صفحة الكاتب : ادريس هاني

وجع التراب....
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

كيف تستغني عن التّاريخ وفيه نقف على ميلاد الأزمات..نرجع للتاريخ فقط لكي لا نكون أغبياء ونحن نكرّر الأخطاء ذاتها..التاريخ هنا حاجة تقدّمية.. ربما لم نستعمر نحن المغاربة إلا برسم الحماية..ولكن المشكلة أنّه ذات يوم حدثت فوضى المحميين..لم يكن العربي المشرفي مخطئا في موقفه من المحميين لما كتب رسالة عن أهل الباصبور الحثالة..تجار أو بعض تجار فاس الذين تسابقوا إلى الأجنبي..كل شخصية صارت تستقوي على الدولة بالأجنبي..منهم لغرض التهرب الضريبي..أو مما كان يسمى يومها بالتويزة وهي الإجهاز على ممتلكات البعض..ليس من باب الشفافية عمد الحجوي التعالبي صاحب الفكر السامي في الفكر الإسلامي أن يعلن عن ممتلكاته، بل كان ذلك خوفا من التويزة وهو صاحب الرحلة السفارية التي تضاهي تخليص الإبريز في تلخيص باريس لرفاعة الطهطاوي..سياسة كان يقبل بها النظام الاقتصادي يومها..قلت ربما لم نستعمر الا برسم الحماية التي تحولت الى احتلال سافر..كان ذلك بعد حرب كلاسيكية بين فرنسا والمغرب..معركة اسلي..ولكن المشكلة تكمن في مؤتمر ايكس ليبان..حيث برز دور المحميين..تذكرون عبد الحي الكتاني..العالم النحرير والمحدث الذي يصل سنده إلى شمهروش..الذي داهن الاستعمار ولكنه هوجم من قبل العلماء..ولما خرجت فرنسا رافقها وعاش في ديارها إلى آخر حياته..بعضهم يظن أن الاحتلال لن ينتهي أبدا..ويكيف مصلحته على هذه الأبدية التي يخلقها ضمير الجبناء..بالفعل وكما وصفهم الشيخ العراقي في المغرب أنذاك بأن هذه الشراذم من تجار فاس هم حقا جبناء غلب الطمع والدنيا على قلوبهم حتى عشقوا معاشرة الروم..المحميون لهم في تاريحنا حكاية..بل كان بعضهم كما هو عبد الحي الكتاني وكما وصفه بشير الابراهيمي يوما بأنه هو نفسه "رواية"..رواية لأنّ من يروي عن شمهروش لن يثنيه أن يغالط حتى وهو ينضم إلى قافلة أهل الباصبور الحثالة كما وصفهم العربي المشرفي أو حتى جعفر بن ادريس الكتاني صاحب الدواهي المدهية للفرق المحمية..هؤلاء فرضوا علينا مؤتمر إيكس ليبان بشروطه المجحفة التي حفظت مصالح فرنسا..كنا في حالة تجريب للتاريخ..قاومنا أكثر في ظروف صعبة وفي ثغر بالغ الخطورة..استعملت فرنسا وإسبانيا أسلحة كيماوية سممت بها جبال الريف بالشمال، كان لا بدّ لقمع مقاومة الريف أن تستعمل أول مرة في التاريخ أسلحة كيماوية ضدّ مقاومة..أشبهها بالقنبلة الذّرية التي استعملت في اليابان والتي كانت بمثابة النهاية..من يجهل هذا التاريخ، ومن يجهل أنوال وبن عبد الكريم الخطّابي ومن يجهل موحى اوحمو الزياني لن يقف على الوجه الآخر لصمتنا الذي كرّسه أهل الباصبور الحثالة.. الجميل هو أننا أسسنا لضرب من المقاومة يصعب مقاربته فقط بمنهجية التّاريخ..لنتحدث قليلا عن أنثربولوجيا المقاومة..ليس وحدهم حثالة أهل الباصبور من كان يلعب لعبة السحر والجان، ففي الجبهة الأخرى من فعل ذلك..لم نقف في قراءة تاريخ المقاومة ضد الاستعمار على ما ابتكره المغاربة من وسائل غرائبية حيّرت الفرنسيين..كلكم يعرف حكاية عيشة قنديشة التي لا زالت تسكن الذّاكرة الشعبية المغربية..المرأة المقاومة التي لعبت أدوارا في التربص بالفرنسيين باعتبارها عيشة صاحبة الواد (عيشة مولات الواد)..الكائن الجني بالغ الشقاوة..