هل حقّا اللغة هي مأوى الوجود
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ادريس هاني

قلق الفكر هو عجز عن فهم الوجود..أما ثقل المعنى الذي يمنحه فهم الوجود للذات المفكرة فهو بلاء الوجود..إنّ القبض على حقيقة الوجود وهي مهمّة لم تبلغها الفلسفة بعد من شأنها أن توجد شكلا من الطمأنينة المعرفية خلف كل أشكال القلق الظاهر الذي يعكسه بلاء الوجود..وتأتي اللغة هنا باعتبارها وسيلة لبلوغ الفكر وتبليغه..تأتي بالأحرى مشكلتها باعتبارها كفت أن تكون واسطة في البيان والتبيين بل غدت طرفا في تحديد الفكر وجزء من هوية العقل..كان همّ الفلسفة سابقا أن تبحث عن إشكالياتها في المعنى ولكنها اليوم وتحديدا منذ حلقة فيينا بات همها أن تبحث عن إشكاليتها في الألفاظ..ويحسب للألمان كل هذا الانزياح في رؤيتهم لأزمة الفكر الفلسفي، وهو الانزياح الذي انتهى الفلسفة التحليلية..
يبدو لي أن اللغة عاجزة عن حمل القول الفلسفي الثقيل..لقد كان الفكر أحيانا يسابق اللغة فيسبقها..وما المنطق سوى استدراك عقلي لضبط صيرورة الصدق والخطأ في الفكر عبثا..فرض المنطق بعضا من الرقابة على الفكر ولكن ليس دائما وليس على كل طبقات التفكير..وهذا طبيعي لأنّ مساحة الحجاج في الخطاب التداولي الإنساني هو الغالب وليس لمساحة البرهان إلاّ هامش ضيق..فالحياة تستمر مستئنسة بأخطائنا الفكرية..تستطيع الفلسفة أن تقف على عجز اللغة وقصورها وخداعها العميق لكن يا ترى بأي لغة يمكن التوسل لإبلاغ هذه الحقيقة؟ لقد كان همّ لودفيغ فتجنشتين في التراكتاتوس أن يمنح اللغة وظيفتها المنطقية باعتبارها أو هكذا وجب أن تكون، تمثّل لحقائق الوجود الفيزيقي ذرءا للإشكاليات المزيّفة غير القابلة للتجريب، وليست هي كما سيعبر هيدغر عنها بوصفها مأوى الوجود..تفجير إشكالية اللغة هو من ساهم في النقلة الفلسفية الكبرى ما بعد فتجنشتين...والوقوف عند حقيقة اللغة يمنح الفلسفة بعدا آخر لم تكن لتبلغه وهي تتعبد في هياكل اللغة بوصفها معطى بسيط لتمثيل الواقع..وكأنّه ليس للغة إمكاناتها الخاصة في خلق وقائعها الخاصة..وكأن اللغة لا تتدخل في تشكيل العالم في أذهاننا..وكأن اللغة مجرد حامل بياني للفكر وليست طرفا في بنائه..ولا ضير كما نحا فيتجنشتاين حينما اعتبر أخطاء الفلسفة والفكر نابعة من سوء استعمال اللغة..الفلسفة إذن كما يؤكد دائما هي مواجهة دائمة ضد التشويش والبلبلة التي ينتجها الاستعمال الخاطئ للغة..اهتمت فلسفة فتجنشتاين بالمعرفة الفلسفية في إطار المختصر المفيد..يميز بين قضية الخطأ وقضية التفاهة..إن الكثير من الموضوعات التي تناولتها الفلسفة فبالأحرى عموم الفكر هي ليست بالضرورة خاطئة بل هي فارغة..ومن هنا بتّ أعتبر أنّ مدخل الخير والشّر هو اللغة..والمشكلة هي أن الإنسان قد يفكر بالفعل بصمت ولكنه يفكر ضمن قواعد اللغة التي يحملها الخيال الخلاّق للغة والفكر..وكلما تراجعت اللغة واستطاع الفكر أن يفكر من خلال رموز الحضور والأبعاد المتعددة للغة أمكنه الوصول إلى كمالات الفكر حتى إذا اضمحلت اللغة وسافر الفكر خارج مقولاتها كان ذلك منتهى العقل..فاللغة تمهد الطريق للفكر بقدر ما تعطّله وتحجبه وتقلقه..طريق اللغة ليس دائما سالكا للفكر..إنها بالنسبة إليه شرّ لا بدّ منه..وقلق الوجود هو في الحقيقة ليس من الوجود المحض بل من اللغة التي شكلت وعاء ضيقا لاستقبال مصبوب الحقائق الوجودية العارمة..إنّ الحقائق التي تدور حولنا هي أكبر بكثير من أن يستوعبه العقل ولغته..إننا نحاصر الوجود بعقلنا الأداتي ولغتنا الفقيرة..تقتضي الفلسفة وجود لغات أخرى تتكاثف وتتكامل: لغة الوجود الصامتة..لغة التجلّي الأعظم للحقائق التي تعجز اللغة عن فهمها وبيانها..إنّ القلق يبدأ حينما تحلّ اللغة محلّ الوجود..بل حينما تصبح مأوى الوجود.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat