صفحة الكاتب : ادريس هاني

العقل الممكن
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
وعلى الرغم من أنّ عملية تحديد العقل تفرض مستوى من الصرامة نظرا لخطورة التعريف والمعرًّف، فإنّ الحديث عن العقل استنادا إلى قاعدة الإمكان تجعلنا في واحدة من الممرات الإشكالية التي من شأنها ان تؤدّي إلى تساوي النسبة بين المعقول واللاّمعقول..وهذه من أخطر ما يتهدّد المعرفة والعقل نفسه من حيث هي أساس استحالة العلم..تجد لهذا الأمر بعدا أكثر عملانيّ في مفهوم القطع بالمعنى الأصولي الذي عالجه الأصوليون بصورة من الصّور لكن ليس بالقدر نفسه من التفريع والعمق الذي سيدشّنه الشيخ الأنصاري صاحب فرائد الأصول..والمبتغى من هذه الإثارة ليس المضي في تلكم التفريعات التي أسالت مدادا كثيرا من بعده كما سنرى مع مزيد من المعالجة الفلسفية ـ الأصولية مع الآخوند ملا الخرساني في الكفاية وكل من تبعهم مقرّرا أو مبدعا، ولكن نبتغي من هذا استعارة هذا الاستشكال في مورده العملاني كما قلنا لأنّ غاية الأصول كما لا يخفى على فقيه هي الموقف العملي، نعم، نستعيره في موردنا النظري هذا لأنّ مآل كل ما هو نظر إلى العمل إن عاجلا أم آجلا..إنّ القطع حجّة عند القوم أيّا كانت الوسيلة التي ينشأ منها هذا القطع حتى لو بدت لك غير معتبرة في ميزان المعقول العقلي والدّيني..فالشيخ الأنصاري يعتبره كذلك حتى مع فرض أن منشأ القطع هو رفرفة الطير كناية عما يمكن اعتباره تحقق القطع بالطرق غير العقلية أو العقلائية..ذلك لأنّ القطع يستمد حجيته في الاعتبار الأصولي من ذاته وليس من جعل آخر مما يؤكّد استقلاله بالاعتبار حتى عن الشريعة..وأحسب أنّ الشيخ الأنصاري هنا كان على قدر من الاستيعاب لإشكالية العقل كلها من خلال هذه المعالجة للقطع وحجيته..ذلك لأن القاطع إذا قطع لم يعد في مستطاعك ردّه عمّا قطع به، بل يعد ردّه قهرا عما قطع به خلافا لموقف العقل، بل المطلوب هو زحزحته عن قطعه بإدخال الشك إلى يقينياته المغشوشة بالإثارة والنقاش والجدل والمناظرة لتتفكك عرى قطعه ويطرأ على يقينه ما يدعوه للاستزادة من الجواب دون أن يرفع شريعة الردع فيما يترتّب علة قطعه من آثار ضارّة على الغير..ويذكر علي بن أبي طالب في معرض بيانه للغاية من بعثة الأنبياء:" وليثيروا لهم دفائن العقول"..إنّ كل قطع هو في نظر القاطع موقف عقلي..وهو في نظر القاطع كلّ الحقيقة..وفي كل تجربة إذا ما حصل فيها الاطمئنان الجدّي هي مراتب من العقل..فلا يوجد هناك سوى العقل ـ وعلى هذا الفهم نسب ابن عربي الخطأ للعقل نفسه ونزّه الخيال ـ..ومن هنا كان مطلوبا مقارعة العقول فيما بينها ليتولّد العقل الراجح..وهذا ما يجعلنا نرى في العقل مراتب بل في التعقل ممارسة مستدامة..فكل عقل جديد ينسخ عقلا آخر..وفي هذا تعتمل الكثير من العناصر التي تخفى على الراصد..فالعقل ينشأ ويتطور بميكانيزمات مجهولة، لذا فهي في غالبها غير واعية..فالإنسان له شعور دافق بالعقل ولكنه يفقد شعوره به أثناء إنجاز مهامه التي يفرضها وجدانا..إنّ قصة البراهين تأتي بعد تحقق العقل..بل مهّامها هي تفسير المعقول..كما هدف الجدل هو الإقناع به..في مبحث القطع كثيرا ما راجت إشكالية القاطع بواجب قتل الرجل الصالح باعتباره قاتلا مثلا..وتفرّعت عن هذه المعضلة مسألة التّجرّي..وإنّها لمعضلة حقّا وهي مثال عن حيرة المعقول والمأصول في تراثنا..ولكنها هنا تتعلّق بفلسفة النّيات وموقعها من التكليف الشرعي فلا تقاس بقضية قطع الإرهابي بصدق دعوته وبالتالي يصار إلى تبرير أعماله على أنها صادرة عن قاطع بشرعية عمله..هنا يتمّ التمييز بين النوايا والأفعال..فالموقف من الفعل الخطير هو التّصدّي بغض النظر عن نوايا صاحبه..فكل علم حكمه وتكليفة فلا تعارض في البين..أمّا أشكال القطع الذي تجري في مستوى النظر فهي من عوائد البشر في تأمّلاتهم مما يؤكّد أن العقل في طور النشوء والارتقاء وليس أمرا نهائيا..بل كلّما عقل الإنسان أمرا إلاّ وتفرّع واستشكل ليستدعي مزيدا من التعقل والتعقيل..فالعقل غاية تدرك بخطوات ضحلة من المعقول..وأحيانا يقوم المعقول على اللاّمعقول..وهذه هي النكتة التي تطوّح فيها العالم...نقصد العقل الذي ينشأ من لامعقوله..أواللامعقول الذي يتجاوز معقوله..فليس الخطر على العقل هو التمرد عليه طلبا لمراتب من التعقل أعلى، بل الخطر على العقل هو في الوقوف عنده بثبات..فالعقل إذا لم يخضع للحركة فقد جوهره..جوهره الحرك..يحتاج العقل إلى بيئة متطورة ليستعير منها إمكانيات حركته..في علاقة بين العقل الفاعل والعقل السائد كما ذهب أندري لالاند..كل منتج يزيد في رصيد العقل..وكل حدث كوني أو محلي هو فرصة من فرص تطور العقل..العقل يطوّر ويتطور..يعيد إنتاج نفسه بحسب المعطيات التي آلت إليها بيئته..العقل كالعلم ينمو بالتجارب..وعاء يتّسع بالمعطيات..هي قصّة القطع واليقين وأثرهما في عملية تشكيل أو إعادة تشكيل العقل

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/12/18



كتابة تعليق لموضوع : العقل الممكن
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net