التي يجب أن تحذر منها في كل مكان..حارسة الليل..المتربّصة بالرجال..ابتكر المغاربة أسطورة عيشة قنديشة في معمعة المواجهة مع الفرنسيين..كان العلماء الموصولون بحركة النهضة في مصر والشام يكافحون الخرافة ويدعون إلى اليقظة لمواجهة الاستعمار وكانت الثقافة الشعبية تبتكر وسائل مفارقة لمواجهة المستعمر..وتلك كانت الشكل التناقضي الضروري الذي تأسست عليه الكتلة التاريخية لمناهضة الاستعمار..إن الاستعمار لا يخرج بوعينا فحسب، بل أيضا ينقهر بلا وعينا..المقاومة هي حصيلة تظافر المعقول واللاّمعقول الذي يستند إليه مكر التاريخ..وهذا يعطينا فكرة عن دور الأيديولوجيا في دحر الاستعمار..يجب أن نبيّئ أيديولوجياتنا برسم المقاومة ، لأنّ آثار التبييئ هي تمكين واقتدار من شأنه أن يخطّئ حسابات المستعمر الذي يعمل وسعه ليجعل منّا صورة عن انتصاراته..حينما نتمثّل روحه مثل كراكيز بائسة..على الأقل الأثر المحلّي لأيديولوجيتنا يظل فيه شيء مبتكر وعفوي وقادر على التجاوب مع حركة التاريخ...شيء منّا وفي ذاتنا وحده يستطيع أن يحرّرنا من الآخر الذي يأسرنا داخل سجن تمثّلاتنا وتبعيتنا وهذا القهر الممنهج الذي نمارسه ضدّ مكتسباتنا وذواتنا..التاريخ لا يحفل بمن يقتلون ملكة الإبداع في أنفسهم.. أقول هذا وفي الكنانة أسهم كثر، وانا اتأمّل سيرة اهل الباصبور الحثالة اليوم، ممن يشكّكون في كلّ ما يقيم أودنا.. يشكّكون حتى في ملكات لاوعينا الذي هو صنع لا شأن للتاريخ به..هو محصول تناقضاتنا التي تحمينا من خطط الوعي التي قد نغقل عن شروط مقاومتها..يمنحك اللاوعي فرصة لاستدراك الوعي حينما يوقف جهاز الاستقبال..حينما تتحقق الكتلة التاريخية والإرادة السياسية ، فإنه يمكننا أن نهزم الاستعمار حتى بأساطيرنا التي مهما استطال أنين يتامى فاوست، فلا شيء يحجب حقيقة أنّنا بها نحيا..كما بتمثّلات التفاهة نموت..أعود وأدكّر بأنّ التاريخ هو مسرح أيضا لصراع المصالح..ولكن المصالح وحدها لا تحدد مصير التاريخ.. كما أنّ التاريخ الذي نرويه بوعي نمارسه بلاوعي..إنّنا نتكيف مع مكر التاريخ ولا ندرك منه إلا بقدر ما تدرك منيرفا هيغل..فلو كنا نمارس التاريخ بأثر رجعي لكنّا تجنّبنا الأخطاء..مثلا كان أحرى أن لا نهزم البرتغال ونعود إلى حدودنا الطبيعية..بل كان أحرى أن نأخذ أو نتقاسم شبه جزيرة إيبريا حتى تكون حزاما أمنيا..وحينئذ ما كان لنتحدث في يوم ما عن أزمة صخرة ليلى..كان أيضا أولى لو سرّعنا في مخطّط تاريخي لغزو أمريكا اللاّتينية..مخطط تاريخي في تحالف مع بريطانيا أنذاك..إذن لتقاسمنا القارة وواصلنا المسير إلى الشمال وعرّبنا الهنود الحمر وتفادينا حكاية العم سام..هذه بعض من التّكهّنات الممكنة..لكن يؤسفني أنّ هذا البلد الذي هيمن في العهد الموحّدي على ما وراء البحار والسهوب، بات يعاني من مشكلة استكمال وحدته الترابية التي سجن فيها حتى لا تقوم له قائمة..وهذا هو هدف الإمبريالية من الكائن(مارويكوس)..المرّاكشي الذي لا يعرف إلا مذهبين : الانتصار أو الإكتئاب..المجد أو المجون..العقلانية أو السحر..الأقصى أو الأقصى..كنّا دائما نحن المغرب الأقصى..في النصر والإكتئاب..الكائن مارويكس له حكاية مع 15 كلم تفصله عن أوربا..شاركها ويشاركها رهانات المتوسطي..وله حكاية أخرى مع عمقه الأفريقي وسحره وطبيعيته.. رهاناته المشرقية..بربريته التي تطوّح فيها أهل الاستنباط..حصيلة هوية مركّبة..يثير مصير الكائن مارويكس تحدّيا جيو أنتربولوجيا على سفهاء الضفة الشمالية للمتوسطي، الذين يدركون أنّ مارويكس وحده من اصطنع له دولة مستقلّة عن الاستكبار العصملّلي..لازال يرى في لاخيرالدا سمت المارويكس وكبرياءه الذي حطّمه تاريخ من الاستنزاف..هل يا ترى: قلّي أيّها العابث بأعصاب المارويكس..كيف تظنّ أنّ هذا الأخير الكلوستروفوب (المصاب بفوبيا الأحياز الضيقة) من شأنه أن يقبل بنصف مساحة مما فرضها الاستعمار؟..قضية الأرض التي كنّا فيها كرماء ومتسامحين هي آخر ما تبقّى من كرامة..كيف يتمّ العبث بخريطتنا ونحن من رسم خريطة العالم..فلتكن ما شاءت أيديولوجيتك، فهي لن تغيّر تاريخ الأرض وكبرياء المغرب العميق الضارب الجذور في أدغال التحدي التاريخي..أسود الأطلس وآباء المحيط الذين فرضوا الخراج على قراصنة اعالي البحار..كنّا نعتقد أنّ سايكس بيكو هي آخر جرح في جسد جغرافيتنا الممزّقة، غير أن غريزة التنتيف والتمزيق فاقت الحدود.. إعادة توزيع الخرائط وهيكلة الجغرافيا في خريطتين واحدة منها مهيكلة في مشروع برنار لويس والأخرى غير مهيكلة ولكنها نقيضة في الشكل متماهية مع الأولى في المضمون..جغرافية توحّدك على الذبح لتجعلك ترى الرحمة المهداة في خريطة برنار لويس التفتيتية، أي حينما يعطى انطباع أو صورة عن مشروع وحدة جهنّمية يسكن رعبها التاريخي في لاوعي يجد نفسه ينزاح مرضيا نحو التقسيم بدعوى الفدرلة التي لا نملك ناصية بنيتها التحتية والإدارية والثقافية..أولئك الذين يتطلّعون إلى تحويلنا إلى شذر مدر بينما هم يتربّعون على أكبر القارات التي لا جذر يربطهم بها، هؤلاء إن هم طالبت ولاية واحدة من جملة بحر من الولايات بانفصال لأبيدت عن بكرة أبيها..كنّا هنا في أرضنا قبل أن يكونوا، ومع ذلك يطالبوننا بالشرعية في موقف تاريخي تهكّمي وعجائبي، حيث إنّ سرّاق الأرض يشرفون على لعبة تقرير المصائر برسم خطط جيوستراتيجية تغلب فيها السياسة على القانون..والمصالح على التاريخ..يساءل من له أرض بلا تاريخ من له تاريخ وأرض..حيث كلّ قطر عربي بات مهدّدا بلعبة تقرير المصير، كما لو أنّ "شقيفات" الجغرافيا العربية باتت تثقل كاهل نظام عالمي غير عادل يسعى إلى تذريرنا وتفتيتنا بطريقة لانهائية لا يوقفها سوى انقراضنا وتفتيتنا إلى حدّ نغدوا فيه كذرّات الرّمل..كنا نتطلع انطلاقا من هذا المكتسب إلى مزيد من الانصهار والوحدة والتضامن فإذا بنا نلعب لعبة التقطيع والفصل والانفصال الممقوت ، ممقوت ممقوت حتى لو أقسم زبانيته بجميع آلهة الفتنة والتقسيم..لا يصار إلى الضغط على الأمم في أرض يملكها شعبها إن سعيت لفصله فستفصل الإبن عن أبيه..والأخ عن أخيه..أحمق انفصال عرفته البشرية..ولك أن تتحامق بكل بكائيات المناضل الآكروبات الذي يخدم أهداف الإمبريالية في الصميم..فما رأينا التقسيم إلاّ كفرا سياسيا في زمن الضّلال الجيوبوليتيكي..لعلمي أن من دنى من عجر وبجر هذا النزاع احترق وتفحّم وتدلّى وكان مصيره كالسامري تيها في الصحراء: لامساس..يحزنني أنّ بعضا من الرّاقصين على حبال الموت يعتقدون أنّ المارويكس هو قابل للتحجيم..إنّنا نخشى من العودة إلى وجع التراب...


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/07/08



كتابة تعليق لموضوع : وجع التراب....
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net