صفحة الكاتب : ادريس هاني

الحسين في ديوان العرب (9)
ادريس هاني
للشعر العربي حكاية أخرى ينذر لها نظير في الأمم الأخرى..يكاد يكون ـ وهو أرقى فنون القول ـ مذهب العرب في رؤية الأشياء والتعبير عنها..فهو يتنزّل منزلة الفلسفة في اليونان..فالفلسفة عند العرب تقرأ في الخطاب الطبيعي للشعر لا في غيره..ومن أنذر ما في خصوصية الشعر العربي والممارسة الشعرية العربية أنّها تكاد تورث كما تورث الأشياء وفق نظام للأنصبة الرمزية..أريد أن أتبع حديثي عن رثاء الرّباب لزوجها الحسين وهي بنت أشعر العرب طرّا..لكن الأمر لم يقف عند الرباب بنت امرئ القيس بل سيستمر مع بنت الحسين وبنت الرباب نفسها وهي حفيدة امرئ القيس أيضا وأعني بها السيدة سكينة..فهذا نهر شعري مستمر من الملك الضّليل كما سمّاه جدّها من الأب علي بن أبي طالب..تأمّل أنّ السيدة سكينة لها جدّان: أحدهما من جهة الأب وهو إمام نهج البلاغة وأمير المؤمنين والثاني من جهة الأم وهو أمير في قومه وأمير الشعراء العرب.. اجتمعت كل الفضائل ومعالم النبوغ في هذا البيت الذي ناصبه آل سفيان العداء..هي قصّة شجرة ملعونة في القرآن احتفظت بحسد لهذا البيت الهاشمي منذ بداية الدعوة وما قبلها..الحسد الذي يجعل المرء يفقد كل إحساس بالعدالة..وكل شعور بالإنسانية..أمّا الدين فلا يكون صاحب الدين حسودا إلاّ بعد أن يضع ربقة الدين..فالحسد يؤدّي بالمرء أن يكفر بكل ما متّع الله به عباده.. الحسود ظالم للخلق كافر بنعم الرّب وقدره..وكانت مشكلة الأنبياء والصالحين والأحرار أنّ قوما حسدوهم وكرهوهم وهم في قرارة أنفسهم كانوا معجبين بهم..ولكن هذا الإعجاب يتم التعبير عنه بالكراهية عكس المطلوب..ولذا حينما قال معاوية للرجل: صف لي عليّا..بكى وقال كذلك كان..ولكن متى قال معاوية ذلك؟ قاله بعد أن مقتل علي بن أبي طالب..فالحسود يمكن أن يبكي محسوده ولكن يظلّ الحسود كافرا بالحقيقة..حقيقة أنّه معجب بنبوغ محسوده..معجب بقيمة محسوده..ولكن كفره بهذا الإعجاب وإخفاؤه والتعبير عنه بالكراهية الشديدة هو طريق إلى الجحيم..
كانت سكينة بالفعل تتمتع بالسكينة والهدوء..ولهذا سمّتها أمها كذلك بينما هي أمينة أو آمنة..لقبتها أمها بسكينة حسب ما ذهب إليه ابن خلكان في الوفيات.. كانت امرأة عابدة تقية منقطعة لله ..قدّيسة يشهد لها بذلك أبوها الإمام الحسين..وذلك لما أتى الحسن المثنّى بن الحسن إلى عمه الحسين ليطلب إحدى بناته، قال له الحسين:
له : اختار لك فاطمة فهي اكثر شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله (ص) ، أما في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار ، وفي الجمال تشبه الحور العين..واما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله فلا تصلح لرجل..
كانت سكينة امرأة حرّة..بل أعطت للحرية معنى السمو والقداسة إذ أنّ ارتباطها بالملكوت الأعلى جعلها لا تصلح لرجل من حيث التبعّل..فهي مشغولة عن الرجل باقتحام مراتب التّقى والعرفان..لكنّها تزّوجت بابن عمها عبد الله الأكبر بن الإمام الحسن، وكان قد حضر كربلاء واستشهد بين يدي الحسين..
رثت سكينة أبيها..وقد شهدت كلّ واقعة كربلاء وهي في منتهى الوعي بتلك الصور..فقد كانت يومئذ بنت التاسعة عشر من عمرها..حين رأيت أباها يذبح وعمّها العباس أبو الفضل يقطع وأخوها الرضيع عبد الله يذبح وزوجها عبد الله الأكبر يقتل..وسائر المعسكر يحرق ويسبى ما تبقّى من العيال اليتامى..تتراكم كل هذه الهموم التي عاشتها السيدة سكينة والتي عمّرت طويلا لما بعد السبعين من عمرها مرّت أحزانا، وخلالها عقدت المآتم وأظهرت لما تبقى من الأجيال حقيقة ما جرى.. لقد بكت الحسين وهي تقول:
لاتعذليه فهم قاطع طُرقُه +++ فعينه بدموع ذُرّفِ غدقه
إن الحسين غداة الطف يرشقه +++ ريب المنون فما أن يخطىء الحدقه
الذين قتلوا الحسين هم أشرار الخلق وأشقى النّاس.. لعله من هوان الدنيا على الله أن يكون مقتل الحسين على يد همج رعاع..وقوم أنذال فسقة..وجيش من المارقين أولاد البغايا:
بكفّ شر عباد الله كلهم +++ نسل البغايا وجيش المرَّق الفسقه
قتل الحسين عن سابق إصرار وترصّد.. وثمة من خذله ولم ينصره..وهم بذلك فاقدون للحجّة..فلعن الله أمّة قتلته .. ولعن الله أمة خذلته .. ولعن الله أمّة سمعت بذلك فرضيت به.. كان جسد الحسين هدفا لسيوفهم ونبالهم كلّ يسعى وينافس رفاقه ليفوز بجائزة يزيد..وأبت أن تكون أمة خير كما أراد لها الحسين..خير أمة أخرجت للناس كما أراد لها جدّه..ولكنها أبت إلاّ أن تكون أمة سوء:
يا أمة السوء هاتوا ما احتجاجكم +++ غدا وجلُّكم بالسيف قد صفقه
الويل حل بكم إلا بمن لحقه +++ صيرتموه لأرمآح العدى درقه
كان بكاء السيدة سكينة طويلا..فقد عمّرت دمعتها أطول ممن بكوا أبا عبد الله الحسين..بكته دما وأوقفت كلّ حزن عليه..فلا حزن بعد الحزن على أبي عبد الله..ولا ألم آلم من ألم مصابه..ولا دمع ينسكب على سواه..لقد اختزل الحسين حياة سكينة فيما بعد..كما اختزل حياة محبيه في كلّ عصر..يبكونه دما كما نبكيه حتى نفقد وعينا ونقع أرضا كالموتى..ليس لنا من زاد غير دموع نذرفها عليك أبا عبد الله..دموع كدموع الأطفال اليتامى ودموع النّائحات الثكالى ودموع المظلومين الذين تنام عين الظالم وهم منتبهون...وعين الله لا تنم...
يا عين فاحتفلي طول الحياة دماً +++ لا تبك ولداً ولا أهلاً ولا رفقه
لكن على ابن رسول الله فانسكبي +++ قيحا ودمعا وأثريهما العلقه
حال سكينة مع ذكرى أبيها وشعورها بمصاب أهلها بالغ الخطورة..يكاد يحار المرء حين يتأمّل أي القلوب تلك تحمّلت كلّ هذا الوجع..فسلام على السيد سكينة وعلى أبيها وأخيها وبعلها وأهلها...
 : 29/10/2015

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/11/03



كتابة تعليق لموضوع : الحسين في ديوان العرب (9)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net