صفحة الكاتب : ادريس هاني

في عبادة العجل الفلسفي
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لا شيء يستقيم في الوجود من دون فلسفة تغذّي بقاءه أو تنتج وجوده الأوّل..ويحدث تباعا أن يستبدل الكائن معبوده الفلسفي بمعبوده الدّيني، تتجلّى فيه الطقوس نفسها من الخضوع والتسليم..وأكثر فلاسفتنا في المجال العربي هم عبّاد عجل فلسفي أو أكثر إلى حدّ الشّرك بين أكثر من عجل فلسفي..ذلك لأنّهم حوّلوا الفلسفة التي هي تأمّل مفتوح إزاء الوجود إلى عبادة الفلاسفة وتمكينهم من كل صفاة الآلهة واعتبار مقولاتهم وحيا معصوما لا طائلة من وراء نقده..وهكذا حينما يجد المرء أنّك تقف وقفة إنصاف من هذا الفيلسوف أو ذاك يعتقد أنّك ممن يسلّم له بسائر فلسفته..وهذا هو أسوأ ما يؤسس للنفاق الفلسفي..ذلك لأنّ الفلسفة هي تأمّل ومساءلة ونقد..والأمر نفسه يحدث عكسا، فمتى رآك الرائي في موارد نقد فلسفة ما يعتقد أنّك كفرت بها ولم تر جانبا من جوانب الإيجاب في مقولاتها وهذا موقف يشبه الأوّل..

ومثالي على ذلك في القدامى أنّ نقد أرسطو وهو النقد الذي انخرط فيه العصر كلّه هو متّجه نحو بعض الأسس التقليدية في نظرية المعرفة أو الوجود التي كشفت عن عقمها التّاريخي..وكذا أفلاطون وكذا الفلسفة الحديثة بدء من ديكارت حتى هيغل..غير أنّ هذا النقد هو فعل تجاوزي لتاريخ الفلسفة..وكل شيء له تاريخ هو قابل للتجاوز..لا أعني تاريخ ما أنتجه البشر عن الفلسفة بل أقصد تاريخ إبداع الأشكال الأكثر نفوذا في نظرية المعرفة والوجود..

ميلي الكبير للصدرائية ليس كما يتهيّأ للكثيرين أنّه من جنس الميول التي هي من هذا القبيل..إنّ الصدرائية أغرتني بقدرتها القديمة على النقد..إنها عملية نقدية وأيضا شكلا من التناص الفلسفي الخلاّق الذي قد يراه البعض (بين - مناهجي) بينما نراه (عبر - مناهجي)..القيمة الفلسفية للصدرائية هي التناص والنقد..خاصية الشجاعة من أجل المعرفة والوجود إلى حدّ القول باتحادهما..هي ما نعتناه بالرجولة الفلسفية وإرادة كسر الأصنام..من خلال الصدرائية التقطت أجزاء الوجود المتشظّي، ومن هنا الوقوف على أسرار الاختلاف المعرفي نفسه باعتباره اختلافا في الوجود..والاختلاف في الوجود هو اختلاف يحدّده الموقف من الوجود..والتموضع الذاتي من مراتبه..إنه اختلاف في مراتب الوجود ووحدة في سنخيته..استجمعت الصدرائية الوجود ووحدته ولكن ميزته مراتبيا وغيرت كل المفاهيم الأخرى سليلة الفكرة التقليدية حول الماهية كمؤسسة للوجود..هذا الانقلاب ليس هيّنا في تاريخ الفلسفة ولا ينهض به إلاّ شخص امتلك الشجاعة من أجل المعرفة وأمسك بصولجان الرجولة الفلسفية التي قوامها الثّورة على المقولات وتحطيم الأصنام..

ولكن هذا لا يعني السقوط مرّة أخرى في عبادة الصدرائية التي حتى الآن لم أقف على مكامن خطائها لأنّ كل ما يبدو لي خطأ منها هو قابل للتأويل..لأنّ ما يحجبني كثيرا عن تفاصيلها هو روعة أصالة الوجود والحركة الجوهرية التي فكّكت كل المعضلات التي كانت تؤرّق قناعاتي بالوجود ومسائله فلا أهمية لتفاصيل تنزيلها في الأمثلة الفلسفية التي كانت تعكس باراديغم عصرها في العلم والمعرفة..ولأنّ الذي حجبني عن تفاصيل ما قد يبدو خطأ هنا أو هناك هو أن أخطاء الصدرائية ليست أخطاء استراتيجية بقدر ما هي أخطاء تكتيكية..لكن ما حجب عني كل هذا هو اهتمامي بالشجاعة من أجل المعرفة وباللحظة التاريخية الإبراهيمية الصدرائية التي كسرت كل الأصنام وواصلت كفاحها على طريق الانتصار للوجود..حينما قال مرّة: لا عليك من هؤلاء(الفلاسفة)..

وقد أحالتني الصدرائية إلى هيدغر وليس العكس..فرأيت أنّ الهيدغرية هي انبعاث لروح الصدرائية فيما يتعلق بتجربة الوجود..وربما السياقات قد تفرض أفهوماتها على هذه الفلسفة أو تلك لكن روح الفلسفة تظلّ هي هي من حيث انشغالها بالوجود وتغيير منحى الفلسفة من الماهويانية إلى الوجودانية وهذا انقلاب له مظهران فقط: مظهر صدائي ومظهر هيدغيري..وسبق وأكدنا مرارا أنّ لا شيء من شأنه أن يحدث تقدّما في الفلسفتين إلاّ بقراءتهما في بعضهما البعض..قراءة هيدغر في الصدرائية والعكس، باعتبار أنّ الأصل في ظواهرية الوجود هو أصالة الوجود نفسها..

وتبقى النيتشية أيضا حيث يهمّنا منها كبرى مزاعمها وتحقق الثورة المعرفية معها بحيث أنّ النيتشية هي نهج خلاّق للرجولة الفلسفية التي غيّبتها الكارتيزية والهيغلية والكانطية..لقد شكلت إنقاذا لمصير الفلسفة وأعادتها مستنجدة بأصول لم تتعاطاها تاريخانيا بقدر ما أربكت الترتيب الاعتباطي لزمن الأفكار..هذا دون أن يعني ذلك أنّ النيتشية غير قابلة للنقد، لعل أهمه النقد الهيدغيري بخصوص التشكيك في أصل القيم التي سعى نيتشه إلى إقامة قيمه الجديدة عليها في إرادة القوة، حيث لعل ذلك هو نصيب الأثر الذي لم يتحرر منه نيتشه من المنظور الميتافيزقي للأخلاق الذي هيمن حتى القرن التاسع عشر..

لكن في زمن بات الموضوع الأكثر أهمية هو هدم الأصنام كان لا بدّ من إعادة إنتاج نيتشه الذي أخرج الميتافيزقا الغربية من معبدها وحررها من كهنتها وانتزع مقولاتها من سدنتها وأطلق روحا تحررية قوامها تحطيم الأصنام الفلسفية والعمل على إعادة تأسيس قواعدها على إرادة القوة..

في زماننا العربي نحن في حاجة إلى فلاسفة من هذا الطّراز..يحملون معول هدم الأصنام وإقامة أسس فلسفة ثورية في المعرفة والوجود..تكون فيه الفلسفة ثورة دائمة على الجمود..جمودها قبل جمود العالم..أنّ تتحرر من تاريخها ومن أيديولوجيا سدنتها الذين مأسسوا تيّاراتها وحوّلوها إلى مذاهب كلامية تخلوا من مغامرة التّناص وتتمنّع عن معاقرة تجاوزيتها برسم (العبر_مناهجية)..فالفلسفات الناجحة هي تلك التي توفّر إطارا لاستمرارية المغامرة في تجربة الوجود..هي التي تمنح لكل تجربة حقّها في بناء نتائجها الفلسفية..وفي اعتقادي هذا يتطلب شجاعة..تلك التي لم نجد لها مثالا إلاّ في الصدرائية والنيتشية والهيدغيرية..وكلّ رهين بطريقتنا في التّأويل..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/08/05



كتابة تعليق لموضوع : في عبادة العجل الفلسفي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net