صفحة الكاتب : ادريس هاني

المثقف العضوي لا يعني المثقف الساذج
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 ولا زلت أبحث عن الطبقات الأعمق للمعنى.تلك الطبقات التي لم أدخلها بسبب تشويش الواقع..الانهمام بالسياسة التي تأكل منك عمقك..ومن ملهيات الجدل والنقاش العام الذي يجعلك تتشقلب جدلا حول البديهيات.. لقد أنهكتنا المغالطات وأخذت من عقولنا ومن حدسنا..إنّها حالة انحطاط رهيبة جعلتنا نفكّر كالسذّج والأغبياء ثم سرعان ما نقنع أنفسنا بأنّنا نفكّر..نفكر كيف وبماذا يا ترى؟ حتى العقل عانق أسوأ إمكانياته التي تقع في مبتدئ التّهحّي الفكري..التفكير من دون مفاهيم ولا مقولات ولا أرضية صلبة..التفكير العشوائي الذي لا يبني نسقا ولا يراعي حدودا للبراهين بكل صنوفها الممكنة..هي دعوة لإنقاذ التفكير من التبسيط الذي تستسهله المعاقلات الساذجة..دعوة للقلق الفكري الذي ينتج أنساقا لا لغوا أو حشوا لفظيّا..كفى كلّ هذا العبث باسم مفاهيم كبرى لم تتنزّل بعد في ديارنا البور من الثقافة والفكر والإنسانية...سوى زعيق يشبه ذلك الذي يحدث في الفضاء العمومي الذي يغيب فيه المثقّف ويحلّ فيه الغوغاء..لا زلنا في مجالنا العربي نقفز من مستوى ساذج إلى مستوى أسذج..ومن مغالطة إلى أخرى.. ومن ضحالة إلى أخرى..لم نحسم في أي مفهوم، ولكننا في مصارع الزعيق والجدل نستخدم كلّ تلك المفاهيم على طريق رسم أحمق..القتل اليومي للمعنى..لقد غاب المثقف حارس المعنى وعمت الاستباحة..نفكّر بعقل لا نعرف أين هو وماذا يعني وما هي حدوده..عقل لم نحسم فيه...نفكر أحيانا بالنخاع الشّوكي ونظن أننا نفكر بالعقل الخالص..نشأت مؤسسات حولنا واحتوتنا بوصفها عقلانية على طريقة ماكس ويبر لكننا نكتشف يوما بعد يوم أنّه ليس كل تمأسس هو عقلاني بدء من الفلسفة حتى البيروقراطية..ما مساحة التعقّل في كلّ هذا الخواء الممأسس والمعقلن..في زمن تراجع فيه القول الفلسفي لصالح السذاجة..ولقد جاءت الفلسفة وبنت مشروعيتها لمقاومة السذاجة بالسّؤال..يغيب السؤال وتبقى الأجوبة الممأسسة كغلاّة يتهجّاها المدرسانيون..ثم مضغا مع سوء هضم واسترجاءات باردة كالموتى..وكل شيء يتمأسس أكثر مما ينبغي له ويتنكّر للأسئلة المشروعة ويتغنّى بالأجوبة السّهلة فلسفة كان أم دينا فإنه يفقد معناه وروحه..إننا اليوم نتّجه نحو الضحالة الفكرية باسم حداثة فقدت مقولاتها الكبرى وفلسفة صدماتها القصوى..نتجه إلى أن نصبح أعرابا حداثيين..يحملون على أكتافهم وفوق رؤوسهم رزما من بقايا مفاهيم معتلّة بفعل التقادم والتسطيح..الاكتفاء بأنصاف الحقائق ونتفا من عناوين تشبه الملصقات..العودة إلى البروج العاجية للفكر باتت مطلبا ملحّا..إن استقالة المثقف وتراجعه التكتيكي ضرورة حتى لا يكون شاهد زور على المهزلة...المثقف مدعوّ اليوم لكي لا يكون أعرابيّا مهرولا رحالة لا قرار له..هو مطالب ليس فقط بقول لا، بل بقول نعم للحقيقة المرّة في زمن الانحطاط..مطالب بعدم الاستسلام للضّحالة..لمقاومة ليس الجهل البسيط فقط بل الجهل المركّب أيضا..لمقاومة الغباء والسذاجة والدجل والمغالطة وكل ضروب الإسفاف..لمقاومة احتلالات المغالطات لجغرافية العقل كما يقاوم الاحتلال السياسي والعسكري..المثقف الحقيقي مصلحته في العقل كلّه لا يتحايل على العقل بالمزاج والعريزة والحسابات الصغيرة..المثقف الحقيقي يقتل نفسه ليعيش العالم..المثقف لا يسلّم للنّاس بل يخدم الناس ولكنه يسلّم للحقيقة...المثقف الحقيقي يحفر في طبقات المعقول واللاّمعقول أيضا..لا شيء يدهشه ولا شيئ يصدمه ولا شيئ يقلقه غير قلق الرتبة الوجودية..المثقف مناضل حتى لما تستقر الأمور..ثائر حتى بعد أن ينام الثوار..مكافح حتى لما تضع الحرب أوزارها..هي معركة الفكر التي لا أقصد منها سوى معركة التّرقي في الوجود..ذلك لأنّ المثقف الحقيقي هو من وجد العلاقة الخلاّقة بين المعرفة والوجود..حين تكون (أن أعرف) هي نفسها من مقولة (أن أوجد)..
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/12



كتابة تعليق لموضوع : المثقف العضوي لا يعني المثقف الساذج
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net