ألم ندخل بعد عصرنا المأساوي
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ولا يستقيم حال فكر أمّة إن هي افتقدت إلى الوعي بمشكلاتها الحضارية والإرادة للتغيير..هذا الوعي وتلك الإرادة قد ينتجان عن الحالة المأساوية التي هي إحساس جماعي..فالفكر الذي ينبثق عن هذا الإحساس المأساوي هو الذي يفتح مجالا لتجدد الإرادة وميلاد فكر الخلاص..إنّ استشعار الخلاص لا يقوم من دون تراجيديا..ولا يكفي وجودها مع أمّة فاقدة للإحساس، أمة تمكنت منها العبودية، بل لا بد من الإحساس العارم باللحظة التاريخية المأساوية واستيعاب الشروط التاريخية لميلادها، هنا ينطلق الفكر الخلاق الذي يلهم فكرة الخلاص ويفسح المجال أمام تدفق إمكانيات أخرى..نحن لا نفعل سوى أن نواكب مراحل هذه المأساة وعن منافذ لتحقيق التحرر الممكن من اللحظة المأساوية التي تخلق هي الأخرى عوامل الممانعة لحماية وتأبيد البنية المأزومة..يصبح العقل أزمويا متى ما انخرط في إعادة إنتاج البنية المأزومة واستسلم لدوراتها..يقال هذا للتخفيف من حدّة الصراع الأيديولوجي الذي مهما بدا مهما في تفاصيله إن هو إلاّ محاولة من محاولات الانعتاق من البنية المغلقة على شروطها التاريخية..هنا يبدو صراع الأيديولوجيات أشبه ما يكون بحرب أهلية في مجال يعيش الانسداد..كل أيديولوجيا تسعى جهدها لتمثيل الواقع وتوفير نظرية العمل الجديرة بتحرير المجتمع..الأيديولوجيا هي إذن جزء من هذا الواقع المغلق والمأزوم..وهنا لا أهمية للأيديولوجيا الواصفة إن هي انخرطت في النقاش المعياري وزجت بنفسها في المقاربات التفاضلية التي تضعنا أمام ضرب من علم كلام الأزمات..إنّ الأيديولوجيا هي برنامج عمل أكثر مما هي معنية بتمثيل الواقع كما هو..لقد اهتمت الأيديولوجيا بهذا الجانب المعياري حتى مع انبثاق الماركسية التي خففت من المهام التفسيرية للفلسفة من أجل مشروع فلسفة تغييرية..لقد ارتدت الأيديولوجيا التي انبثقت عن الفكر الفلسفي إلى دورها التقليدي، أي تفسير العالم..وهنا بات الصراع حول من يمثل العالم في غياب الرغبة في التغيير..لم يعد الكائن مهتما بتفسير العالم ولا حتى بتغييره..إنها حالة اليأس التي ترسم سكون بنياتنا المأزومة..هناك مسؤولية يتحمّلها المفكّر باعتباره يحترف صياغة مشاريع الحلول ويوفّر خططا مفهومية لفهم الواقع ومن ثمة العمل على تغييره..لكن هناك السياسي الذي نقصد به رجل السلطة الذي لا يأبه بدور الفكر في عملية التغيير، لأنه أساسا يرفض التغيير..السياسي يؤمن بقواعد لعبة ثابتة في مجال يجب أن لا تتغير فيه قوانين اللّعب..هو يعشق التكرار..ويفكّر في السلطة والاستثمار في المأساة..وفي حمأة هذا الصراع يحتوي السياسي المثقف ويجعله ينتج هو الآخر التكرار..يجعله ينتج مفاهيم/أقفال ضدّ التغيير والخلاص..يحوّل مثقف السلطة المأساة إلى قضية أنطولوجية وليس إلى قضية تاريخية..وذلك لأنّ غايته القصوى هو ممارسة الدور الأثير للأيديولوجيا حينما تعانق الزيف، ألا وهو الإقناع بضرورة الاستسلام للواقع وتهويل قضية التغيير..ينتج هذا النوع من المثقفين شكلا من الفهم الأسطوري للأزمات..تصبح وظيفة هذا الفهم هو شلّ الإرادة وإيجاد جرح نرجيسي جديد قوامه استحالة التغيير..هذا الإحساس بالجرح يضع الكائن أمام سؤال أنطولوجي خطير، هو: ما الجدوى من وجود كائن عاجز عن تغيير شروطه التاريخية.؟.الإحساس باللاّجدوى واليأس والمرارة والعبث..تظلّ هنا وظيفة المؤرّخ خطيرة إذا ما اهتدى إلى وعي بأهمية التأريخ في زعزعة الوقائع التي تكتسب لها وضعا أنطولوجيا قاهرا..هنا فقط سيخشى السياسي من المؤرّخ كما نحى العروي، حيث المؤرّخ يذكّر ويتذكّر..ومهمة السياسي قائمة في الحقيقة على النسيان..السوسيولوجي أيضا يصبح خطيرا إذا اهتدى إلى وعي بأهمية اللحظة التاريخية لانفتاح البنى على إمكاناتها الأخرى..لكن هذا عبثا يحصل لأنّ قبيلة المؤرخين والسوسيولوجيين تخضع للقانون الانقسامي، فهي منقسمة بين جبهتين، لكل جبهة مؤرخها وسوسيولوجيها..نؤرخ الثورة ومؤرّخ السلطة..سوسيولوجي الثورة وسوسيولوجي الرجعية..هذا ينتج الحقيقة وذاك ينتج الزيف..في النهاية لا بدّ من التأكيد على مكر البنية..فهي تتجاوز المفكّر والسياسي..لأنّها تنتج شروطها التاريخية في لحظات انزلاق الأيديولوجيات الزائفة..يظهر حينئذ خلاص البنية في قصيدة شعر عابرة..في واقعة رومانسية..في منعطف لامعقول..البنية خلية نائمة..وأنزيماتها تعمل في سكون..وكم يبدوا هذا الكائن مخادعا لنفسه وللآخر حينما يعتقد أنه احتوى البنية ومكرها..تداهم الوقائع المؤرخ والسوسيولوجي الذي يحاول أن يتداركها كمنيرفا حال الغسق..تتجاوزه لأنّ أدواته غير مضمونة ولم ترق إلى عمق مكر البنية وقوانين تحوّلها..التحوّل البطيئ الذي ينتهي إلى الانفجار..يصبح المؤرخ والسوسيولوجي متخلّفا أمام بنية تبدو له صمّاء لكنها متقدّمة لا تشاركه تكتيكاتها..يصبح دور المؤرخ هنا أن يعيد صناعة زيف جديد بينما السوسيولوجي سينتظر سكون البنية ليسائل الأطلال..كان العالم أكثر حيوية حينما كان يعيش عصر الكهانة..على الأقل كان هناك من يتحدّث عن التغيير..التغيير الذي كانت تشترك فيه الآلهة وتلهمه الأساطير..اليوم لعل واحدة من مهام العولمة أنّها لا تأبه بالأسئلة الكبرى..تستطيع أن تشغلك بمنتوج تافه يحتوي العقل والمجال وأن تضمن لك فرجة ممتعة...
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat