انقلاب القلب ومصير العقل المختزل
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حينما فرّقوا بين العقل والقلب، قلت: فخذ عقلك إذن واترك لي القلب..فمن القلب قد يولد العقل الكامل..لكن أنّا لك من العقل أن تنتج قلبا..لذا فإنّ المصير الذي تسلك عليه حضارتنا آيل إلى منعطف خطير معه تستبد الغريزة وتقصي معا: العقل والقلب..وأمام هدير العقل الأداتي ومستحقّات تدبيره للنفس والمدينة والزمان، فما عليك إلاّ أن تقبض على القلب، ففي قسمته يوجد هولوغرام إعادة استنبات العقل خارج الثنائية الكارتيزية وتوابعها التي بدأت تفقد سلطانها على أعتاب الهيغلية وإلى حدّ ما الكانطية ولكن عبثا كما أظهرت إرادة نقد العقل خارج شروطه الثّنوية ذاتها..أعني حينما اهتدى العالم إلى عجز العقل عن احتواء أزمته..كلّ أشكال النقد الذي وجّه للعقل الأداتي هو نفحة من نفحات القلب، أي مما تبقّى في الفصّ القلبي بعد القسمة التاريخية، ومنه تنبعث هولوغرامية العقل البديل..لم تفعل الفلسفات سوى أنّ ولعت بالحدود..أي أن تحدّ مجالات اهتمامها واشتغالها قبل أن تعمد إلى سلطة الاختزال وبالتالي محق الإمكان وحرق ما تبقى من مساحات الفكر..القلب هو الضامن لعودة انبعاث العقلانية الكاملة من جديد..لأنّ العقل أوسع ، ولأنّه يحتفظ بالجذور الهولوغرامية للعقل الذي زادته العقلانية الاختزالية ضمورا..أعني بالقلب آلة تدرك مسؤوليتها أمام المصير الذي آل إليه العقل.. مسؤولية البحث عن العقل المفقود والمعنى الأوسع لعقل أداتي فقد رشده لمّا أصبح أداة استبعاد وقمع للمساحات الأخرى من قوة الإدراك لدى كائن متعدّد الأبعاد..القلب الذي لا ينفعل فحسب بل الذي يفعل..القلب الذي في شعوره يؤسس للفكر..إذ كيف يستقيم الفكر من دون شعور؟..فأصل الفكر شعور وأصل العقل هو القلب..
لم يستطيعوا استبعاد القلب ولكنهم ساهموا في حصاره..ساهموا في انشغاله خارج اهتمامات العقل الأداتي الذي احتوى عالم الأشياء وتنظيمها..وهم بذلك خسروا الكثير من إيجابياته وفرص إنقاد العقل والعقلانية الاختزاليتين من سطوة الشّيئية والاختزالية والتجزيئية..بقي القلب غريبا عن العقل ومحايدا من عالمه الذي احتله العقل الأداتي بميليشيات الغريزة والغواية ذاتها..عجز العقل عن أن يمنع الضحالة من اختراق العالم لأنه لم يعد عقلا سويّا..لأنّه قاطع القلب وانتزع منه ولم يعد له رقيب يذكّره بمنسيّ أبعاده ومهامه..مثل هذا العقل ليس عقلا في نفس الأمر..هو كناية فقط عن نشاط النخاع الشّوكي..هو منتج لعمل شبكة عصبية لها مثيل لها في الأمعاء..إنّنا بتعبير آخر نتعقّل من خلال نظام عصبي معوي..التفكير بالبطون..ستستمر هذه المسيرة الطويلة من الضحالة إلى لحظة فضيحة العقل الكبرى..العقل الذي يعمل في لحظة مروق، ويسعى لتعويض فقره القلبي بمنظومة قيم ذات محتوى أرتميتيقي لا يقف على أصول حقيقية..ومن هنا سائر مفارقات العقل الأداتي وهو يعيش في حالة اضطراب نتيجة بحثه عن آخره..وآخره هو القلب الذي عاش ولا زال في سجن مؤبّد تحت طائلة حكم العقل الهارب من أصوله..
لقد أصبح العقل المختزل عاجزا عن توفير مساحة للحدس والاستشراف..بات ماكنة للحساب والتركيب والتحليل غير مضمونة العواقب..لقد سحب من الكائن كلّ إمكانياته الأخرى لمعانقة أسرار الوجود..لقد باتت الحقيقة مجزّأة..ولا زال العقل المختزل يشعر بالرّضى عن أنصاف الحقائق..كما لازال الكائن يتوهّم أنّه مسك بخيمياء الحقيقة كلّها من خلال عقل في حالة اختزال تعسّفي وجد نفسه في متاهة الإنسداد، لأنّ مفاتيحه تركت في القسم الثاني الذي انتزع منه انتزاعا..حضارة تتجه نحو قتل القلوب ومحق الحدوس واختزال الكائن في لغة الأرتمتيقا ومنتجات الإيكونوميكوس..فالثورة الحقيقية هي ثورة القلب..فهو قلب وانقلاب على الرداءة والاختزال..في القلب وانقلابه نقف على الميلاد الحتمي للعقل الضّائع من هولوغرام قلب انتزع منه العقل لكنه لا زال يحافظ على هولغراميته الواعدة..إنها حكاية انقسام تشبه ظاهرة الانقسام الخلوي..القسم العقلي المنتزع استنزف إمكانياته وهو في حاجة تاريخية ماسّة للتواصل مع ما تبقّى من جذوره في القلب..إنّي أضع رهاني كلّه على ثورة القلب في لحظة انحطاط العقل..
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat