صفحة الكاتب : ادريس هاني

الفطرة التي نجهلها
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
والفطرة المقصودة في الشرع الحنيف وتعاليمه المعقولة هي القاعدة التي يرتكز عليها اللطف الإلهي الذي يجعل الجنوح إلى الحق واضح الرجحان في ميزان العقل، وهي غير الجهل الأوّل..لقد مدحت الفطرة وهجي الجهل الأول..وهذه الفطرة في نظري تنقشع بسرعة وتتلاشى مثل الزيوت الطائرة عند تقشير البصل..ذلك لأنّ انوجاد الكائن في المحيط والبيئة يعيد تشكيل طبعه من جديد..وفي الغالب تسعى التربية للقضاء على الجهل الأول بالتعلّم ولكنها لا تعطي الفطرة حقّها في الصيانة..وهكذا ينسى الإنسان حظّا مما ذكّر وينسى فطرته وعقله..ولو خلي الإنسان لحاله لما اهتدى في دنيا منطقها النسيان و الإنساء..فلولا التربية لكان الإنسان كائنا برّيا من أذكى الكائنات ربما لكنه ليس أعقلها..ولا نوافق مذهب الدين الطبيعي لأنّ الإنسان ليس حتما يعرف ربه إن خلّي لنفسه وهو ما جعل بعثة الأنبياء حتمية ليثيروا للناس دفائن العقول ويذكروهم بمنسيّ نعمته..ولا يعرف الله بالعلم المصمم لكبح الجهل الأوّل بل بالشهود الذي يذكّر بمنسيّ الفطرة..وهنا لا مناصّ من برهان الصديّقين وليس للبراهين الأخرى أن تصمد في وجه النقض على طول الدليل..للنفس إلهامان على قدر من التساوي تجاه التقوى والفجور..ومرجح أحدهما يتحقق بداعي خارجي..وهذا دحض لمزاعم كثيرة منها ارتكاز الشاطبي على الفطرة التي قرنها بالجهل الأول وجعلها في مقابل الصنائع بينما الصنائع قد تتحقق مع الفطرة وعدمها..بالعقل النوراني أو الظلماني...والعقل الظلماني كما رأيت في بعض النصوص الكلاسيكية للمغاربة يكاد يكون مرادفا للعقل الأداتي كما عند هابرماس مع وجود الفارق دائما..ولدى بعض الرحالة المغاربة تقييم للمدنية الأوربية في رحلاتهم جعلتهم على خلاف مع رفاعة الطهطاوي يفصلون ولا يؤخذون بالانبهار المطلق، واعتبروها صناعات نابعة من العقل الظلماني.. وأنها لا تحجب غياب العقل النوراني..لقد اعتبر الشاطبي الفطرة من مقاصد الشرع، لكن بخلطه بينها والجهل الأول كان قد انتهك أكبر المقاصد وهو أنّ حفظ العقل لا يقوم بمناهضة الصناعة العلمية والتعمق في العلوم..وليس العقل بهذا المعنى سوى جدل بين ناظمه ومنتظمه وفق التقسيم الأثير لأندري لالاند..إنه يعيد إنتاج نفسه من خلال صنائعه..ومثل ذلك ابن تيمية وقد واجه المنطق في نقضه على المنطقيين بناء على الفطرة في خلط فاحش بينها وبين الجهل الأوّل..وقد فطن الغزالي لهذه العثرة في معيار العلم واعتبر مقولة الاستغناء عن المنطق بالفطرة خطأ..ولست أدري كيف عميت بصيرة من أشرب في قلبه عشقا تيميا أن يشتغل بالمنطق الذي حرّمه ابن تيمية ثم وبأثر رجعي نحاول أن نعيد إنتاج الموقف على أساس إرادة توسيع مسالك الدليل..والتيميون الذين زايدوا على العالم بالمنطق والبرهان من أمثال الجابري وطه عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي كانوا بالأحرى عاقّين لمن نصّبوه شيخا لهم في المنصوص والمعقول.. نعم لست أدري هنا من باب الابتعاد عن استقراء السبب، والذي هو في نهاية المطاف موقف سفسطائي تبريري ..ولا تذهب بك المذاهب فتخلط بين نقض ابن تيمية للمنطقيين وبين نقد كل من ابن عربي أو السهروردي لمقالتهم..فالنقد العرفاني تجاوزي والنقد التيمي ظاهري غير منتج بل مغالط..كما أن النقد العرفاني له بدائل ويرى تكامل الطرائق وعدم تناقضها وإنما بالفعل نستطيع القول أن نقد ابن عربي أو السهروردي للمنطقيين يراد به توسيع مجال الاستدلال خلافا لمزاعم طه عبد الرحمن الذي قال ذلك في حق ابن تيمية بينما كان موقف هذا الأخير من الصناعة المنطقية هي الهدم أصلا..بل كان هذا الحكم صحيحا لو عنى به ابن عربي أو السهروردي..الفطرة حينما تضمحلّ تفرض جهدا أكبر لاستعادتها..وهكذا يعود الخلق كما بدأ..مسيرة استعادة الفطرة هي أقوى من مسيرة رفع الجهل الأول..وأداتها ليس العقل الظلماني كما يقول الرحالة المغربي وليس العقل الأداتي كما يقول هبرماس بل بالعقل النوراني، عقل يقبض على مسالك العلل الأولى بذوق حضوري واستشعار للفقر الوجودي الذي يدفع نحو طلب الكمال..وكل ثقافة تشعرك بالاستغناء عن كمالاتك هي ثقافة متولدة من العقل الظلماني..ليست أزمة العقل الإنساني اليوم في وجوده أو عدمه، بل في فقدانه التوازن الذي يجعل الهيمنة للظلماني منه مما يجعل طريق الكائن باتجاه الباب المسدود..إنّ الصناعة هي وسائل التواصل الممكنة..وهي لا غنى عنها في إيصال حقائق الفطرة نفسها..لا توجد وسائل فطرية غير العلم الحضوري وهذا ليس متيسّرا لكافة الخلق..ذلك لأنّ العلم الحضوري هو فائق الدّقة والعمق إزاء العلم الحصولي..وإذا كان الحضوري يغنيك عن الوسائط في جهة الوصول فإنه لا يغنيك عن الوسائط في جهة التوصيل.. وثمة فرق بين عارف يملك فنّا للتبليغ وآخر لا يملكه..إنّ أزمة العرفان الكبرى كانت ولا زالت في عمومها أزمة تواصلية..إنّ القضية الأكثر تداولا في الفكر الديني والأقل بحثا وتحقيقا فيه هي قضية الفطرة..وأعتقد أنّ إعادة النظر في مفهومها وحده قد يجعلنا نحقق انقلابا كبيرا في المباني التقليدية لمفهوم الفطرة..الفطرة التي يجب أن تستعاد بمجرد الانوجاد وليست تلك التي تعتبر معطى لنا ونقرنها بالجهل الأول لكائن أخرج من بطن أمه لا يعلم شيئا..إنّ قصة الكائن هي بحثه عن الجوهرة التي افتقدها منذ وجوده..هذا ه بلاء الوجود..مع أوّل هواء يستنشقه المقبل على الحياة..مع أوّل صرخة الولادة..تبدأ الفطرة في التسرب من ثقوب وجودنا الأدنى..وليست الصنائع هي التي تحول بينك وبين فطرتك المفقودة بل علاقتك بالصنائع التي تصل بك حدّ الاستغناء بها عن متطلّبات كمالاتك الروحية والإنسانية هي التي تنقلب عائقا ضدّ عقلانيتك النورانية الدفينة..وليس غريبا أنّ فلسفات قلق الإنسان وحيرته الوجودية تطورت أكثر مع تضخّم العقل الظلماني في ضمور كامل للعقل النوراني..والعلم والفن اللذان استغنا بهما العقل الأداتي عن العقل النوراني لم يوقفا ملحمة القلق ولم يزحزحا الباب المسدود..ففكرة العلم الذي يفسّر كل شيء وفكرة الفن الذي يرقّي الأحاسيس لم توقف التوحش في العالم حتى رأينا كبار مرضى الجريمة يعافسون أعذب السامفونيات الكلاسيكية..وكان العلم هو أوّل الأساطير التي سقطت حينما اكتشفت تواضعها باعتبار أنّ العلم له مزاج لا يقلّ عن الأساطير..فالعلماء داخل المختبر يستنجدوم بخلفياتهم وعقائدهم ومنابعهم الثقافية لتوجيه اكتشافاتهم وتكميلها بسرديات ذات طبيعة فرضية..وعلم أدرك نسبيته القاتلة لا يولّد اليقين والاطمئنان..بل ظاهر من الحياة الدنيا لا يبلغ أسرارها إلاّ لماما..انهدت النزعة العلموية وسلّمت القياد للفن..وكان الفن قد ألغى الإقناع من رسالته، وبدا سحرا مؤثّرا لا يشترط الدّليل..الفن تأثير فحسب..واستجابة شعورية للإيقاع..وهو يداعب الخيال من مداخل وسائل الإحاساس الخمسة..تنتهي وظيفة الفن حينما نفقد هذه المصادر الحسية..ولم يعد لا العلم ولا الفن عاصمان للكائن من إفرازات العقل الأداتي الذي يزيدهم بتعويضاته المادية بؤسا فوق بؤسهم..سقط العلم كمصدر لليقين كما سقط الفن كممارسة جمالية بعد انفتاحه على مستقبح الأذواق ونزعته المادية وإفلاسه الذي اعادنا إلى دمج وسائل الحس معا في شكل من التخريج لبؤس الفن حينما بات عاجزا عن إمتاع الروح انطلاقا من أي مصدر من مصادر حسّنا أو حين أصبح الفنّ إثارة غريزية سطحية..تزداد حاجة العالم إلى العقل النوراني الذي يربض خلف العقل الظلماني، وهو ذلك الشيء الذي يسكننا ونشعر أنّه لم يأخذ مداه حتى اليوم في صراع الأقصيين المتشابهين في تعطيل العقل النوراني: عقل الذي يعلمون باطنا من الحياة الدنيا،أعني أقصى التطرف والغلو من الجانبين،فلا اعتدال بعقل أداتي أو بدين مسلوب العقل،فالاعتدال هو بتحقيق التوازن بين العقل حدّي العقل وبتدبير العقل الظلماني ليكون خادما للعقل النوراني الذي لم نجرّب إنجازاته بعد،في زمان جرّبنا فيها كلّ مستهلكات العقل الظلماني والعقل المستقيل..إنّ مفهوم الاعتدال الذي طالته يد المسخ هذه الأيّام هو غاية بعيدة المنال../
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/09/30



كتابة تعليق لموضوع : الفطرة التي نجهلها
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net