لا زالت قصّة الاندماج الكوني ملتبسة لأنّها تقدّم نفسها على صورة اندماج الجزئي في الكون الكوسمولوجي. وحتى الآن لم نقترب من الرّمزي في تمثّل هذه الحقيقة..إنّ قصّة شقاء الجزئي تبدأ من الانفصال عن الكوني والبحث عن أكوان مزيّفة يستعمل فيها القول الثقيل في المعاني الضّحلة..تضعنا قصة آدم وإبليس أمام أوّل محكّ في رحلة الإنسان، وهي فصة مرجعية وجب مقاربتها مقاربة أنطولوجية وليس مجرد سرد حكاية عن واقعة.. إبليس الذي ظنّ أنه ارتقى بالفعل لكنه امتحن في رقيه الموهوم، حيث سيكتشف أنّه انزلق في حيّز الجزئي وتوسّل قيمته في الاستقسّات واستند إلى إمبريالية الطبقية الكوسمولوجية المؤسس لكل أشكال الإمبريالية التي دشّنها إبليس..تقوم هذه الهرمية على العناصر الطبيعية بعد أدلجتها ليصبح هذا العنصر أفضل من ذلك العنصر وهو أصل العنصرية بعد أن انتقلت إلى الاجتماع الإنساني وبعد أن أصبح إبليس جزءا مؤثثا لتجربة الإنسان في لحظة النزول الدراماتيكي إلى أحياز الكوسموس..هنا ستبدأ رحلة أخرى..جدل المادي والرمزي في حياة الإنسان..فلأنّ إبليس بموقفه هذا افتقد الكبرياء والكرامة لم يعد أمامه من وسائل للمقاومة سوى التوسل بالاستكبار..بين الكبرياء الذي تقدحه الكرامة وبين الاستكبار الذي يسنده انعدام الكرامة، كان آدم قد انتصر رغم الخطيئة، لأنّه حافظ على كبرياء الحقيقة ولاذ بالاعتراف فكان كائنا مكرّما، مع أنّ البحث عن الخلود كان غواية مشروعة من حيث المبدأ وأن الخطيئة تتعلق بالمنهجية، لأنّ آدم وجد للخلود أيضا ولكن في تجربته أغواه إبليس الذي حتى ذلك الوقت لم يكن قد كشف عن مدى تقنياته في الغواية ولا كان قد افتضح أمر عدوانيته المطلقة..لقد كانت تجربته في النكر قديمة بينما آدم كان يستند إلى القيم التي عُلّمها، لكن إبليس تربّص بأولى تجارب الإنسان ليأتيه من حيث حقيقته وحاجته إلى الخلود ، كونه كائن خالد لكن ليس بشجرة التّفاح /الخطيئة بمعناها المادي بل بشجرة المعرفة والوجود الخيّر..انفصل إبليس عن الكون فأصبح عنوان الجزئية القاتلة ومنبع الشقاء الذي يجد ملاذه في النّفس الأمّارة بالسوء..ويسعى جهده للإيحاء بالخلاص من الكوني واضعا الجزئي في قمّة هرم الاهتمام..وحيث الجزئي مبعث الملل فإنه يكثر من الصور الخادعة ويفيض من الأوهام عبثا ما يمنح الجزئي قيمة مستقلة عن الكوني..يستأنس الكائن رحلة العودة إلى الكوني من خلال نشدان الكمالات التي تندك عندها سائر الأضداد..فهو في هذا المسار يتمثّل كبرياءه المفقود ويضع مصيره في سكة الاندماج في الكوني..القاعدة الأثيرة التي تقول بأن بسيط الحقيقة هو كل الأشياء وليس بشيء منها قد تنطبق على الإنسان الكامل لكن من دون قيد..أي أنه يصبح كل الأشياء ولكنه شيء منها..ضمن مقاربة هولوغرامية تجعل الجزء يحتوي الكلّ..مأساة الانفصال حاضرة في رمزية قصة خلق الإنسان الأوّل..الإنسان الأوّل وليس آدم الأوّل..فقبل آدم كانت أوادم..وقبل الإنسان كان النسناس..وآخر الأوادم آدمنا وهو وحده الإنسان..إنّ الإنفصال عن الكوني هو الذي حدّد مصير نزولهما في الوجود..فأمّا إبليس فهو عنوان الأعدام والشرور والتكامل فيهما..وهو آيس من رحمة استئناف الحركة الجوهرية باتجاه الخير الوجودي..بينما آدم هو عنوان الأمل فليس اليأس من طبيعته..يأتي اليأس من خارج طبيعته فيسبّب الانتحار..الانتحار المادي والرمزي للحضارات..تبقى حركة الإنسان هي محاولة مستدامة للاندماج في الكوني بينما تظل دعوى إبليس في الانفصال والجزئي .. في الفلسفات الشّرقية قد نقف على معنى وأهمية الكوني كذلك، وفي كلّ الفلسفات التي جاءت لتذكّر الكائن مهمّته الجوهرية: معانقة الكوني والانطواء عليه.. يبقى لكل عالم مفاهيمه ولغته وغوايته..ويساعد نفاق اللغة على الاستعارة فيحصل الإلتباس..فمفاهيم القول الثقيل والكوني لا تتنزّل نزولا سمحا وبريئا في عالم الاستقسات الجزئي..فالكوني هنا مادي ورمزي..يطلب الجزئي مشروعيته من لغة الكوني عبثا..لكن مصيره يظلّ دائما هو الباب المسدود.. فعالم الجزئي أضيق من الرغبة الإنسانية..إنّه كون مزيف ملول..لا يجد فيه الكائن كامل رغبته ولا منتهى غوايته ولا مستكثر أنسه..إنه وجود شّقيّ..
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat