صفحة الكاتب : ادريس هاني

مصير العقل
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 وكلّما تقدّم تاريخ العقل إلاّ وازدادت حيرة العقل وتساؤلاته حول ذاته وصلاحياته ومصيره..وهي حيرة غير مسبوقة في سالف الأزمان حيث مارس الإنسان العقل وهو يباشر العالم من دون الحاجة إلى هذا الشعور بكونه عاقلا..فكان العالم اكتشافا جديدا لعقل تماهى مع الوجدان وتظافرت سائر ملكات الإنسان في تشكيل صور عن عالم الأشياء، وهي ما يمكن اعتباره التعقّل بالفطرة..ومع تعقّد التجارب حيث العقل في شغل دائم في التقاط صور الأشياء من حوله وكذا ابتكار عالم خاص به عن طريق تركيب الصّور بات العقل طورا فطورا يعي ذاته وتميّزه عن سائر الملكات مما انتهى إلى إحساس عارم بجبروته ، جعله في نهاية المطاف يرسم مسافات بينه وبين ملكات إنما أدرك أنه مسلّط عليها فهي جنوده التي يجاهد بها في عالم المعرفة..حيرة العقل لازالت في بدايتها..ففي كل عصر ثمة تساؤلات جديدة..ولكل طور حيّ بن يقظان خاص به..في كل مرحلة هناك مهمّة خاصة للعقل يتعين عليه إنجازها..فأي مهمّة للعقل يتعيّن أنجازها في عصرنا الراهن؟
عندما نتساءل حول مهام العقل تحت طائلة شروطنا الإقليمية والبيئية، فنحن نكرّس حالة الاستقالة بالعقل..فتجغرف العقل ومهامه ينأى به من رحاب الأنسنة..ذلك لأنّ جزءا من محنة عقل المحلّي هي أزمة العقل الكوني نفسه..لم يستكمل العقل في مداه الكوني سائر مهامه..ولعلّ مشكلته هنا أنّه لم يحدّد أولوياته وهو في معمعمة التشويش يراكم أخطاءه ويصبح العقل يفكّر ضدّ العقل..حالة من المفارقة تطبع وضعية المعقول المعاصر، الذي هو معقول يقدّم لا بصفته المطلقة بل كأطباق الهامبرغر يبدو المعقول حالة قابلة للاستهلاك الآني فحسب قبل أن يكشف الزمان عن أن ما بدا معقولا هو ضرب من اللاّمعقول المستساغ في لحظته حين يبدو طازجا، ولكنه ما أن يبرد حتى يفسد ويصبح غير قابل للهضم..
إنّ المهمة الجوهر للعقل المعاصر، أقصد المهمّة المستبعدة ، لا تكمن في محاولة تعريف العقل إذ لا زلنا نرتكب خطيئة تعريف أوضح الأشياء..كما ليست هي وظيفة تمييز العقل عن سائر الملكات إذ أن العقل يدرك وظيفته وطريقته وهو أصلا مستوعب لسلطته ويمارسها بعنف ظاهر أو باطن ضد سائر الملكات..فهو حتى لما تستبدّ به تلك الملكات يكون قد اختار ذلك لأسباب ذاتية أو موضوعية..ولكن العقل في حدّ ذاته متجبّر لا يترك فرصة عاجلة أو آجلة ليعبّر عن تمرّده..تبلغ حالة الاحتقان بالعقل إلى أن يبتزّ نفسه والعالم باللاّمعقول..وهكذا يصبح الجنون فعلا عقليّا للتمرد قبل إعادة نظم الأشياء..فالجنون هو نوع من الابتزاز العقلي الذي يمارسه العقل ضدّ سائر الملكات والنظم القهرية التي تسعى للتقليص من صلاحياته أو التسوية بينه وبين ملكاته أو الفصل التعسقي بينه وبينها..ليس إذن لا هذا ولا ذاك هي المهمة المتوخّاة للعقل المعاصر..إنّ المطلوب اليوم من العقل أن يتصالح مع سائر الملكات وأن يرسم لنفسه حدودا ديمقراطية معها وأنا يستعيد وحدة الإنسان المتعدد..وحدة الإنسان من حيث أنّه مدين في معرفته لكل ملكاته..وتعدده من حيث هو طبقات وأبعاد وكثرات وذوات تعتمل ضمن شروط مختلفة تمنحه قدرة لاختراق عالم الأشياء..الاستهتار بملكات الإنسان وتمييزها كما لو أنّها زائدة دودية في الجسد الإدراكي للإنسان وليس باعتبارها حاجة العقل نفسه الذي يستند إليها في تركيب صور الأشياء كمقدّمة لتحقيق المعرفة..المهمة الأساسية للعقل المعاصر أن يعيد اكتشاف هولوغرامية العقل باعتباره يستجمع كليّة العقل الجماعي والروح المطلق..وباعتبار التنسيب نفسه تكتيك عقلي للقبض على المطلق المأجّل دائما في نشاط العقل الحائر والجذر حيث يخشى النهايات..يحكم العقل حتى الآن حكما خفيّا بعدم جدوى المطلق العقلي الموجود بين يديه لأنّه يحدس من بعيد أن عصر المطلق لم يحن بعد، وبأنّ العقل اليوم تنتابه الكثير من الانسدادات، فهو لا يثق بنتائجه المطلقة ويفتح دائما مجالا للإمكان..
يخلق العقل جانبا من ملهياته على هامش قلقه المستدام ولكنه لا يمنحها الثّقة الكاملة..لكن تضخّم حالة الصور التي يركبها ويبدع من خلالها عوالم بديلة قد تستبد بنشاط الإنسان لإخراجه من الفراغ والرتابة..لكنها لا تحدد مصير العقل..فالعقل لا يوجد في تلك المفاهيم الملهية التي تظهر بين الفينة والأخرى حيث تشكّل موضوعات ساخنة في النقاش العمومي..ولكنها في شططها الأيديولوجي قد تصبح عقبة ضدّ العقل والعاقل والمعقول..
إنّ المهمة المطلوبة من العقل اليوم أن يقتصد أكثر في مساره..أي أن يدرك ضرر الزوائد غير النافعة في الإدراك..فمهمّة "الأكاني" حتى الآن لم تنته، وحالقته في مجال المعقول لم تنجز بعد..يشتغل العقل داخل ضجيج صاخب من الأفكار غير النافعة ولكنه يواصل خطواته في كدح مميت في مواجهة الزّيف..وداخل هذا الضجيج يمتسب العقل هو نفسه حالة من التشغيب بحيث يتحوّل إلى أداة ضد نفسها بحيث تكشف بقدر ما تحجب..تعقل بقدر ما لا تعقل..
يسير العقل في رحلته التكاملية نحو مصيره الحتمي: الرشد..وتبدو البشرية اليوم مرتعبة من تطور العقل لأنّها تشعر بالحيرة التي تفجرها ولادة الرشد العقلي..عودة العقل إلى الأنس بملكاته..الخروج من حالة الاختزال..الخوف من عبئ مسؤولية الرشد العقلي والتصعيد من حالة الجنون لحجب هذه النهاية التي تبدو للعالم أشبه بتراجيديا..يخشى الإنسان من بلوغ حالة الكاشفية وتحمّل المسؤولية والفصل بين الحقيقة والمزاج..إنه إحساس لاشعوري ينتاب العقل الجمعي..يشبه يوم الدينونة أو الموت..موت الرغبة..يستطيع الكائن أن يتصوّر كلّ أشكال اللذّة إلاّ اللّذة العقلية فهو لا يحمل تصوّرا مغريا عنها..ذلك لأنه منذ باشر العقل باشره برهق..الخوف من المسؤولية يسلب من الكائن الميل إلى الحرّية..وهكذا يبدو الكائن يستحسن شكلا خفيّا من العبودية درء لخطر تحقق الرشد العقلي..ويظهر اليوم أنّ كل إنجازات الإنسان هي مناهضة للعقل..لأنّها إنجازات تنتهك نفسها وتجعل الحلول آنية ومقدّمة لأزمات أخرى..ويتعايش الكائن مع أزماته لأنّه منذ انتابه الخوف من مسؤولية الرشد العقلي الجماعي وهو يفتعل الجنون ويستحسن تعايش المعقول واللامعقول..ويرى راحته في التنسيب..إنّ المزاج الذي يخلعه الكائن على نشاطه العقلي انتهى إلى حالة من بارانويا العقل..ولعلّه لهذا السبب يعتقد أنّ حالة التنسيب هي من تواضع العقل بينما هو نوبة من نوبات بارانويا العقل حيث يتردد بين حالة الجبروت وحالة الإحساس بالاضطهاد..فهو تارة ينزل أقصى المطلق وساعة ينحدر أقصى التنسيب..وكلها حالة جنون العقل وهو في لحظات المخاض التي ستفرض على الكائن التسليم بمهمّة تصحيح عقيدته في العقل والاعتراف بصلاحيات العقل ومشروعية ملكات الإنسان..وهذا الأوب الحتمي لمعقولية العقل ستكون هي الثمرة القصوى لحروب كثيرة سيصنعها الكائن هروبا من مصيره...

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/01/30



كتابة تعليق لموضوع : مصير العقل
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net