اعتراضات برتراند راسل على فكرة الألوهية في "لماذا لست مسيحيا" كانت تؤرقني..حتى بدا لي يوما أن هذا العقل الرياضي الكبير كيف سقط في منطق هزيل وهو يرمي بكل حجج علم الكلام المسيحي عرض الحائط..وهو في الحقيقة لم يفعل سوى أن عبّر عن الصدمة إيّاها التي اعترض بها كانط على الدليل الأنطلوجي..بل دخل في حجاج مع هذه الحقيقة يعيدنا إلى نيتشه..ثمة في تلك الرسالة نبضات نيتشية..أنا المسكين الذي لم اكن يومئذ قد كسرت طوق علم الكلام ومقولاته وجدت أمورا مشتركة بين علم الكلام الإسلامي وعلم الكلامي المسيحي..ذات البراهين الكلامية للأكويني والأشعري والعلاّف..استوقفني استهتار الشيخ الرئيس ابن سينا فيما نقله تلميذه بهمنيار وهو يتهم المعتزلة في الخلط والجهل في بعض القضايا التي يدركها الحكماء..كأنه بذلك يعطي أولى مؤشرات موت الكلام لصالح الحكمة في تحقيق الإلهيات..وهو ما سيفعله ملاصدرا مع ابن سينا حينما عزم على النقلة الكبرنيكية في مجال المعقول الحكمي..استشكالات برتراند راسل كما هي استشكالات كانط كما هي استشكالات نيتشه فيما بعد هي استشكالات الحكماء نفسها تجاه علم الكلام..ولكن يبدو أنّ حكماء عصر الأنوار وما بعده كانوا على شيء من القسوة في انتهاك مقولات علم الكلام المسيحي..فلو اكتسبوا رباطة جأش ابن عربي مثلا لكانوا أقل قسوة على المتكلمين من سائر الحكماء منذ ابن رشد..لأن ابن عربي يصحح اعتقادات العامة، ذلك لأنّ منازل الاعتقاد تراءت له عمودية لا أفقية وبالتالي ما لم تتحقق الرغبة في الرقي وما دام ثمة حالة إشباع في الدليل فالمراد تحقق..ولكن هذا لا يمنع من القول بمنازل الاعتقاد..قلت إنّ استشكالات برتراند راسل لا سيما في موضوع نقض الدين الطبيعي أرّقتني يومها..وزادني همّا الاستشكال الكانطي على الدليل الأنطولوجي والطبيعي..بل زادني حيرة نيتشه ونزعته القووية..فاعتبرت ذلك ضربة قاضية للإلهيات، ولكن برهان الصديقين أنقذني..لقد عشته في خبرة عرفانية اهتزت لها روحي ونفسي بعد حيرة شديدة وشكّ مريب..ثم سرعان ما تحوّل القول الكانطي والراسلي والنتشي إلى دعائم حقيقية لبرهان الصديقين..من حقّ من ارتقى في الأفهومات أن يرفض فكرة الدين الطبيعي..هذا الذي يتكرر في خطاب الدعاة..فكرة الدين الطبيعي التي تقوم على مفهوم الفطرة، لم ترق لبعض القدامى أيضا..برتراند راسل أو الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد يقفان موقفا واحدا في هذا الخصوص..وكذا الدليل الأنطولوجي والكوسمولوجي الكانطي الذي هو درجة أدنى في سلسلة الأدلة التي يتربع فوقها برهان الصديقين..هنا تصبح الإلهيات ذوقا وخبرة..والبراهين الدنيا هي تهيئ لولوج عالم هذه الخبرة..ترى هل كانوا يريدون لكانط أن يقتنع بطرائق المتكلمين..طريقة الماتريدي في الاعتقاد؟ أم أنّ للفلاسفة مدارات أخرى في ذلك..ألم يكتب السهروردي حول اعتقاد الحكماء؟.. كانط يرى استحالة البرهان على وجود الله انطلاقا من العقل النظري..لكن الحلقة المفقودة في مسلسل هذا الدليل لا يدركها إلا الراسخون في العقل والمعقول..راسل يرى في فكرة الإيمان إحساس بالمذلة والخوف..لكن فكرة الإيمان القائمة على التشويق في معروضات الجنة والترهيب من حريق جهنم قد تنتج تجارا أو عبيدا ولكن لن تنتج عارفين أحرارا..أما نيتشه الذي أعلن موت الإله فقد أعلن موت الإكليروس..ورثت أوربا تراثا لاهوتيا مدرسانيا..كانت الرشدية تمثل ثورة وضربا من الإلحاد في نظر الرهبان المتكلمين الذين كفروا الرهبان الرشديين من أمثال سيجر البرباني..إله الفلاسفة كان من العلو بحيث لم يتعقّله المتكلمون..هكذا سبق حكماء الغرب الوتيرة البطيئة لعلم الكلام..برهان الصديقين يجعلك تستدل على واهب الوجود انطلاقا من الوجود نفسه.. خبرة الوجود الأدنى إزاء الوجود الأعلى..الرغبة في الوصول والوحدة والحنين..الوجود الذي يغمر كل الأشياء كما هو تجلّي مانح الوجود..تراتبية منازل الوجود في سلسلة ترابطها برسم الفقر الوجودي..كفرت الفلسفة بإله الكنيسة ولكن سرعان ما بدأت تؤمن بإله الحرية.. حتى فينومينولوجيا هسرل التي ناهضت فكرة الإله عادت مع الفينومينولوجيا الجديد لجوزيف سايفرت لتتحمّل عبئ إعادة الإله إلى الفلسفة برسم الفينومينولوجيا الواقعية في محاولة لتجديد الفينومينولوجيا المثالية..يبقى المتحوّل في هذه المعادلة هو موقف الإنسان من العالم..ومستوى تفاعله مع الوجود والموجود..إنما تظلّ القضية الأساسية هنا هي كيف نفهم اعتراضات بعض الفلاسفة على إله الكنيسة..ذلك لأنهم اعتبروا أنّ قولهم بموت الإله أهون من قولهم بموت الرهبان..وربما كان لنا مثل ذلك، أي أهون أن تشرك بالله من أن تشرك بالسلطان..وأن تعلن الكفر بالله من ان تعلن الكفر بالثاني.. الدليل الأنطولوجي هنا مع كانط سيسقط برسم العقل النظري..وهو ما يجعل الدليل الأنطلوجي على وجود وشرعية المستبد مستحيلا عقلا..ما بين دليل الأعرابي وبرهان الحكماء منازل في السياسة والاعتقاد تخبّطت فيها البشرية وتكافرت ولكنها لم تتكافر في كبير، لأن لا أحد منهم بمن فيهم المعتقدون قد خرقوا منازل اعتقاد الحكماء أو ذاقوا من خبرة لاهوت ما بعد الكلام..كلّهم يعيش الأوهام ذاتها: تشيّؤ دنيوي وتشيّؤ أخروي، وضاعت لذّة العقل وجنّة برهان الصديقين..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat