صفحة الكاتب : ادريس هاني

الحسين في ديوان العرب(14)
ادريس هاني
الشعر أيضا يجري عليه ما جرى على كل صناعة فكرية أو كلامية..شعراء يرسلون كلماتهم إمتاعا ومؤانسة وشعراء يحملون تبعات الكلمات حيث تخرج من قلوبهم نارا..الكلمات هنا نضال ومعاناة ووجع..والكلمات هناك طرب وحبور ووئام..هناك من قصمت ظهره الكلمات فعانق بها السجون تارة أو المنافي طورا..كلمات تجري كالدموع في جداول الأسى..وتختبر الكلمات في الحسين وتوزن في معيار فاجعة الطّف..كذلك للكلمات أزمنتها وجغرافيتها التي تعزّز قيمتها وأهميتها..فرثاء الحسين في عصر يزيد يختلف عن رثائه في العصور المتأخرة..الرثاء يومئذ أشبه بمانيفيستو انتفاضة..فكيف إذا اقترن بهجاء يزيد وآله..ابن مفرغ الحميري مثال ساطع عن شاعر كبير وقف موقفا متكاملا بين هجاء صريح ورثاء صادق..يهجو ابن زياد الذي كانت له معه مواقف اضطرته ليخوض تجربة السجن والمنفى حيث قال لعبيد الله بن زياد:
كم يا عبيد الله عندك من دمٍِ +++ يسعى ليدركه بقتلك ساعي
ومعاشر أُنف أبحت دماءهم +++ فرّقتهم من بعد طول جماع
اذكر حسيناً وابن عروة هانئاً +++ وبني عقيلٍ فارس المرباع
وبلغ به الهجاء حدا طال معاوية، مع أنّ ابن زياد استأذن معاوية في قتله لكن هذا الأخير لم يأذن له بالقتل ولكن أذن له في تعذيبه..وذلك حينما قال:
الا أبلغ معاوية بن حرب +++ مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال ابوك عفّ +++ وترضى أن يقال أبوك زاني
فاشهد أنّ رحمك من زياد +++ كرحم الفيل من وَلد الأتان
وأشهد أنها ولدت زياداً +++ وصخر من سمية غير داني
كان الحميري قد صحب عباد وهو أخو عبيد الله بن زياد..يذكر ابن جرير كما نقل أيضا عنه صاحب البداية والنهاية: "عن أبي عبيدة معمر بن المثنى وغيره أن هذا الرجل كان شاعرا، وكان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، وضاق على الناس علف الدواب، فقال ابن مفرغ شعرا يهجو به ابن زياد على ما كان منه فقال:
ألا ليت اللحى كانت حشيشا +++ فنعلفها خيول المسلمينا
وكان عباد بن زياد عظيم اللحية كبيرها جدا، فبلغه ذلك فغضب وتطلبه فهرب منه".
نجا الحميري من القتل لا رحمة من معاوية بل بسبب عشيرته الذين توسطت له في رفع العقوبة عنه لأنهم كانوا من أتباع يزيد..ومع ذلك لا يوجد ألذع من هجاء الحميري لابن زياد وبطانته..يكفيه قوله:
إن زياداً ونافعاً وأبا بكرةَ +++ عندي من أعجب العجبِ 
هم رجال ثلاثة خلقوا +++ في رحم أنثى وكلهم لأبِ
ذا قرشي كما يقول وذا +++ مولى وهذا ابن عمه عربي
وبقدر قسوة الهجاء الذي صبّه الحميري صبّا على ابن زياد، كانت دمعته الحرّى على الحسين..قسوة على قاتليه وترحّم على الحسين..كان الحميري ومن داخل قوم من أقاربه اليمانية المقربين من يزيد يشكلّ الاستثناء والتمرد مما يجعل كلماته نابعة من موقف صلب وعقيدة متجذّرة وضمير حيّ...يقول عن الحسين:
أمرر على جدث الحسين +++ لاوقـل لأعـظمه الـزكية
يا أعظما لا زلـتِ مـن +++ وطـفاء سـاكبة رويـة
مـا لـذ عيش بعد رضك +++ بـالـجياد الاعـوجـية
قـبـر تـضـمن طـيبا +++رآبــاؤه خـير الـبرية
يشير في رثائه هذا لمقام المقتول وموقعه في نظام الحقيقة والقيم..فالمقتول هو ابن أشرف النّاس وأطهرهم..والمتلّب في أهل الفضل والرئاسة..فهذه صورة مقابل لأهل الهمجية من بقايا الجاهلية الأولى:
آبــاؤه أهــل الـريا +++ سـة والـخلافة والوصية
والـخير والـشيم المهذبة +++ الـمـطـيبة الـرضـيه
بات لزائر الحسين دين في ذمّته..أن يقف ويطيل الوقوف..ويبكي ويذرف الدمع كما لو كان حاضرا فاجعة الطفوف..أن لا يبخل بدمعة وتوجّه بالأحاسيس الرقيقة..فهنا مقتل الحقيقة..وهنا تتلخّص ماهية الإننسان...
فــإذا مـررت بـقبره +++ ـأطل بـه وقف المطية
وابـك الـمطهر للمطهر +++ والـمـطهرة الـزكـية
كـبـكاء مـعولة غـدت +++ يـوما بـواحدها الـمنية
وإذ تبكي حسينا فلا تنس لعن قاتليه..فتلك طبيعة الأشياء..فبقدر ما نبكي المظلوم ننصفه من قاتله..فذلك هو أضعف الإيمان..فلا قيمة لمن ولغ في دم الحسين..وليس أنه خارج الإنسانية فحسب، بل هو خارج رحمة الله..وكيف يرحم الله من قتل حسينا..فهذا من الاستثناء الذي لا يدخل في الرحمة ويعزّز القاعدة..إن رحمة الله تسع كلّ شيء..وهي عدالته نفسها التي تطال كل شيء..فالإثنينية في قراءة الصفاة مهزلة الكلام وهتك لدستور العقل والمعقول..إنّ الرحمة تطال كلّ شيء باللطف الذي يجعل سبل الطاعة ميسّرة لمن اقتضت مشيئته أن يكونوا أحرارا مسؤولين عن اختياراتهم..فإن فعلوا حقت عليهم عدالته..ومن رحمته على العباد أن ينال الظالم عقوبته..ويؤخذ للمظلوم حقّه..فهم مطرودون من رحمته كما هو إبليس الطريد..
والعن صدى عمر بن سعد +++والـمـلـمع بـالـنقيه
شـمر بـن جوشن الذي +++ طـاحت بـه نفس شقيه
جـعلوا ابـن بنت نبيهم +++ غـرضا كما ترمى الدريه
لــم يـدعـهم لـقتاله +++ إلا الـجـعالة والـعطية
لـما دعـوه لـكي تحكم +++ ــيـه أولاد الـبـغيه
أولاد اخـبث مـن مشى +++ مـرحا و أخـبثهم سجيه
فـعـصاهم وأبـت لـه +++ نـفـس مـعززة أبـيه
فـغدوا لـه بـالسابغات +++ علـيهم والـمـشرفيه
والـبيض والـيلب اليما +++ نـي والـطوال السمهرية
يمتح هذا الرثاء من ضمير يتحرق عشقا للحسين..من بيت آل يزيد وبطانته ينتفض الحميري هجاء ورثاء..وهذا موقف جليل..فإن كنت لم تحضر مواجع الحسين وهو صريع تتقطعه القناة، فأي عذر أن لا تجود بعبرات الحزن والأسى..
يا عين فابكي ما حييت +++ على ذوي الذمم الوفية
لا عذر في ترك البكاء +++ تما وأنت به حرية
كذلك وفّى الحميري..فكان حسينيّا وهو يهجو قاتلي الحسين أو هو يرثي أبا عبد الله..شاعر مشى بشعره نحو آلامه ومواجعه..شاعر أدرك القيمة النضالية للشعر..والأحاسيس التي تضفيها الفواجع على الشعر..كانت ذمّة الحميري وفيّة بقدر من وصفهم بذوي الذمم الوفيّة..وهو وفّى حين أحجم نظراء له عن رثاء الحسين بدافع الخوف أو درءا لمكروه يصعب على شاعر يهرول بشعره خلف اللتكسّب أن يتحمّله أو أن يمارس الشعر بروح المتمرّد...

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/11/09



كتابة تعليق لموضوع : الحسين في ديوان العرب(14)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net