في الوحي والحدس والعقل....

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 ولا زال الفكر الإسلامي الحديث يدور دوراته لينتج حصرا في فهم معاني العقل والحدس والوحي وغيرها من المفاهيم المفتاحية في علم الكلام أقدمه وحديثه معا.. ولا زال يخشى علم الكلام الإسلامي شأنه شأن علم الكلام البيزنطي من دور الحدس بوصفه ضرب من الوحي، إذ الحدس وبخلاف الوهم لا يخطئ..ومع أنّنا نعتبر كل هذه إن هي إلاّ مراتب في الإدراك النفسي وصولا إلى العقل الذي له معنى أوسع مما آلت إليه العقلانية الوسطوية والحديثة ، فإننا نمضي حسب الإثنينية نفسها لنعزز فهما مختلفا عن هذه المفاهيم ..نذكّر ابتداء بأنّ الحقائق تتنزل وحيا أو حدسا ثم تأتي البراهين تترى ، فما ليس مضمونا هو البرهان وليس الوحي والحدس..البرهان هنا ليس في معناه الأوسع بل في معناه الأضيق الذي يقتصر على الأنساق المنطقية الأولى..البراهين تتطور وتختلف وتتعدد ووتتسع وتضيق بينما الوحي والحدس هما الشيء الذي تدور حوله كل النشاطات العقلية.. ولكي تستقبل الحقائق الوحيانية أو الحدسية قبل البرهان عليها او بالبراهين الثاوية المقبوضة فيها تحتاج الى قلب يتقلب مع الحقائق ويدور معها حيثما دارت، وينقبض معها حيثما انقبضت ، وينبسط معها حيثما انبسطت.. فالظواهر غير المحسوسة هي أكبر من الظواهر المحسوسة..ومهام العمل تقتضي حدوسا أسرع في الاستثمار من النظر..إنّ مداخل الوحي هي ذاتها مداخل الحدس..فالوحي حدس أكبر والحدس وحي أصغر.. وكما في الوحي يتأخر البرهان فكذا في الحدس..وهذا لا يعني خلوهما من آثاره بل إن البرهان ثاوي في مضمونهما تعيه العقول المبصرة.. واذا كان النحل أوحي له واستلهم فهذا يعني ان الحدس يمكن ان يلهم عالم ما قبل العقل او تحت العقل مما يعني ان الوحي بمعنييه الأكبر والأصغر (=الحدس) وحده القادر على انهاض الأمم ،لأنه يلهم كل مستويات الادراك بما فيها من هم كالانعام او اضل سبيلا..وهذه هي ديمقراطية الوحي التي تأخذ بعين الاعتبار المدارك السفلى لأنها مدارك اغلبية النوع...بل أكثرهم لا يعقلون..فالوحي يخاطب ما بعد العقل وما قبل العقل..يخاطب الأنبياء والنحل..لأنه أوسع وله أيضا مراتب كثيرة..فالوحي يخاطب حتى الذين لا يعقلون...ويخترق بنية مداركهم بالوحي الذي لا راد له..حيث مهما عاندت نفوسهم استيقنت ما هنالك من حقائق.. واذا كان العدل الإلهي هو قيمة القيم في منظومة القيم والصفات أيضا التي هي ملهم القيم، فإن مقتضى العدل أن يكون الوحي هو وسيلة تعليم العادل للظالم(= الظالم هنا عنوان يشمل كل من ظلم أو سفه نفسه ومن مصاديقها الجاهل)..لأنّ الاختزال العقلي هو دائما كان أسطورة، فالبشر هم انفسهم اعتمدوا الايحاء والشعر والرمز وزخرف القول في ابلاغ المعنى في كل العصور.. إن محاولة وضع العقل مقابل الوحي هي من أسذج المقابلات التي سقط فيها علم الكلام المكلوم المريض.. وبما انه حصل التباس في مفهوم العقل كان لا بد من التنبيه إلى أن المقصود من العقل هنا ، العقل الأكبر المستوعب للحقائق كلها حضورا واكتساباا، ولذا كان حدث الوحي مرعبا لانه وسع من مدارك الادراك..وأعتقد أنّ من بين اسباب استهداف العرب بالوحي انهم قوم بلغ الحدس لديهم مبلغا عظيما كما شهد بذلك كثيرون ومنهم أعلام من فارس كابن المقفع والرازي صاحب كتاب الفراسة...لانهم قوم حدس وشعر وهما أوسع من مدارك البرهان الارسطي، وتطلّب الأمر أن نعبر كل هذه المسافة لنبلغ فلسفة الإشراق والعرفان الأكبري والحكمة المتعالية لكي نقف على أهمية الحدس ومحدودية المنطق الأرسطي..بل ما كان ابن تيمية في كل مغالطاته لنقض المنطقيين سوى عالة على أهل الإشراق والحكمة، حيث استلهم منهم الجرأة لنقض المنطق، من دون إحالة واعتراف بينما هم فعلوا ذلك على أرضية بديل خلاّق بينما كان هو يفعل ذلك على قاع صفصف وبيداء جرداء من مدرك حقيقي وهو ما لا زلنا ندفع ثمنه اليوم في منطقتنا الرمادية بين غياب المنطق وغياب التأويل الباطني للمعرفة..فكنّا في وضعية اللاّءات المعرفية القاتلة.. قلنا إنّ مداخل الوحي هي ذاتها مداخل الحدس..فالوحي حدس أكبر والحدس وحي أصغر..فلو توجه الوحي لأمة مذهبها البرهان الأرسطي لضاع الوحي ووظيفته واهدافه ولأصبحنا أمام حالة طبقية من المعرفة والدين ، فيكون الدين دولة بين العقلاء البرهانيين والارسطيين منكم، ولا حظّ لمن دون ذلك منه..ولقد رأيت أنه حينما تأرسطت الحقيقة في ديار الإسلام تحوّل الدين إلى صناعة طبقية وإكليروسية..وإذن لما كان دينا للمستضعفين في الأرض..هل المعاني الكبرى والمطلقة يمكن ان ترتهن لمنطق لا يصنع سوى ظنونا واحتمالات؟ لا بد لكي ندخل الملكوت ان نكون اطفالا..اي على الفطرة التي تعني استقبال الحقائق بالذوق ، وان عصر البرهان المنطقي هو عصر الشيخوخة المبكرة للبشر..كل ما في الكون يخاطب حدوسنا.. بينما أرادوا ان يختزلوا النوع في مدركات العقل الأداتي..الذي هو في الحقيقة عقل بلا حدس..وبالتالي هو اقل قدرة حتى من الذكاء الطبيعي للكائنات الحية..ان لدي شعور هو نفسه منذ الطفولة..لا شيء زاد سوى تقنيات التقديم والتأخير التي يقتضيها المنهج وبعض المعطيات..اما الروح نفسها التي أتعاطى بها مع الكون ، هي هي نفسها..ومن هنا نؤكّد ونذكّر بأنه كان المطلوب منهم ان لا يكسروا الفطرة بكسر تساؤلات الطفل بل عليهم ان ينمّو فطرته ويجعلوها تهيمن على روح العلم.. لكنهم يستهدفون بالتربية كسر روح الطفولة اي الفطرة ، بينما المطلوب تنمية روح الطفولة أي الفطرة وجعلها فطرة خبيرة..إنهم فرّقوا بين الفطرة والعلم ، فكان بلاء الوجود..وحين تجتمع الفطرة مجددا بالعلم يكون خلاص العالم..الفرق بين الفطرة الاولى والفطرة الخبيرة تلك التي باتت مثقلة بالتجارب الكبيرة والقول الثقيل..تعزز سلوك العقل الإسلامي بتشريع الصلاة من حيث هي تعزيز للتواصل مع الحدس أو الوحي الأصغر حيث يفترض أنه مع كل لحظة تواصل يتحقق زخم جديد من المعرفة..يفترض مع كل صلاة يحصل استنزال جديد لحاقائق جديدة..وهو ما لا يتحقق لأنّها لا تؤتى كوسيلة للاتصال بمنبع الحقيقة..ولو أنها فهمت كما ينبغي لكانت مصدرا من مصادر الإلهام والمعرفة.. لم يكن هدف هذا الدين أن يمحق الطبيعة الشعرية والحدسية للعرب، بل كان الغرض أن يرقى بها إلى ما بعد الأنساق التي ارتهنت لها تجارب الأمم، غير أنّ تاريخانية التنسيق الكلامي والفلسفي سعت لتحويل العرب من أمّة شاعرة إلى أمّة إيساغوجية..فأضاعو ما لهم وما ليس لهم..وجب إعادة توزيع أوراق الفهم الديني والبدء في ترتيبه مجدّدا على أصول لا تستجيب للاقتصاد السياسي للإكليروس السلفي، كما لا تستجيب لإكراهات المزاج الذي انبنى عليه علم الكلام القديم ولا حتى المزاج الذي انبنى عليه علم الكلام الجديد بوصفه شبه علم يبحث عن ماهيته الملفّقة في الأسئلة الجبانة لا الأسئلة الشجاعة، أقصد بالأسئلة الشجاعة تلك التي تنبق من الحاجة الكونية لا من ضغط أسئلة الحداثة بوصفها لحظة أساسية في التاريخ وليس لحظة قصوى في تاريخ العقل..كلّ هذا ينحلّ إذا تجاوزنا الثنائيات المانوية للعقل والحدس، وأخدنا الكونية في وحدتها ومنازلها.. 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/06/04



كتابة تعليق لموضوع : في الوحي والحدس والعقل....
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net