هل حقا يوجد هيدغيريون عرب؟
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
أمسك كتابا بيدي وكلّي أمل أن أتعلّم منه وأستزيد..يا لخيبة الأمل!..يزعم البحث في تأثير هيدغر في الفكر العربي...أطوف وأطوف..أجد عجبا..تهويل في الموقف واللغة والفكر الهيدغيري لا يقابله إلا تهوين منه للهيدغيرية في تمثّلها العربي..فهمت بكل بساطة أنّ كل من كتب أو ترجم نصا أو أحال إحالة على هيدغر فهو هيدغيري في العالم العربي حسب هذا الكتاب..رأيت إحالة على عيّنات لا زالوا في طور الطفولة الفلسفية أو الشيخوخة الفلسفية المبكرة، لكن ارتقت بهم المحاولة إلى مصاف الهيدغيريين العرب ، وآخرون لا يعتبرون أنفسهم كذلك لكنهم في الكتاب المذكور صاروا كذلك من دون استئذان..آخر أمثلتهم علي حرب الذي حسنا فعل الباحث حين صنّفه ديريديا..الوصف الذي نعتته به قبل 20 عاما واعتبره مخالفا للحقيقة..هذه على الأقل شهادة عززت من ديريديته مع أني أشرت يومها إلى أنه هو كذلك ولكن لا يحيل على ديريدا..أما هيدغر فهو أبعد منالا..مع أن علي حرب يملك في ذاته التمردية شيئا يسمح له بالتشغيب الفلسفي..لكنه في مقارباته السياسية هو أقرب إلى رضوان السيد ونظرائه...دريدي في التفكيك رجعي في التحليل السياسي..لا يمتلكون شجاعة هيدغر السياسية ليس فقط لأنه انخرط في النازية ، ولعل تلك لها ظروفها الغامضة، وربما هي حكاية لا زالت موضوع خلاف، ولكن شجاعة الفلسفة الجرمانية لا تحضر في تجارب الفيلسوف العربي الذي يركن للرجعية ويلعب دور شاهد زور في مسار حافل بصور التفاهة والتّخلّف.. ليت الكتاب أعطى مثالا بعلي حرب، إذن لكان الأمر أهون ، بل صنف آخرين في خانة الهيدغيريين بقرينة أنهم تناولوا هيدغر في بحوثهم عن الفكر الحديث..وربما جاءت تلك البحوث لتقديم عرضا وصفيا أو تأريخيا وليس تأويليا: مهزلة..أعتقد أن تاريخ الفلسفة وحاضرها يواجهان في المجال العربي أقصى أشكال التحريف بل خلط الأوراق والفوضى الذي أساسه: التبسيط.. التبسيط هنا ناجم عن سوء رصد التطور في الموقف الهيدغيري نفسه..التطور أو الانعطافة الهيدغيرية الكبرى من الزمن التاريخاني إلى الدازاين والزّمانية..الانعطافة التي تعتبر في نظرنا غامضة لأنّ هيدغر نفسه لم يكتسب الشجاعة هذه المرة للبوح بها مع أنها أكسبته الشجاعة من أجل الوجود..ومن هنا سيظلّ العرب المهدغرين ادعاء يخبطون خبط عشواء إن هم تجنّبوا التجربة الإيرانية لما يسمى بالهيدغيريين الإيرانيين كما حاول زعيمهم أحمد فرديد..للإيرانيين وحدهم أكثر من رابطة للإعلان عن هدغرتهم..مع أنّي أعتبر أنّ الصواب هو الحديث عن صدرنة هيدغر.. في مقاييس الكرونولوجيا أو تاريخ الفلسفة لا بدّ من أن نصدرن هيدغر..لأنّ الأساس والمنطلق هو من الحكمة المتعالية الصدرائية التي سهّلت على هيدغر أن يقلب الطاولة على الحصر الفلسفي الأوربي وتاريخانيته السطحية..أما العرب فهم لم يصلوا بعد إلى الصدرائية..لقد تبنّى أشطرهم الرشدية وما نفعته في زمن ما بعد الأرسطية..أستثني حسين مروة كونه أشار إشارة من بعيد دون أن يدمجها في مسار تطور الدياليكتيك، فهو أعرف بغرابتها في المحيط العربي..وحاول هادي العلوي أن يقدمها كذلك كلحظة في تاريخ الدياليكتيك العربي ولكن بلا جدوى لأنه تعاطاها كاكتشاف لا تاريخاني..ولأنهم ظنّوا تجاوزها أو التعاطي معها كتاريخ..العرب اهتموا بالماهيات وتركوا الوجود..يحسب لعبد الرحمن بدوي أنه فعل شيئا حسنا ولكن ليس بالوضوح ولا بالثورة التي يقتضيها فعل التمحور حول الوجود..لكنها لحظة شجاعة وذكية..وإن كانت لم تستحضر تاريخها ومرجعيتها..حينما نفكر من دون مرجعية تأتي الولادة خارقة..وحين نكتشف أن خرق العادة لم يكن صحيحا، تتحول المسألة من كونها خارقة إلى خرقاء..في تجربة المغارب حاول المصباحي بعد أن حضر ذات سنة بالصدفة مؤتمرا عن ملا صدرا في الديار الفارسية أن يلتفت إلى هذا الفيلسوف الصلب..وتناثرت أعماله مع استحضار أهمية الصدرائية وكانت المقارنة بين فيلسوف أصفهان وفيلسوف قرطبة..مقارنة حاولت التوفيق أكثر مما حاولت القطيعة لأن بين ملاصدرا وابن رشد قطيعة إبستيمولوجية وأنطولوجيا ومزاجية صارمة..ليتها كانت مقارنة بين الصدرائية والأكبرية..وعلى كل حال فالباحث كان معذورا لأنّ اهتمامه الأول كان حول ابن عربي وابن رشد حدّ الثمالة..والفطام الصدرائي مربك وصعب ومستحيل في بيئة رشدية تطلّبت أن أتبّنى مشروع: ما بعد الرشدية، الذي كلّفني ثورة جيوـ فلسفية وجيوـ بوليتيكية أيضا للمضي في ذلك..ذلك لأنّ الرشدية أصبحت تحتوي على سلطة..زكّاها الجابري بشكل فظيع..الرشدية التي رهنتنا جيو فلسفيا وجيوبوليتيكيا أيضا.. لكي أتمرّد ـ وهو تحصيل حاصل ـ على الرشدية، كان لا بدّ أن أتمرّد عن منظومة كاملة..كربلاء فلسفية..تعيد اختبار الأسس..ولأنّ الوجود أغراني أكثر من الماهية..وجدت نفسي في تجربة وجودية وتاريخية عزّزت لديّ القبول بأصالة الوجود..كانت لي أكثر من ماهية بقدر خبراتي في الوجود..ولو أنّ الصدرائية لم ترفض القول بالانقلاب ، لفكّر السالك في أن يخرج عن حدّه الإنساني، وسيكون ذلك أحيانا أدعى للطمئنينة بعد أن انهار هيكل الماهيات الممكنة للإنسان..الإنسان يتماهى ويتعدد في ماهياته..ولا زلنا نرى أن حراس الماهية الوحيدة للإنسان هم صنّاع الحروب والخراب في العمران..لا يحسبنّ المرء أنّ الخروج من الرشدية ها هنا هو نزهة الخاطر، بل هو حقّا رحلة سفر عقلي إلى الأقصى..أن تكتشف الوجود مجددا..يعني أن توجد مجددا..أن تكتشف بأنك ضحية وهم الماهيات..أن تعانق خبرة الوجود الواسعة الممتدّة..
لا يمكننا أن نكون هيدغيريين إلاّ أذا كنا صدرائيين.. إلاّ إذا أخرجنا الزمان من استقلاليته وزجّينا به في تجربة الوجود..إلاّ إذا أعدنا الاعتبار للوجود في فهم تنوع الماهيات وتطورها وانبثاقها كحالة ثانوية عن الوجود..إلاّ إذا زجّينا بالمعرفة في صميم الوجود..بهذا المعنى لا زال العرب أبعد ما يكونون عن هيدغر..بقدر رشديتهم الفلسفية لن يتهدغروا، لأنهم أصلا لم يتصدرنوا..لأنّهم حصروا تاريخ الفلسفة في ابن الوليد..ولا يخدعنّك مضغ بعض العرب لفصوص من نصوص هيدغر هنا أو هناك ، فهذه رياضة لا أمّ لها..يفعلون ذلك مع نقائض هيدغيرية أيضا..هي لعبة تناص بلا بوصلة ولا التزام فلسفيين..اليوم يتباهى بهيدغر وغدا سيتباهى بكانط..التباهي بكل شيء من أجل لا شيء..عمائية عربية..نهايتها اللاّأدرية..غياب الاستقامة الفلسفية العربية لن تؤهّلهم إلى التزام الصرامة الفلسفية حيث هيدغر يتربّع على رأسها في الفكر الحديث..تبقى مع ذلك الحاجة إلى الاستئناس بالنص الهيدغيري..بترجمة لا تضعنا أمام ثنائية التبسيط الترجمي الذي احترفه بعض المستهترين باللغة الفلسفية والتهويل الترجمي كما بلغ منتهاه عند داعية الترجمة التداولية..لست من الذين يعتبرون الترجمة مستحيلة بل الترجمة هي ولادة أخرى مشروطة بالتزام النص الأصلي..كتأويل للنص قابل للتواصل مع جوهره الفلسفي..حينما لا يتعاطى العرب مع الفلسفة كموضة أو موضوع استهلاك عمومي يمكن أن يكون لها مصير موضوعي..هناك حيث الشعر يتحمل أن تقول ما لا تدري..لكن الفيلسوف لا ينبغي له أن لا يدري ما يقول..وبالجملة لا زال الرهان طويلا قبل الحديث عن وجود هيدغيريين عرب...
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat