26).
فالله تعالى ثابتٌ، موجودٌ، لا يشبه شيئاً من خلقه، وهو شيءٌ لا كالأشياء، لا يُجانسُها، ولا يشابهها ولا يماثلها.
هذا هو مذهبُ آل محمدٍ عليهم السلام.. جلياً نقياً صافياً.. خلياً من كلِّ شُبهَةٍ، يضمنُ توحيد الله تعالى كما هو أهله.
على أنَّ الشيء قد يطلق ويُراد منه المخلوق، قال الفراهيدي أنّه: اسم الآدميين وغيرهم من الخلق(27)، وليس هذا هو المُراد من إثبات الشيئية لله تعالى جزماً.
وقد يُطلق ويُراد منه مفهومٌ عامٌ جداً، فيشمل كلّ ما أُخبرَ عنه، سواءٌ كان موجوداً أو معدوماً، بل ولو كان مُحالاً، قال الحميري أنَّه: كل ما صَحَّ أَنْ يُعلم ويُخبر عنه فهو: شيء. وشيء: أعمُّ الأسماء كلها، وهو على ضربين: معدومٌ وموجود(28)، وهو كسابقه غير مُرادٍ من اثبات الشيئية لله تعالى، إذ قد يساوقُ إثباته كون الشيء معدوماً أو موهوماً.
وقد يُطلق ويُراد منه الثابت الموجود، فقد قيل أنَّ الشيء: عبارةٌ عن الموجود(29)، فيوصفُ الله تعالى به، لأنَّ في نفيه عنه إبطاله ونفي وجوده، فنثبت الشيئية لله تعالى مع نفي المشابهة بينه وبين سائر الموجودات.
المحور الثاني: حقيقة صفات الله
لقد ثبتَ أنَّ الله تعالى متَّصِفٌ بصفات الكمال، كالعلم والقدرة والحياة.
ثمَّ ثبتَ أنَّ الله تعالى لا يوصَف إلا بما وصف به نفسه، كما عن الإمام الرضا عليه السلام: مَنْ وَصَفَ الله بِخِلَافِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الفِرْيَةَ عَلَى الله(30).
وعنه عليه السلام: إِنَّ الخَالِقَ لَا يُوصَفُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ(31).
فلزمَ أوَّلاً أن لا نثبت لله تعالى أي صفةٍ لم يُثبتها لنفسه، وهو ما يُعرَف بتوقيفية الصفات، أي أن وصفه بشيءٍ موقوفٌ على ورود نصٍّ يكشف عن إذن الله تعالى لعباده بأن يصفوه به.
ولعلَّ السرَّ في ذلك هو أنَّ كلَّ وصفٍ نتصوَّرُهُ في عقولنا فهو يتناسب معنا لا مع الخالق العظيم. فلا يصحُّ أن نصفه من عنديّاتنا.
ولمّا كان الغرض من الخلقة المعرفة والعبادة، كان لا بدَّ من وصف الله بأوصاف تدلُّ على كماله ليُعرَفَ بها، وكان هو الأعلم بما يناسب وصفه به، فتوقف الإقدام على إذنه تعالى.
قال الإمام الرضا عليه السلام: وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا البَابِ حَتَّى تَاهُوا وَتَحَيَّرُوا وَطَلَبُوا الخَلَاصَ مِنَ الظُّلْمَةِ بِالظُّلْمَةِ فِي وَصْفِهِمُ الله بِصِفَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَازْدَادُوا مِنَ الحَقِّ بُعْداً، وَلَوْ وَصَفُوا الله عَزَّ وَجَلَّ بِصِفَاتِهِ، وَوَصَفُوا المَخْلُوقِينَ بِصِفَاتِهِمْ لَقَالُوا بِالفَهْمِ وَاليَقِينِ، وَلَمَا اخْتَلَفُوا(32).
وفي كلماته عليه السلام إشارةٌ إلى المباينة بين صفات المخلوق والخالق، وأن التداخل بينهما طريقٌ للتيه والحيرة، والانغماس في الظلمات.
فكلُّ صفةٍ ثبتت في الخالق والمخلوق لم يكن المعنى المُراد منها واحداً قطعاً، حتى الوحدانية!
فقد قيل للإمام عليه السلام: الله وَاحِدٌ وَالإِنْسَانُ وَاحِدٌ، أَ لَيْسَ قَدْ تَشَابَهَتِ الوَحْدَانِيَّةُ؟
فقال عليه السلام: يَا فَتْحُ أَحَلْتَ (أي قلت بالمحال) ثَبَّتَكَ الله، إِنَّمَا التَّشْبِيهُ فِي المَعَانِي، فَأَمَّا فِي الأَسْمَاءِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ.. فَالإِنْسَانُ وَاحِدٌ فِي الِاسْمِ وَلَا وَاحِدٌ فِي المَعْنَى، وَالله جَلَّ جَلَالُهُ هُوَ وَاحِدٌ لَا وَاحِدَ غَيْرُهُ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَفَاوُتَ(33).
فالمشابهة في إطلاق لفظ الواحد هنا هي مشابهةٌ في الإسم فقط، وأما في المعنى، فالمشابهة ممنوعةٌ منفيَّة.
فالوحدةُ في المخلوق هي وحدةُ عددٍ تارةً، ووحدة نوعٍ وجنسٍ أخرى، وكلاهما منفيَّان عن الله تعالى.
والوحدة في الله تعالى هي وحدة نفي الشريك، ونفي التركُّب، وكلاهما ثابتان في المخلوق.
وهكذا سائر الصفات، فإنَّ الله تعالى وصفَ نفسه بها لكن لا على نحو وصف المخلوق بها.
قال الإمام الرضا عليه السلام أن الله: وَصَفَ نَفْسَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَسْمَاءٍ دَعَا الخَلْقَ إِذْ خَلَقَهُمْ وَتَعَبَّدَهُمْ وَابْتَلَاهُمْ إِلَى أَنْ يَدْعُوهُ بِهَا، فَسَمَّى نَفْسَهُ سَمِيعاً بَصِيراً قَادِراً قَائِماً نَاطِقاً ظَاهِراً بَاطِناً لَطِيفاً خَبِيراً قَوِيّاً عَزِيزاً حَكِيماً عَلِيماً، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الأَسْمَاءَ.
أورثَ ذلك شُبهَةً عند المكذِّبين، إذ كيف يثبت العلم والقدرة لله ثمَّ يثبت العلم والقدرة للعباد، والحال أنَّه تعالى لا يشبهه شيء من خلقه؟! فتوهَّموا المشاركة بين الخالق والمخلوق في بعض الحالات أو كلِّها، فكان الجواب عن لسانه عليه السلام: إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ألزَمَ العِبَادَ أَسْمَاءً مِنْ أَسْمَائِهِ عَلَى اخْتِلَافِ المَعَانِي، وَذَلِكَ كَمَا يَجْمَعُ الِاسْمُ الوَاحِدُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ(34).
وهذا سائغٌ جارٍ في مختلف اللغات، حيثُ يقال للرجل الشجاع إنّه أسدٌ، وليس هو أسداً حقيقةً، فيطلق اللفظ على الأسد وعلى الإنسان وإن لم يكن الأسدُ إنساناً..
وهكذا هو الحال في كلِّ الصفات التي ثبتت لله تعالى ولمخلوقاته، كالسميع والبصير والخبير واللطيف والظاهر والباطن والقاهر..
وسواءٌ كان ذلك من باب المشترك اللفظي كما عليه بعضهم، أو المشترك المعنوي كما عليه آخرون، أم من باب المجاز، فإنَّه لا بُدَّ من نفي التشابه بين ما يوصف به الخالق وما يوصف به المخلوق، ومن تنزيه الخالق عن كلِّ ما يمكن أن يوجد في المخلوق.
فإنّا وإن وصفنا ربنا تعالى بالسمع، إلا أنا: لَمْ نَصِفْهُ بِالسَّمْعِ المَعْقُولِ فِي الرَّأْسِ.. ولَمْ نَصِفْهُ بِبَصَرِ لَحْظَةِ العَيْنِ.. قَوِيّاً لَا بِقُوَّةِ البَطْشِ المَعْرُوفِ مِنَ المَخْلُوقِ(35)..
والشاهدُ القرآني في ذلك هو نفس آية إثبات السَّمع والبصر، حيث أثبتت السَّمع والبصر بعد نفي المشابهة، قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ البَصير)(36).
وهكذا بيَّنَ الإمام الجوادُ عليه السلام أنَّ كلَّ صفةٍ من هذه الصفات لو كانت كنظيرتها في الخلق لوقع التشبيه بينهما، وهو تعالى مُنَزَّهٌ عن ذلك، وموصوفٌ بالكمال المطلق.
ولعلَّ هذا هو المُراد من قول الإمام العسكريِّ عليه السلام عندما سئل عن التوحيد واختلاف الناس، فقال عليه السلام: سَألتَ عَنِ التَّوْحِيدِ، وَهَذَا عَنْكُمْ مَعْزُولٌ، الله وَاحِدٌ أَحَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، خَالِقٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ.. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(37).
فإنَّ الله تعالى لا يُدرَك، وصفاته لا تُدرَك، فوجوده وحقيقته وصفاته على كنهها معزولةٌ عنّا، لكنَّها ثابتةٌ بلا شكٍّ ولا ريب. فلا نفي ولا تشبيه، بل إثباتٌ بغير تشبيه، ولا يكلَّف المخلوق فوق ذلك شيئاً. لأنه لا سبيل له إلى ما زاد عن ذلك.
المحور الثالث: صفات الله عين ذاته
بعدما اتَّصَفَ الله تعالى بصفاتٍ، كالعلم: (إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُور)(38).
والقدرة: (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ)(39).
والحياة: (اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم)(40).
وبعدما لم تكُن هذه الصفات عارضةً على الله تعالى، لأنَّ عروضها يعني احتياجه إليها، وافتقاره، وتركُّب الأزليّ منها، وغير ذلك من اللوازم الفاسدة، كان لا بدَّ من نفيِّ أيِّ صفةٍ بهذه المثابة، ولهذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله:
وَكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الموْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ الله سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ(41).
فكلُّ صفةٍ تشهدُ أنَّها غيرُ الموصوف منفيَّةٌ عن الله تعالى، لثبوت التعدُّد أو الأجزاء، والله تعالى مُنزَّهٌ عن ذلك.
وهذا حال قوله عليه السلام: المُمْتَنِعَةِ مِنَ الصِّفَاتِ ذَاتُه(42).
ومثلها قول الإمام الرضا عليه السلام:
وَنِظَامُ تَوْحِيدِ الله تَعَالَى نَفْيُ الصِّفَاتِ، عَنْهُ لِشَهَادَةِ الْعُقُولِ أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ وَمَوْصُوفٍ مَخْلُوقٌ.
فإنَّ هذه الفقرة تنفي الوصف رأساً، لكنَّ ما بعدها يشهد أن المُراد هو الوصفُ المشابه لوصف المخلوقين، حيث يعود ويقول عليه السلام: فَلَيْسَ اللهَ عَرَفَ مَنْ عَرَفَ بِالتَّشْبِيهِ ذَاتَهُ(43).
فههنا احتمالاتٌ عدّة:
1. أن ننفي الصفات الكمالية عن الله تعالى، فلا نقول إنه عالمٌ ولا إنه قادر ولا إنه حيٌّ، ويلزم من هذا التعطيل، وقد تقدَّم بطلانه، لما فيه من نسبة النقص إلى الله تعالى.
2. أن نثبت الصفات الكمالية لله تعالى بما هو زائدٌ على الذَّات، فنقول إنَّه عالمٌ بعلمٍ قديم، وقادرٌ بقدرةٍ قديمة، والعلم مغايرٌ له وللقدرة ولسائر الصفات، فيلزم من هذا تعدُّد القديم، وهو باطلٌ، لأنَّه شركٌ بالله.
ولمّا سئل الإمام عليه السلام عن القوم الذين يقولون بأنه: عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَزَلْ عَالِماً بِعِلْمٍ، وقَادِراً بِقُدْرَةٍ، وحَيّاً بِحَيَاةٍ، وقَدِيماً بِقِدَمٍ، وسَمِيعاً بِسَمْعٍ، وبَصِيراً بِبَصَرٍ..
أجاب عليه السلام: مَنْ قَالَ ذَلِكَ ودَانَ بِهِ فَقَدِ اتَّخَذَ مَعَ الله آلِهَةً أُخْرى، ولَيْسَ مِنْ وَلَايَتِنَا عَلَى شَيْءٍ(44).
3. أن نثبت الصفات الكمالية لله، لكن لا على نحوٍ تشهد فيه كلُّ صفةٍ أنها غير الموصوف، بل على نحو تكونُ الصفةُ فيه عين الموصوف، دون أيِّ تشبيه لله بخلقه. ويكون امتناع ذاته عن الصفات يعني وجودها بوجوده تعالى، لا بوجودٍ زائد على ذاته.
والقول الثالثُ هذا هو قولُ محمدٍ وآله الأطهار عليهم السلام.
وقد نطقت به الروايات صريحاً عنهم عليهم السلام.
ومن ذلك ما روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: لَمْ يَزَلِ الله عَزَّ وَجَلَّ رَبَّنَا وَالعِلْمُ ذَاتُهُ وَلَا مَعْلُومَ، وَالسَّمْعُ ذَاتُهُ وَلَا مَسْمُوعَ، وَالبَصَرُ ذَاتُهُ وَلَا مُبْصَرَ، وَالقُدْرَةُ ذَاتُهُ وَلَا مَقْدُورَ(45)..
فهوُ صريحٌ بأنَّ العلمَ ذات الله، والسمع ذاته، والبصر ذاته، والقدرة ذاته، أي أنَّه ليس هناك صفاتٌ مغايرةٌ لذاته.
فإنَّ إثبات العلم مثلاً لا يخلو من أحد أمرين:
1. إما أن يكون العلمُ مُغايراً له.
2. وإما أن لا يكون مغايراً له تعالى.
وليس بين النفي والإثبات منزلةٌ.
والأول يلزم منه الشِّرك كما تقدَّم، فلم يبق إلا الاحتمال الثاني، أي أن تكون هذه الصفات غير مغايرة له، وهو معنى قوله عليه السلام (العلمُ ذاتُه).. وهو معنى ما ورد عن الإمام عليه السلام من قوله أنَّه تعالى:
السَّمِيع البَصِيرُ، العَالِمُ الخَبِيرُ، بِلَا اخْتِلَافِ الذَّاتِ، وَلَا اخْتِلَافِ المعْنَى(46)..
ولقد قال الإمام عليه السلام هذه الكلمات من بعد ما بيّنَ أنَّ الله تعالى (يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ ويُبْصِرُ بِنَفْسِهِ) لكن لا على نحوٍ يكون هو (شَيْءٌ والنَّفْسُ شَيْءٌ آخَرُ)، بل إنّ ذلك كائنٌ دون اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى، أي أنه ليس في الله تعالى عارضٌ ومعروضٌ، ولا اختلاف في ذاته بينها وبين العلم والقدرة، فوجوده وعلمه وقدرته كلُّها عينُ ذاته، لا أنَّها شيءٌ مغايرٌ له.
وهو أيضاً معنى قوله عليه السلام: لَمْ يَزَلِ الله عَزَّ وجَلَّ عَلِيماً قَادِراً حَيّاً قَدِيماً سَمِيعاً بَصِيراً لِذَاتِهِ(47).
وهو أيضاً معنى ما ورد عنهم عليهم السلام: إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى ذَاتٌ عَلَّامَةٌ سَمِيعَةٌ بَصِيرَةٌ قَادِرَةٌ(48).
وقولهم عليهم السلام: لَمْ يَزَلِ الله عَلِيماً سَمِيعاً بَصِيراً، ذَاتٌ عَلَّامَةٌ سَمِيعَةٌ بَصِيرَةٌ(49).
فهذه النصوص أثبتت أن الله تعالى بصيرٌ لذاته، أي أن البصر ليس شيئاً سواه، وأنَّه ذاتٌ علّامة، وهو عليمٌ منذ الأزل، فالذات إشارةٌ إلى المعنى المعبود، إلى الله تعالى، وهو عليمٌ منذ الأزل، لا بعلمٍ مُغايرٍ له، لئلا يشهد هذا العلم أنَّه غيره تعالى، فيثبت التعدُّد.
وهذا هو معنى عينية الصفات للذات.
ومن النصوص الصريحة في ذمّ من جعل القدرة غيره، ما روي عن محمد بن عرفة قال:
قُلْتُ لِلرِّضَا (عليه السلام): خَلَقَ الله الأَشْيَاءَ بِالقُدْرَةِ أَمْ بِغَيْرِ القُدْرَةِ؟
فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَ الأَشْيَاءَ بِالقُدْرَةِ.
لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: خَلَقَ الأَشْيَاءَ بِالقُدْرَةِ، فَكَأَنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ القُدْرَةَ شَيْئاً غَيْرَهُ، وجَعَلْتَهَا آلَةً لَهُ بِهَا خَلَقَ الأَشْيَاءَ، وهَذَا شِرْكٌ(50).
فَجَعلُ القُدرة شيئاً غيره يوجب الشِّرك بالله تعالى، فلا بدَّ من أن تكون القدرة ليست شيئاً غيره، وهذا أيضاً هو معنى عينية الصفات للذات.
ومنَ النصوص الجليَّة في هذا المعنى قوله عليه السلام: رَبُّنَا نُورِيُّ الذَّاتِ، حَيُّ الذَّاتِ، عَالِمُ الذَّاتِ، صَمَدِيُّ الذَّاتِ(51).
وبهذا يظهر أنَّ صفات الله تعالى الثبوتية ليست شيئاً مغايراً له تعالى، لئلا يلزم التعدُّد في الأزلي، أو التركُّب منه تعالى ومنها، جلَّ ربُّنا عن ذلك.
وكما كان الله عزَّ وجل لا يُدرَكُ كنهه، ولا يُحاط به علماً، كذلك صفاته فهي عين ذاته، فإنا وإن اشتركنا معه في بعض هذه الصفات كالعلم والقدرة، إلا أنَّه اشتراكٌ في الاسم دون المعنى، الذي قد يُدرَكُ فينا، ولا يُدرَك فيه تعالى بحالٍ من الأحوال.
وتظهر خلاصة الكلام في سؤالين:
1. هل لله صفات؟
الجواب: نعم، بأدلةٍ قطعيةٍ: عقلية ونقلية.
2. هل هناك أدلةٌ على نفي صفات الله؟
الجواب: هناك رواياتٌ قد يُدَّعى ظهورُها في نفي صفات الله تعالى (وَكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ).
لكنَّها تُحمَل على نفي الصفات المغايرة لذاته، لئلا يلزم التعدُّد، ونفي الصفات المشابهة لخلقه، لئلا يلزم التشبيه.
تذييل مهم: وقفةٌ مع الصفات
قَد يُقال:
إنَّ الله تعالى لمّا لم يكن مركَّباً من علمٍ وقدرةٍ وحياةٍ.. ولمّا كانت هذه الصِّفاتُ ثابتةً منذ الأزل.. ومتباينةً فيما بينها.. لم يكن هناك معنى للقول بعينية الصفات للذات، فإنَّ لازم أزليَّة هذه الصفات وتَبايُنها هو التعدُّد فيه حقيقةً.
فكأنَّكم أيُّها الشيعة قد هربتم من إشكال الشِّرك كما هَرَبَ النصارى، حيثُ قالوا إنَّ الله واحدٌ حال كون الأزليِّ متعدِّداً مثلَّثَ الأقانيم. فما معنى أن تكون الصفات أزليَّة متعدِّدَةً وهي عينُ ذاته؟
والجواب عليه:
أنَّ النصارى قد التزموا بتعدُّد الأزلي، ووقعوا في التناقض من جهة التزامهم بالتوحيد في عين التثليث، وهو ما لا يمكن المصير إليه إلا بالتناقض (يراجع كتابنا: الثالوث صليب العقل).
لكنَّ حقيقة اعتقادنا بأنَّ الصفات عين الذات ترجع إلى أنَّ الله تعالى بذاته واحدٌ أحديّ الذات والمعنى، لا تعدُّد فيه ولا تركُّب حقيقة، وأنَّ ما نصفه به من أوصافٍ لا يرجعُ لتعدُّدٍ في ذاته حقيقةً، ولا لتعدُّدٍ في صفاته، فهذه الصفاتُ لا تُباينُهُ ولا يُباينُ بعضها بعضاً.
وقد عَبَّرنا عنها بكون الصفة عين الذات تبعاً للمعصومين عليهم السلام.
وإلا، فإنّ الله تعالى ليس له صفةٌ زائدةٌ عليه.
قال الشهيد الثاني رحمه الله:
وبالجملة فالحق أنّ صفاته تعالى اعتبارات تحدثها عقولنا عند مقايسة ذاته تعالى إلى غيرها، ونظراً الى الآثار الصادرة عنه تعالى، فانه لما أوجد مقدوراً صادراً عنه تعالى اعتبر له قدرةٌ كما في الشاهد.
وهكذا حين أوجد هناك معلوماً اعتبر له علمٌ، الى غير ذلك، والا فذاته المقدسة لا صفة له زائدة عليها، والا لزم كونه محلاً لغيره ان قامت به، وقيام صفته بغيره ان لم تقم به، وكلاهما بديهي البطلان، وعدم قيامها بشيء بل بنفسها أظهر بطلانا.
فالكل راجعٌ إلى كمال الذات المقدسة وغنائها، لكن لما كانت عقول الخلق متفاوتةً في الاستعداد، حتى أنها تدرك كثرةً عظيمةً متى اطلعت على كثرة صفاته الجميلة، كما هو الواقع في المشاهد، لوحظت هذه الصفات والاعتبارات، ليتوصل بها الخلق الى معرفة خالقهم على حسب استعدادهم.
ثم إنّه قد ينكشف عليهم بسببها أنوار كبريائه عند الإحاطة بحقائقها، وأنها ليست إلا اعتبارات، فلا يجدون في الوجود إلا ذاتاً واحدةً واجبةً مقدسة(52).
والشهيد رحمه الله بكلامه هذا قد أوجز وأجاد، فجمع بين كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نفي الصفات عن الله تعالى، لأنَّ المنفيّ هو كلُّ صفةٍ تغايره، وأثبت له الصفات الذاتية الحقيقة، التي لا تكون شيئاً مغايراً له، بل تكون هي عين ذاته الواحدة التي لا تعدُّد فيها.
وبيَّنَ في الوقت نفسه حال ما يشير إلى كون الصفات مخلوقةً، فإنَّ المخلوق منها ليس هو ما اتَّصف به الله تعالى حقيقةً، بل المخلوق منها هو الأوصاف والاعتبارات التي سوَّغَ الله لنا وصفه بها، والتي تنقدح في أذهاننا، فهي أوصافٌ مخلوقةٌ راجعةٌ في حقيقة الأمر إلى مقدار فهمنا وإدراكنا لتقريب التوحيد إلى أذهاننا..
ولعلَّ قول الصادق عليه السلام يشير إلى هذا المعنى:
فَأَمَّا مَا عَبَّرَتْهُ الْأَلْسُنُ أَوْ عَمِلَتِ الْأَيْدِي فَهُوَ مَخْلُوقٌ.. وَكُلُّ مَوْصُوفٍ مَصْنُوعٌ، وَصَانِعُ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِحَدٍّ مُسَمًّى.. وَلَمْ يَتَنَاهَ إِلَى غَايَةٍ إِلَّا كَانَتْ غَيْرَهُ(53).
فكلُّ صفةٍ نَصِفُ الله تعالى بها في حقيقة أمرها مصنوعةٌ، ولو كانت الصفة تبلغ غايته وتنتهي إلى ذاته فتحدُّه لكان هو مصنوعاً أيضاً، جَلَّ ربُّنا عن ذلك.
وهذا المعنى لا غُبار عليه، فكلُّ معنى يمكن أن يُتَوَهَّم مصنوعٌ، حتى لو كان معنى (العلم والقدرة والحياة).
فصفات العلم والقدرة ليست بحسب المفهوم والمُدرَك ذاتَ الله بحالٍ، وإلا لكانت ذاتُه مدرَكَةً ومفهومةً.
نعم هي بحسب الحقيقة التي لا ندركها ذاته تعالى.
بعبارة أخرى:
إنَّ التوحيد في الحقيقة يلزم منه القول بأنَّ الصفات عين الذات، فلا تعدُّد ولا تركُّب في الله تعالى.
وإنَّ التوحيد الذي ينقدح في الأذهان يُلزِمُنا القول بأنَّ كلَّ صفةٍ نصف بها الله تعالى هي أمرٌ اعتباريٌّ راجعٌ إلينا لأنه لا تعدُّد في ذاته حقيقةً.
لذا قال الشيخ المظفر رحمه الله بعدما بيَّنَ أنَّ الصفات الثبوتية الحقيقية الكمالية كالعلم والقدرة والحياة هي كلَّها عين ذاته، وليست زائدة عليها، وليس وجودها إلا وجود الذات، وأنّه لا اثنينية في صفاته ووجودها، قال:
نعم، هي مختلفةٌ في معانيها ومفاهيمها، لا في حقائقها ووجوداتها؛ لاَنّه لو كانت مختلفةً في الوجود ـ وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات ـ للزم تعدّد واجب الوجود، ولانثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد(54).
وهو ما عناه الفيض الكاشاني رحمه الله بقوله:
يعنى أن ذاته بذاته من حيث هو هو مع كمال فرديّته منشأ لهذه الصفات، ومستحقّ لهذه الأسماء، فيكون هو نفس هذه الصفات وجوداً وعيناً وفعلاً وتأثيراً، وإن كانت هي غيره بحسب المعنى والمفهوم(55).
وإليه أشار المقداد السيوري رحمه الله في شرح الباب الحادي عشر: وما يتصوّر من الزّيادة من قولنا: «ذاتٌ عالمةٌ وقادرة» فتلك أمورٌ اعتباريّة زائدةٌ في الذّهن لا في الخارج، وهو الحقّ(56).
وهو ما يدلُّ عليه قول الإمام الصادق عليه السلام عندما سئل عن الأسماء والصفات:
إِنْ كُنْتَ تَقُولُ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَالْأَسْمَاءُ لَمْ تَزَلْ:
فَإِنَّ (لَمْ تَزَلْ) مُحْتَمِلٌ مَعْنَيَيْنِ:
1. فَإِنْ قُلْتَ لَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ فِي عِلْمِهِ وَهُوَ مُسْتَحِقُّهَا، فَنَعَمْ.
2. وإِنْ كُنْتَ تَقُولُ: لَمْ يَزَلْ تَصْوِيرُهَا وَهِجَاؤُهَا وَتَقْطِيعُ حُرُوفِهَا، فَمَعَاذَ الله أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ غَيْرُهُ، بَلْ كَانَ الله وَلَا خَلْقَ، ثُمَّ خَلَقَهَا وَسِيلَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ يَتَضَرَّعُونَ بِهَا إِلَيْهِ وَيَعْبُدُونَهُ، وَهِيَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ الله وَ لَا ذِكْرَ، وَالمَذْكُورُ بِالذِّكْرِ هُوَ الله القَدِيمُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ، وَالأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ مَخْلُوقَاتٌ وَالمَعَانِي، (وَالْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ مَخْلُوقَاتُ المَعَانِي)، وَالمَعْنِيُّ بِهَا هُوَ الله.. وَلَكِنَّهُ القَدِيمُ فِي ذَاتِهِ(57)..
لا يقال:
إنَّ قوله عليه السلام عن الصفات (لَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ فِي عِلْمِهِ) ينفي عينية الصفات للذات، حيث يلزم منه المباينة.
لأنّا نقول:
نعم يلزم المباينة بين هذه الصفات المخلوقة وبينه، ويلزم العينية بين علمه وبينه تعالى، لأنَّ هذه الصفات لم تزل عنده في علمه، وعلمه أزليٌّ، بخلاف الصفات المخلوقة المصوَّرة المقطَّعة الحروف.
ويدل على خلق الصفات بهذا المعنى أيضاً حديث الإمام عليه السلام عندما أثبت معرفة الله تعالى بغيره، ولما سئل عن ذلك الغير قال: مَشِيَّتُهُ وَاسْمُهُ وَصِفَتُهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مُدَبَّر(58).
فالصفات هنا:
1. إما صفات الفعل كما يظهر من المشيئة والاسم وأشباههما، وهي السبعة التي لا تكون الأشياء إلا بها، ومنها القضاء والقدر والكتاب والأجل والإذن..
2. أو الصفات التي نتصوَّرها عن الله والتي تدلُّ عليه، فهي مخلوقةٌ للدلالة عليه، وهو أجلُّ منها، وكلُّ ما سواه مخلوق.
وبهذا التقريب ليس هناك من غبارٍ على القول بعينية الصفات للذات بحسب الحقيقة، ولا على القول بأنّ ما نتصوَّره منها متغايرٌ بحسب المفهوم، مصنوعٌ مردودٌ إلينا.
ولا يصحُّ القول بأنَّ الصفات مطلقاً مهما كانت مخلوقة، لأنَّ لازم ذلك أنَّ الله تعالى لم يكن متَّصفاً بها قبل خلقها وخلق الخلق، أي أنَّه لم يكن عالماً ولا قادراً.
سئل الإمام الرضا عليه السلام: هَلْ كَانَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَارِفاً بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
ثمَّ أكمل الإمام فقال: هُوَ نَفْسُهُ، وَنَفْسُهُ هُوَ.
قُدْرَتُهُ نَافِذَةٌ فَلَيْسَ يَحْتَاجُ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ.
وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَسْمَاءً لِغَيْرِهِ يَدْعُوهُ بِهَا(59).
فقد كان عارفاً بنفسه قبل اختيار الأسماء لغيره، فعلمه أزليٌّ، وكان عالماً بما سيخلق قبل أن يخلق، وليس علمه وقدرته بشيءٍ آخر زائدٍ على نفسه، وإلا تعدد القديم. وهذا معنى عينيَّة الصفات للذات. وهي غير الصفات والأسماء المخلوقة التي اختارها لعباده كي يدعوه بها.
وتظهر خلاصة الكلام في سؤالين:
1. هل صفات الله (كالعلم والقدرة) أزلية؟
الجواب: نعم، بأدلة قطعية، عقلية ونقلية.
2. هل هناك أدلة على نفي أزليتها وأنها مخلوقة؟
الجواب: هناك رواياتٌ قد يُدعى ظهورها في كون الصفات مخلوقة (مَشِيَّتُهُ وَاسْمُهُ وصِفَتُهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مُدَبَّر) (وَالأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ مَخْلُوقَاتٌ).
لكنَّها تُحمَلُ على الصفات والأسماء التي خلقها الله تعالى ليعرفه بها الخلق، لا على صفات الذات، لأنَّه لولا ذلك لزم أن يكون تعالى قبل خلق الخلق غير عالم، وغير قادر، وهذا باطلٌ بلا ريب. فالعلمُ والقدرة ذاته تعالى.
المحور الرابع: الصفات الثبوتية والصفات السلبية
يوصفُ الله تعالى بأنَّه واحدٌ عالمٌ قادرٌ، وتُصَنَّفُ هذه الصفات بأنَّها صفاتٌ ثبوتيَّة، لأننا نثبت بها صفةً لله تعالى، ولكن هذه الصفة ليست شيئاً مغايراً له تعالى كما تقدَّم.
ويوصَفُ الله تعالى بأنَّه غير مركب، وغير متجزئ، وأنه لا يجهل شيئاً، ولا يعجزه شيء، وأنه ليس بجسمٍ، وأنه لا يحلُّ في الأماكن، وتُصنَّفُ هذه الصفات بأنَّها صفاتٌ سلبيَّة، إذ أنّها تعني سلبَ شيءٍ كسلب التركيب والجسمية والحلول وما شابه ذلك.
وههنا احتمالات في كيفية فهم هذين الصنفين من الصفات:
الاحتمال الأول: أن ترجع الصفات السلبية إلى صفاتٍ ثبوتية
بأن يُقال: ثَبَتَ أنَّ الله تعالى واحدٌ: (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)(60)، وهو يلازم نفي الشَّريك: (لا شَريكَ لَهُ)(61)، ونفي التركيب والأجزاء.
فيرجع نفي التركيب والأجزاء إلى إثبات الوحدانية.
وبما أنَّ كلَّ صفةٍ تنفي ضدَّها، فإذا أثبتنا العلم فقد نفينا الجهل، للملازمة بين إثبات الأول ونفي الثاني، فقولنا: الله ليس بجاهل، يرجع لثبوت العلم.
وقولنا أنّ الله لا يعجزه شيء: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْض)(62) يرجع إلى إثبات قدرته تعالى: (إِنَّهُ كانَ عَليماً قَديراً)(63).
ولعلّه إلى هذا المعنى أشار الشيخ الكليني رحمه الله بقوله:
وَصِفَاتُ الذَّاتِ تَنْفِي عَنْهُ بِكُلِّ صِفَةٍ مِنْهَا ضِدَّهَا، يُقَالُ: حَيٌّ وعَالِمٌ وسَمِيعٌ وبَصِيرٌ وعَزِيزٌ وحَكِيمٌ غَنِيٌّ مَلِكٌ حَلِيمٌ عَدْلٌ كَرِيمٌ.
فَالعِلْمُ ضِدُّهُ الجَهْلُ، والقُدْرَةُ ضِدُّهَا العَجْزُ، والحَيَاةُ ضِدُّهَا المَوْتُ، والعِزَّةُ ضِدُّهَا الذِّلَّةُ، والحِكْمَةُ ضِدُّهَا الخَطَأُ، وضِدُّ الحِلْمِ العَجَلَةُ والجَهْلُ، وضِدُّ العَدْلِ الجَوْرُ والظُّلْمُ(64).
وهكذا يلزم من إثبات كلِّ صفةٍ نفيُ ضدِّها.
ومثلُ هذا المعنى ليس بعيداً عن لسان النُّصوص الشريفة، كما روي عن الصادق عليه السلام:
النُّعُوتُ نُعُوتُ الذَّاتِ، لَا تَلِيقُ إِلَّا بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَالله نُورٌ لَا ظَلَامَ فِيهِ، وَحَيٌّ لَا مَوْتَ لَهُ، وَعَالِمٌ لَا جَهْلَ فِيهِ، وَصَمَدٌ لَا مَدْخَلَ فِيهِ، رَبُّنَا نُورِيُّ الذَّاتِ، حَيُّ الذَّاتِ، عَالِمُ الذَّاتِ، صَمَدِيُّ الذَّاتِ(65).
فإثبات كلِّ صفةٍ يلازم نفي ضدِّها، وقد وصف الله تعالى نفسه بالصفات الثبوتية، فيلزم من ذلك نفي أضدادها.
فلو قلنا أنَّ الصفات الثبوتية كلِّها ترجع إلى صفاتٍ سلبية، لكان مآل قولنا في الحقيقة تعطيل نسبة الصفات لله تعالى.
فإنَّ معنى ذلك عدم ثبوت العلم حقيقة ولا الحياة ولا القدرة، بل نفي الجهل والموت والعجز فقط.. وهو من مصاديق التعطيل الذي تقدَّم نفيه من الإمام عليه السلام.
فلو قلنا: إنّ الكمال يعني نفي النقص فقط، يكون الله تعالى إذا سُلوباً فقط! بمعنى أنه: ليس جاهلاً.. وليس عاجزاً.. وليس ضعيفاً!
لكنه حقيقةً: غير عالم! وغير قادر! وغير قوي!
وهذا هو التعطيل بعينه.
تماماً كمن قال إنه: لا شيء! فقد أبطله ونفاه وعطّله.
لذا قلنا هناك: هو شيء لا كالأشياء.
وقلنا هنا: هو عالم لا كأيّ عالم.
قال المجلسي رحمه الله:
وأما الصفات الحقيقية: فالحكماء والإمامية على أنها غير زائدةٍ على ذاته تعالى، وليس عينيَّتُها وعدم زيادتها بمعنى نفي أضدادها عنه تعالى، حتى يكون علمه سبحانه عبارة عن نفي الجهل ليلزم التعطيل(66).
وهذا القولُ هو قولُ الإماميَّة هَرَباً مِنَ التعطيل.
وهو ظاهرٌ في نفي الإمامية رجوع الصفات الثبوتية إلى سلبية.
فإذا ضممت لذلك:
1. قولهم بأنَّ الصفات عين الذات.
2. وقولهم أن لا شكَّ في كون (السلوب والإضافات زائدةً على الذات)(67).
علمتَ أنَّ الصفات الثبوتية الحقيقية هي عينُ الذَّات فقط، وأنَّ (السلوب) أي الصفات السلبية، و(الإضافات) أي صفات الفعل، زائدةٌ على الذَّات، وما كان زائداً على الذَّات لم يكن أزلياً، إلا أن يرجع إلى صفةٍ من صفات الثبوت، وهو المطلوب، فالجهل منفيٌّ عن الله تعالى منذ الأزل، لأنَّه راجعٌ إلى إثبات العلم له تعالى منذ الأزل.
نعم ههنا لا بدَّ من التمييز بين أمرين:
الأول: عدم رجوع الصفات الذاتية الثبوتية إلى سلبية في نفسه، لئلا يلزم التعطيل كما تقدَّم.
الثاني: رجوع الصفات الثبوتية إلى سلبية بمعنى أن المُدرَكَ من الصفات هو سلب الضدِّ فقط.
أي أنّا لما أثبتنا لله تعالى العلم، ولم تكن حقيقة هذا العلم قابلةً للإدراك عندنا، وكان لازمه نفي الجهل، كان السلبُ فقط هو المدرَك لنا، أي نفي الجهل، دون إدراك حقيقة العلم.
ولعلّه إليه يشير المقداد السيوري رحمه الله في شرحه على الباب الحادي عشر بقوله:
وإن شئت كان مجموع صفاته صفات جلال. فإنّ اثبات قدرته باعتبار سلب العجز عنه، وإثبات العلم باعتبار سلب الجهل عنه، وكذا باقي الصّفات. وفي الحقيقة المعقول لنا من صفاته ليس الا السّلوب والإضافات. وأمّا كنه ذاته، وصفاته، فمحجوب عن نظر العقول، ولا يعلم ما هو الّا هو(68).
فقوله: (المعقول لنا) إشارةٌ إلى ما ذكرنا.
وليس بعيداً أن يكون هذا أيضاً هو مراد الشيخ الصدوق رحمه الله حين أرجع الصفات الثبوتية إلى سلبية(69)، وإن لم يكن ظاهراً من كلامه، وهو الذي روى روايات نفي التعطيل، وعينية الصفات مع الذات.
وعلى هذا القول قَد يُقال برجوع الصفات السلبية إلى صفةٍ سلبيةٍ واحدة، ثم رجوع هذه السلبية إلى صفةٍ ثبوتيةٍ أخرى.
قال الشيخ المظفر رحمه الله:
وأمّا الصفات السلبية التي تسمّى بصفات الجلال، فهي ترجع جميعها إلى سلبٍ واحدٍ هو سلبُ الإمكان عنه.. ثمّ إنّ مرجع سلب الاِمكان ـ في الحقيقة ـ إلى وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصفات الثبوتية الكمالية، فترجع الصفات الجلالية (السلبية) آخر الاَمر إلى الصفات الكمالية (الثبوتية)، والله تعالى واحدٌ من جميع الجهات، لا تكثّر في ذاته المقدّسة، ولا تركيب في حقيقة الواحد الصمد(70).
الاحتمال الثاني: أن ترجع الصفات الثبوتية إلى صفاتٍ سلبية
بأن يُقال: إنَّ إثبات العلم يرجعُ حقيقةً لنفي الجهل، فقولنا: (الله عالمٌ)، لا نقصد به إلا نفي الجهل عنه تعالى.
وهذا مخالفٌ لما عليه الإمامية كما تقدَّم، ويلزم منه التعطيل ببعض معانيه.
لكن ربَّما يتوهَّمُ أنَّه الحق، لأمرين:
الأمر الأول: وجودُ إشاراتٍ في بعض النصوص قد يُفهَمُ منها الدلالة عليه، أي رجوع الصفات الثبوتية إلى صفات سلبية.
منها قول الإمام الرضا عليه السلام:
وَإِنَّمَا سُمِّيَ الله تَعَالَى بِالعِلْمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَادِثٍ عَلِمَ بِهِ الأَشْيَاءَ.. كَمَا أَنَّا لَوْ رَأَيْنَا عُلَمَاءَ الخَلْقِ إِنَّمَا سُمُّوا بِالعِلْمِ لِعِلْمٍ حَادِثٍ إِذْ كَانُوا فِيهِ جَهَلَةً.. وإِنَّمَا سُمِّيَ الله عَالِماً لِأنَّهُ لَا يَجْهَلُ شَيْئاً، فَقَدْ جَمَعَ الخَالِقَ والمَخْلُوقَ اسْمُ العَالِمِ واخْتَلَفَ المَعْنَى(71).
بتقريب أنَّ أصل التسمية بالعالم يرجع إلى نفي الجهل.
والحال أنَّ الحديث لا يدلُّ على ذلك، فإنَّ الإمام عليه السلام بعدما بيَّنَ في الحديث أنَّ الاسم الواحد قد يجمع معنيين مختلفين كما في الأسد والإنسان الموصوف بأنه أسد، بيَّنَ أن العلم في الله تعالى ليس كالعلم في المخلوقين، فعلمُ الله تعالى غير حادثٍ، بغير أداةٍ، بغير رويَّة وتفكُّر، بغير حَدٍّ (لا يجهل شيئاً).
بينما علم المخلوقين ليس كذلك، فإنه علمٌ بعد جهلٍ، ربما يعلمون يوماً ويجهلون آخر. فلا يكون الحديثُ دالاً على ذلك بوجه.
ومن النصوص التي قد يستدلُّ بها على ذلك قول الإمام عليه السلام:
فَقَوْلُكَ إِنَّ الله قَدِيرٌ: خَبَّرْتَ أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، فَنَفَيْتَ بِالكَلِمَةِ العَجْزَ، وَجَعَلْتَ العَجْزَ سِوَاهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُكَ: عَالِمٌ، إِنَّمَا نَفَيْتَ بِالكَلِمَةِ الجَهْلَ، وَجَعَلْتَ الجَهْلَ سِوَاهُ(72).
وهو كذلك لا يدلُّ على المطلوب، لأنَّ نفي العجز عند إثبات القدرة يمكن أن يكون بالملازمة كما تقدَّم، بل هو المتعيِّن، فمن أثبت شيئاً نفى ضدَّه، والجهل ضدُّ العلم، فمن أثبت العلم نفى الجهل من باب نفي الضدَّ لا من باب التفسير.
وبذلك ينسجم قولهم عليهم السلام: إنّ (العلم ذاته) (والقدرة ذاته) مع قولهم بأنّ العلم ينفي الجهل، والقدرة تنفي العجز.
فلا يكون الحديثُ دالاً على ذلك بوجه.
أما الأمر الثاني: الذي يوهِمُ وجود مانعٍ من الاحتمال الأول، فهو أنَّ الصفات الثبوتية لو لم ترجع إلى الصفات السلبية لزم إما تعدُّد القديم، أو الشبه بين الخالق والمخلوق. والأول لا يتوافق مع الوحدانية، والثاني لا يتوافق مع تنزيه الله تعالى.
لكن كلا هذين الأمرين لا يلزمان على مذهب الإمامية:
أمّا الأول، فلأنهم قائلون جميعاً بكون الصفات عين الذات، فلا يتعدَّد القديم.
وأما الثاني، فلأنهم جميعاً ينفون الشبه بين الخالق والمخلوق، ولا يثبتون له صفةً كصفاتهم كما تقدَّم.
قال الشيخ المظفر رحمه الله:
ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية؛ لمّا عزّ عليه أن يفهم كيف أنّ صفاته عين ذاته، فتخيّل أنّ الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب؛ ليطمئنّ إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثّرها، فوقع بما هو أسوأ؛ إذ جعل الذات التي هي عين الوجود، ومحض الوجود، والفاقدة لكلّ نقصٍ وجهة إمكان، جعلها عين العدم ومحض السلب، أعاذنا الله من شطحات الاَوهام، وزلاّت الاَقلام(73).
ونحنُ كما أشرنا سابقاً لا نعتقد أن الشيخ الصدوق رحمه الله قد التزم بهذا الاحتمال وإن كان ظاهراً من بعض كلماته، فإنَّا نُرجِّحُ أن يكون مراده هو ما ندركه من صفات الذات، وهو السلب فقط، لا أنَّ حقيقة الصفة هي محض السلب وعين العدم.
الاحتمال الثالث: أن لا ترجع إحدى الصفات للأخرى
بأن يُقال: إنَّ بعضَ الصِّفات ثبوتية، وبعضُها سلبيَّة، ولا يلزم أن ترجع فئةٌ منهما للفئة الأخرى.
فالله تعالى عالمٌ، والله تعالى ليس بجاهل، وكلٌّ منهما صفةٌ لا ترجع للأخرى.
لكنَّ يُلاحظ على هذا القول، أنَّ الصفات الحقيقية الثبوتية كالعلم والقُدرة أزليَّةٌ، وهي عينُ الذات، أمَّا الصفات السلبية فليست كذلك، إذ ليست حقيقتها سوى السَّلب والنفي، والسَّلبُ لا يصحُّ أن يكون عين الذَّات، إذ تصيرُ حينها الذات المقدَّسة (عين العدم ومحض السَّلب).
ثمَّ لو قلنا أنَّ الله تعالى (عالمٌ)، وأنَّه (ليس بجاهل)، ولم يرجع نفي الجهل لإثبات العلم، بل كان صفةً بنفسه، فأيُّ معنى يثبته نفي الجهل هنا غير ثبوت العلم؟
فالحقُّ أنَّ صفات السَّلب يُرادُ منها نفي النقص والضعف والعجز والحاجة والفقر وأمثال ذلك..
وهو منفيٌّ فعلاً لثبوت الكمال والقدرة والقوة والغنى لله تعالى، بل لازمٌ لثبوت صفات الكمال، فلا تكونُ الصفات السلبيَّة صفاتٍ مستقلَّةٍ، بل راجعة إلى إثبات الكمال لله تعالى.
بهذا يظهر عدم تمامية الاحتمالين الأخيرين، وأنَّ الحقَّ في الاحتمال الأول، أي إرجاع الصفات السلبية إلى صفاتٍ ثبوتيَّة، تنفي أضدادها.
