في اليوم العالمي للغة العربية لا بدّ من القول بأنّ هذا اليوم لم يعد عيدا بل يستحق أنّ يتحوّل إلى يوم مندبة على مصيبة هذا الهدر اللغوي الذي بتنا نلمسه في كل مكان حتى أصبح الأصل في التعبير بهذه اللغة هو الخطأ، كما استفحل الاستخفاف بتحصيل فنونها..قلنا إذا كان بعض الأعراب لا يجيدون الإعراب عن أفكار تصلح ان تكون أفكارا فعلى الأقل كان أولى أن يخفوا عوارها في أساليب تمتع المتلقّي..لكن الظاهر أنّ سلطة النفاق بلغت حتى حرم اللغة، حيث هناك من يستعمل مفردات لم يعرفها لا لسان ابن منظور ولا قاموس الفيروزأبادي..صحيح أنّ كثيرا من المستهترين بالفكر فضلا عن اللغة يقدمون مادّة فاسدة فكريا ولغويا، لاهي مدروسة بعقل استفرغ فيه جهد النظر ولا هي محبوكة ببلاغة يتحقق معها قدر من الإمتاع، بل اختلط في دنيا العرب الجيد والفاسد وانكسر المعيار وخرب الذوق..فكما ينطق الأهبل بالحكمة الفارغة ينطق أيضا بأسوأ اللغة..وكل شيء مبرر في نهاية المطاف ضدّ الجودة في القيم والفكر واللغة..
يعيدنا هذا اليوم إلى التعريب الذي بات قضية ملحّة لا سيما في منظومة التكوين التي لا زالت كما في بلداننا موصولة باللغة الفرنسية..تخبّطات في ازدواجية اللغة يولد معها عقل منشطر على نفسه يؤسس للانفصام الثقافي..لا ندري حتى الآن ما سبب هذا العزوف عن التعريب المطلق والتردد إلى حد اقتراح أحد المتحامقين اللهجة بدل الفصحى في التعليم..ينسى هذا الأهبل اللّهجي بأنّ أجيالا بكاملها وبسبب ازدواجية اللغة أصبحت بكماوات عاجزة عن التواصل إلاّ مع فرنسا..بينما لو حلّت الدارجة التي لا يفهمها أحد سوى نحن ستكون الكارثة أكبر..علما أنّ هذا الأهبل يجهل جهلا تاما حقيقة ألسنية وثقافية هي أنّ الدارجة تطورت على أصول الشفهية ومنطقها ولها تأثير وتأثر بنظام معرفي لا يمتّ إلى الثقافة العالمة بشيء..بل إنّ الألعبان اللّهجي يرى في التعليم الابتدائي بهذه الدارجة مسألة مؤقتة بينما لا شيء مؤقت في اللغة، ذلك لأنّ أعطاب الدارجة ستظل متجذرة في التكوين النفسي والعقلي، ذلك لأنّ الطالب سوف يتعلم الفصحى فيما بعد كترجمة للدارجة وهذا مأزق لغوي كبير..ثمة عدوان ضدّ هذه اللغة التي ألفت بها كل العلوم يوم كان العربي لا يشعر بالدونية من الآخر..وحتى الآن لا أجد في اللغة العربية أي عجز عن مواكبة المصطلح العلمي..فهي لغة من العمق والدقة والتفصيل والقدرة على توليد المفردات والتشقيق ما تعجز عنه سائر اللغات..لكم يشعر المرأ بفقر اللغات حينما يدرك أسرار العربية..ولكن مسوخنا الثقافية باتوا يتطاولون باسم اللغة الفرنسية ويريدونها ـ لعنوا ـ بديلا عن العربية: لغة ابن سينا وابن رشد والرازي والبيطار وابن النفيس ناهيك عن الباقي..إن تطاول بعض البابغاوات على لغة ذات جذور ممتدة في أصول اللغات والمخيال اللغوي وتاريخ الألفاظ هو مهزلة تساهم فيها مهازل الفكر والسياسات..
واللغة العربية كائن متطوّر..متطوّر في كل شيء..ليس الإنشاء هو خاصيتها إلاّ لأنّ أهلها تخلفوا عن ركب التقدم الفكري والفلسفي..لذا فإنّ هناك من يقتل العربية من داخلها..أولئك الذين حوّلوها إلى ظاهرة صوتية لا تحمل مضمونا فكريا عميقا.. بين فرنكفونية تشعرنا بالحقارة وعربية لا زالت تسكن الكهوف وقفشات لهجية تجعلنا بكماوات لا يفهمنا أحد، تعيش العربية تحدّي المستقبل..اللّهجة ما كانت يوما وسيلة سوى للفكر اليومي..بل المطلوب من اللهجات أن تعود إلى صوابها وتكفّ عن جنونها وهدرها وأن تحاول التسامي بنفسها إلى لهجات معرّبة قدر الوسع تخرج أهلها من مخارج الحروف المستوحشة..لأنّ اللغة الفصحة هي سموّ بالذوق والعقل..بينما اللهجة إسفاف يقضم الأذواق إلاّ بقدر ما تطوّر نفسها لتكون أكثر دقة ونعومة وتكتشف موسيقاها حتى لا تصبح اللغة نفسها ضدّ العقل..وحتى لا تكون اللغة نفسها وسيلة ضدّ التواصل..فبعض اللهجات تحمل براميل بارود لتفجير التواصل..لهجات تختزن العنف في ثنايا ألفاظها..لهجات مقزّزة أو خشنة أو بدائية التركيب..واللغة العربية وحدها تحمل موسيقاها في ألفاظها يدرك ذلك بالسماع من قبل من لا عهد له بهذه اللغة..اللهجة ليست معيارا بل هي تعبير عن نكسة اللغة وعجزها عن مواكبة التطور السريع..ومع ذلك فإنّ اللهجة لا تملك التعبير عن مساحات كثيرة من المعاني يظهر فيها الكائن اللهجي في حالة ذهول وصمت عن أشياء كثيرة..إنها لا تصلح أن تكون مأوى الوجود..
وفي الإبداع العربي نفسه تجد هذا الاستخفاف باللغة وكأنّهم يسعون إلى تأسيس أدب من دون لغة..وشعر من دون بلاغة..وروايات تخلوا من الخيال والبلاغة معا..يستسهلون الإبداع استسهالهم الأحكام..لكن اللغة العربية تقاوم..تقاوم المحتل الثقافي والمنافق الثقافي وعابري سبيل الثقافات..تقاوم لأنّ اللغة ليست ألفاظا فحسب، بل هي عقل وفكر وثقافة وتاريخ وحضارة
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat