صفحة الكاتب : ادريس هاني

وتسألني عن مفهوم العصمة
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
     سألني آحادهم من مستهلكي بعض السلع الفاسدة(بيريمي)من سوق القبنجيات، وهذه المرّة نطّ نطّة بطّية نحو موضوع العصمة، وهكذا ظنّ ظن السوء أنّه حشرني في الزّاوية، حيث لجأ إلى هذا اللّون من المغالطات التي نسمّيها مغالطة التحشيد والتوريط..تغيير الموضوعات والنطّ من ركح إلى آخر رياضة مغالطة لا تمرّ مرور الكرام أمام حجاجي خبر كل درجات السلم الحجاجي..وعليه، فالجواب حول العصمة كما سأخبرك ها هنا جواب لن تجده عند أهل الكلام ولا الفقهاء ولا أولئك ولا هؤلاء..إنّه جواب بديهي يرفع القلق ويبدّد الإلتباس ويلجم القزقزات القبنجية:
أثير هذا النقاش يوما في مجلس مؤلّف من دكتور عراقي مناظراتي تلفزيوني، ومتشيّخ تونسي متملّق كان حظّه من النقاش تشويش والتباس وآخرون متفرّجون..كان الحديث حول العصمة..كان رأيي هو لماذا لا يتم تجديد القول وتطوير الاستدلال في العصمة..وبينما بدأت أشرح رؤيتي تلك حتى قفز الداعية ولحق به تقليدا المتشايخ وضاعت الحكاية..حوار طرشان..قال الدكتور العراقي وقد ظنّوا أنّني من قبيلة المثقفين الذين لا باع لهم في العلوم الإسلامية، إن كلامك هذا خطير ثم بدأ يشرح مفردات ومفاهيم استعملتها وأرجعنا للشروح منتصرا لنفسه لا للموضوع، ولكنه لغا ولم يقل شيئا..قلت يومها: إنّ العصمة ملكة..والملكة أمرها تشكّكي قابل للزيادة والنقصان..ومن هنا لدينا معصوم وأعصم..تتطور هذه الملكة إلى المستوى الذي يكون به المعصوما معصوما.. وبدأت أتحدث بأدلة كثيرة..ولكن بعد التشويش ضاع كلّ شيء..ولكن حينما التقيت مع بعض العلماء والفلاسفة آخرهم د. غلام الديناني، أقرّني على ذلك وقال هذا بديهي جدّا..وها هي نظريتي في العصمة أضعها بين أيديكم موجزة ولكم أن تتأملوها:
إن العصمة كما ذكرنا ملكة قابلة للتضعف والاشتداد..وهي حتما لها بداية ولو خارج الفعلية بحيث من الممكن أن نقف على حالة الإنسان الخطّاء الذي لا يفعل إلا الخطأ ولكن يظلّ يمتلك ملكة العصمة بالقوّة..أي استعدادا فطريا لكي لا يخطئ..وهذا رهين بوضعه الذاتي ومحيطه وشروطه التربوية والبيئية..فكونه إنسان يعني كونه معصوم بالقوة أو بالفعل..والتمايز هنا بين المعصوم وغيره هو تمايز في درجة العصمة ونسبتها لا في أصل الملكة..ولماذا هي أمر إنساني؟ لأنّ العصمة لا تعني أن لا تخطئ بل تعني كيف أن لا تخطئ..فالحيوان معصوم لأنّه لا يخطئ وميوله الغريزية ميكانيكية لها ضوابط وقواعد لا يحيد عنها..فأن لا تخطئ ليس هو الفعل الإنساني بل كيف لا تخطئ هو السّر..وفي الحديث:"خير الخطائين التوابون"..أي ان تتوب وتستعصم بالله..الحيوان لا يخطئ والنبات لا يخطئ والجماد لا يخطئ..ولكن الإنسان يخطئ لأنّه كائن لا يستقر على مستوى واحد، فقد زود بقابلية للكمال وهذا لا يتم إلا إذا منح إمكانية للسقوط والعلوّ..وحده الإنسان بخلاف الحيوان يمكن أن يخرج من حدّ إنسانيته نحو الحيوانية أو الملائكية وهو ما سميته بالتخارج النوعي..فله القابلية ان يكون خطّاء على طول ومعصوما على طول..أقصد بالتخارج النوعي الحالة المخصوصة لماهية الإنسان بوصفه كائنا قلقا تتحقق هويته الإنسانية بالاكتساب، فهو يعرف كإنسان بالقوة أما بالفعل فهو لا ماهية له إلاّ على القول بالنسبية..إنه إنسان غير مكتمل أو فاقد للإنسانية..وكما هو قادر على بلوغ الأقصى في الخطيئة كذلك هو قادر على بلوغ الأقصى في العصمة..وبين هذه وتلك غالبية الخلق..فكما في دنيا الناس حالات من الإجرام لم يبلغها شيطان رجيم فكذلك فيهم حالات من الصمة لم يرق إليها جناح..التعريف النسبي للإنسان يتيح لك ان تعرفه بالقوة من باب التمييز لكن في مستوى الفعل هو قابل أن يعرف بحسب مستوى الملكة إيّاها، فقد تعرفه بالحيوان(كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث)..(كمثل الحمار يحمل أسفارا)..(وجعل منهم القردة والخنازير)..(إن هم كالأنعام)...وقد تعرّفه بالرّباني الإلهي:(وكم من نبي قاتل معه ربّيون كثير)..(لولا ينهاهم الربانيون والأحبار )..لا يوجد تعريف واحد للإنسان بالفعل ولكن هناك تعريف تقريبي له بالقوة..وليس ثمة كمال واحد بل كمالات..كل كامل يرتفع درجات عن الآخر...هم طبقات في الحظوظ الرمزية كما هم طبقات في حظوظهم المادية..والآلة هي الاجتهاد في النظر والجهاد في التدافع والمجاهدة في السلوك..فمن لا ينظر ولا يتدافع ولا يسلك يكون جامدا، ويمكن تعريفه بالجماد:(وقودها الناس والحجارة)...وكون الآية تقول:(والله يعصمك من الناس)، أي وجود الملكة التي تدفعك لاختيار الصحيح، حيث ليس هذا ميسرا إلا للعقلاء، وهو الذي يحدد كيف أنك لا تخطئ ليس على نحو الجبر الغريزي الميكانيكي بل على أساس الاختيار الحر والعشق للفعل الخيّر..وحينما تخالف هواك ولا تتخذه إلاها ويصبح هواك تبعا لله وليس إلهك هواك ، يصبح الله عاصمك من الناس، وأنت من الناس، أي يعصمك من نفسك..وهذا يقتضي سلوكا ورياضة وسفرا روحيا تكتسب به عصمة..وحيث ليس كل الناس يسافرون روحيا كان أغلب من في الأرض خطّاؤون وهذا طبيعي جدّا..إن الإنسان منتج لتناقضاته الكثيرة..واللاّمفكر فيه برسم الغفلات هو أكبر من المفكر فيه..وهذه المساحة من الوعي ليست هي المعصومة بفعل العقل الأداتي، فهذا العقل ليس عاصما بل قد يكون لحظة من لحظات الإنسان الخطّاء، بل إنّ لحظة الوعي هذه هي مصدر الأخطاء، ذلك لأنّ اللاّوعي لا يخطئ. هذا العقل غير العاصم هو الذي جعل ابن عربي نفسه ينزّه الخيال عن الخطأ ويخطّئ العقل. إنّ اللاوعي الذي يتصرف وفق سنن سلوكية دقيقة ليس هو مصدر الخطأ، بل الوعي وطريقة تدبيره للخطايا والصواب هو المسؤول عن الخطأ، لذا فإنّ المخطئ محاسب والمجنون غير محاسب. في بحث عن مظاهر الخطأ والنسيان وغيرهما في الحياة اليومية يؤكد فرويد على قضية حساسة في تلك الأجوبة التي قدمتها المرة وصادفت الحقيقة لأسباب تتعلق بقوة اللاشعور، حيث عبّر فرويد بالقول: اللاّشعور يحسب بدقّة...إنّ المعصووم له دوافع لا شعورية تحول بينه وبين الخطأ..ولا يمكن أن يصبح المعصوم كذلك إلا بعد أن يصبح فعله لا شعوريا من كثرة الرياضة..كل واحد منّا له جانب عصم منه بينما آخرون لن يعصموا منه..فقد تكون معصوما عن ابتداء الناس بظلم عن سبق إصرار وترصّد بينما آخرون يتلذذون بظلم الناس..قد تكون معصوما عن السرقة وآخرون لا يمكنهم ذلك..في نظر فرويد في علم علم النفس المرضي للحياة اليومية يعزوا قضية التذكر والنسيان لأسباب لا شعورية، تتعلق بالإرادة العميقة للنسيان..وعبر أدلة ميدانية كثيرة أكد على أنّنا ننسى لأننا نريد ان ننسى. والمفهوم من وراء ذلك أنّ الوضعية النفسية للإنسان هي التي تحدد نزوعه للخطأ أو الصواب..كان من المفترض أن يكون كل الناس معصومين لو سلكوا مسلك العصمة، ولكن بقيت فيهم بعض من آثارها، ولذا قليلون من تمكّنوا من اكتساب هذه الملكة..إنها ليست شيئا أصعب من كل ملكة أخرى تتطلب تنمية ورياضة..وأمّا الذين ارتقوا بها إلى صفة الأولوهية والملائكية فهو تبسيط وجهل بمدارك التنزيه..أينك والألوهية حتى لو طرت في السماء وأتيت بكل المعجزات التي هي تعطيل قانون طبيعي بقانون طبيعي آخر..هؤلاء الذين يعبدون الله على سبعين حرف يحسبون كل رقي وكمال في الإنسان ألوهية، بينما التشبه بالله مشروع فيما هو مطلوب من طرق الوصول للكمال:(عبدي أطعني أجعلك ربانيا تقول للشيء كن فيكون)..(حتى أكون عينه التي يبصر بها .. ويده التي يبطش بها)...وأما التهويل بالملائكة فاعلم أنّ الإنسان مخلوق لله كما الملائكة وأنه اكرمه ونعمه وفضله على الخلائق وجعل الملائكة خادمة له، فالإنسان الكامل في مرتبة تفوق الملائكة، فلا مجال للتهويل..إن العصمة لا تطلق على الحيوانات والنباتات والجمادات مع انها لا تخطئ وتطلق في حق الإنسان الخطّاء..ولو ان العصمة كانت تطلق على من لا يخطئ لأطلقناها على الحيوانات أيضا، فأن تكون معصوما تشترط أن تكون إنسانا أولا ثم توجد لديك ملكة اختيار الصواب بدافع الإرادة الخيرة..إنّ وجودك ينمو ويكتمل وتكتمل معه جملة الملكات التي يحتاج غليها الإنسان المتكامل أو الكامل..فاجعل الله مكان هواك تعصم..وبمقدار ما تستطيع ذلك تكتسب عصمة...فأنت معصوم بالقوة، وحتى تكون معصوما بالفعل اسلك سبيل العارفين..وهناك فقط سيظهر لك أن العصمة ممكنة في حق كل الخلائق، كما تدرك أنّ المعصوم ليس سوى معلمّ الإنسانية ومثالها والأبطال الذين سلكوا ونجحوا وسبقوك لعصمة هي ممكنة في حقّك ولكن الرحمة الإلهية أعطتك الحرية الكاملة لتكون خطّاء غير معصوم، وحاسبتك بالرحمة لا بالعدل...

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/09/21



كتابة تعليق لموضوع : وتسألني عن مفهوم العصمة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net