صفوة القول وثمرته
1. إنَّ التوحيد حصنُ الله تعالى، وقبوله مشروطٌ بولاية آل محمدٍ عليهم السلام.
2. إنَّ حقيقة التوحيد معزولةٌ عنّا، فالله تعالى أجلُّ وأعظمُ من أن يُدرَك بعقلٍ أو قلبٍ أو وهمٍ أو أيّ أداةٍ أخرى.
3. إنَّ المُدرَكَ من التوحيد هو وجود الإله العظيم الغنيّ المتصف بصفات الكمال لنفسه، الذي لا تعدُّد فيه ولا تركُّب.
4. لا مشابهة بين الله تعالى وخلقه في شيء من الصفات، ومَن شَبَّهَهُ بخلقه فهو مشرك.
5. إنَّ نفيَ التعطيل واجبٌ كنفي التشبيه، فلا يصحُّ إنكار وجوده تعالى، ولا نفي صفاته، ولا شيئيته.
6. إنَّ مذهب آل محمدٍ عليهم السلام هو: الإثبات بغير تشبيه، فنثبت لله تعالى الوجود والقدرة والعلم والحياة وسائر الصفات، من غير تشبيه لها بشيء من صفات الخلق.
7. لا يصحُّ وصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، وما نعقله من أسماء أو أوصاف لله تعالى هي ما تعبَّدَنَا بها وجعلها طريقاً إليه.
8. إنَّ الاشتراك في الصفة بين الله تعالى ومخلوقاته هو اشتراكٌ في الاسم لا في حقيقة المعنى المُدرَك، فليس علمه كعلم أحدٍ منا، ولا قدرته ولا حياته.
9. إنَّ كلَّ صفةٍ تغاير الموصوف منفيَّةٌ عن الله تعالى، لأنه تعالى كان موصوفاً بالعلم والقدرة والحياة منذ الأزل، دون تعدُّدٍ فيه.
10. إنَّ ثبوت الصفات في الأزل يعني أنها ليست شيئاً مغايراً له، فلو كانت مغايرة له لزم الشرك، وهذا معنى عينية الصفات للذات.
11. إنَّ صفات الذات واحدةٌ في حقيقتها، مختلفةٌ في مفاهيمها، وهذه المفاهيم والألفاظ والخواطر المُدرَكة كلها مخلوقةٌ لا تعني حقيقة الذات الواحدة غير المتعددة.
12. إنَّ كلَّ صفةٍ ثبوتية تنفي عن الله تعالى ضدَّها، فالعلم ينفي الجهل، والقدرةُ تنفي العجز، وهكذا.
13. إنَّ مذهب الإمامية لا يقرّ بأن معنى العلم هو نفي الجهل، بل لازمه ذلك.
14. إنَّ الصفات الثبوتية وإن كانت غير مُدرَكَةٍ لنا بكنهها كذات الله، بل المُدرَكُ لنا منها نفي السَّلب، إلا أن هذا لا يلازم إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبيَّة، بل الحق إرجاع الصفات السلبيَّة إلى الثبوتية.
والحمد لله رب العالمين
(1) الأنبياء25.
(2) التوحيد للصدوق ص20.
(3) التوحيد للصدوق ص18.
(4) الكافي ج1 ص93.
(5) الأمالي للطوسي ص479.
(6) بصائر الدرجات ج1 ص413.
(7) الأنبياء7.
(8) كتاب سليم بن قيس ج2 ص885.
(9) الشورى11.
(10) التوحيد للصدوق ص69.
(11) الأعراف54.
(12) الأنبياء22.
(13) البقرة20.
(14) الملك1.
(15) النور35.
(16) التغابن18.
(17) الكشف الوافي ص583.
(18) شرح الكافي للمازندراني ج3 ص82.
(19) الكافي ج1 ص78.
(20) الكافي ج1 ص84.
(21) الكافي ج1 ص100.
(22) الأنعام19.
(23) الشورى11.
(24) التوحيد للصدوق ص107.
(25) التوحيد للصدوق ص104.
(26) التوحيد للصدوق ص104.
(27) كتاب العين ج6 ص295.
(28) شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم ج6 ص3594.
(29) نقله في مفردات ألفاظ القرآن ص471.
(30) تفسير العياشي ج1 ص373.
(31) التوحيد للصدوق ص61.
(32) التوحيد للصدوق ص439.
(33) الكافي ج1 ص119.
(34) الكافي ج1 ص120-121.
(35) الكافي ج1 ص117.
(36) الشورى11.
(37) الكافي ج1 ص103.
(38) فاطر38.
(39) البقرة284.
(40) الشورى11.
(41) نهج البلاغة ص39.
(42) الكافي ج1 ص129.
(43) عيون أخبار الرضا عليه السلام ج1 ص150.
(44) التوحيد للصدوق ص140.
(45) الكافي ج1 ص107.
(46) الكافي ج1 ص83.
(47) التوحيد للصدوق ص140.
(48) التوحيد للصدوق ص144.
(49) التوحيد للصدوق ص139.
(50) التوحيد ص130.
(51) التوحيد ص141.
(52) حقائق الإيمان ص146-147.
(53) الكافي ج1 ص113.
(54) عقائد الإمامية ص31.
(55) أصول المعارف ص26.
(56) شرح الباب الحادي عشر ص60.
(57) الكافي ج1 ص116، والتوحيد ص193.
(58) التوحيد ص433.
(59) الكافي ج1 ص113.
(60) البقرة163.
(61) الأنعام163.
(62) فاطر44.
(63) فاطر44.
(64) الكافي ج1 ص112.
(65) التوحيد ص140.
(66) مرآة العقول ج2 ص10.
(67) مرآة العقول ج2 ص10.
(68) شرح الباب الحادي عشر ص49.
(69) التوحيد ص148.
(70) عقائد الإمامية ص32.
(71) الكافي ج1 ص121.
(72) الكافي ج1 ص117.
(73) عقائد الإمامية ص32.
تنويه:
ألقي هذا البحث في كربلاء المقدَّسة في (مؤتمر الإمام الحسين عليه السلام الدولي الخامس) الذي أقامته العتبة الحسينية المقدَّسة (دار القرآن الكريم) تحت عنوان (ثقلان لن يفترقا)، بالتعاون مع:
1. كليَّة العلوم الإسلامية في جامعة وارث الأنبياء
2. كليَّة العلوم الإسلامية في جامعة كربلاء
3. كليَّة الفقه في جامعة الكوفة
4. كليَّة العلوم الإسلامية في جامعة بغداد
5. كليَّة العلوم الإسلامية في جامعة بابل
وذلك يوم السبت 26 ربيع الثاني 1445 هـ الموافق 11-11-2023 م
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat