صفحة الكاتب : ادريس هاني

لا يوجد الآخر..يوجد أنا بصيغة أخرى
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
كان من الآباء المسيحيين لعله من الآباء البيض الذين علقوا في حارتنا منذ الاستعمار..من الطبيعي أنّ مسألة التبشير والاستعمار ساهمت في هذا المزاج اللعين الذي يتشكّل داخل بيئة تكفر بالغريب..كان الأب المسيحي وهو يمشي قدّيسا يحيط خصريه بزنّار يذكّرني بعصر آباء الكانيسة اللاّتين..وقد كان كذلك بالفعل..يسمّونه "مون بير" (أبي) لكن بتحريف لهجي مضحك..كان الأب مثالا لما نسمّيه سبع صنائع والرزق ضائع..حلاّل مشاكل من أخطر القضايا إلى أحقرها..وهل ثمّة أخطر من قضية الصّحة؟ فلقد كان يقدم مساعدات طبية وكذلك الدّواء للفقراء..أمّا الطّلاّب فقد كانوا يلوذون به كل مساء للمذاكرة حيث خصص لهم جناحا للمدارسة..وكان كلما استعصى تمرين من التمارين على أبناء المدينة وليس الحي فقط لاذوا بالأب..لقد كان ظاهرة بالفعل..لا يستعصي عليه شيء في الرياضيات ولا الكيمياء ولا الفيزياء ولا البيولوجيا ولا علوم الإنسان..أمّا الطفل المتمرّد فقد فضّل المقاطعة وعدم التطبيع..كان ينظر إليه بعين الريبة..حتى أنّني استغنيت عن كل مساعداته..في يوم ما كان أمامنا تحدّي..الأستاذ كان مولعا بتمارين الأولامبياد..ومنها يختبر عقلنا الرياضي..كان الجميع قد هرع إلى الأب، بينما استعصم الفتى وبقي يمارس التحدي إلى أن وجد الحل لكن على طريقته..كانت طريقته سهلة جدّا وعملية..انتصر الطفل على الأب..الأب الذي كان في مخيال الطفل أحد بقايا الاستعمار..وطبيعي أن يجنح الطفل ويميل كل هذا الميل..فالاستعمار عقدة لازمته حتى أنه في مرّة من المرات مازحه فرنسوا دي مالي حين اشتد عظم الطفل..حين رآه قال: هذا صاحب الاستعمار والمؤامرة والغرب..اكتشف الفتى آباء آخرين في بلد العروبة..كنا ولا زلنا نعتبر العربي أيّا كان هو منّا..كان ثمة قدّاس..يتسلل الفتى بلحيته االخضراء إلى الكنيسة..هناك ليس بعيدا عن باب الحارة..ينصت قليلا..حاول أن يعيش جوّا كنسيا ليعيد اكتشاف كلّ إمكانياته الصامتة والمحتملة..فالآخر هو أنا في أي خبرة أو فرصة أو حدث..الآخر هو ما يمكن أن أكونه دائما..كانت تلك الترانيم بمثابة تعميد نفسي أزاح عن الفتى حاجزا ثقيلا..في باب توما سيكتشف الفتى كنيسة الشّرق والمسيحيين العرب..وفي لبنان سيكتمل المشهد.. المسيحية في أوربا تحصيل حاصل..لكن بالنسبة للفتى الجديد هنا هو كيف تنطق الكنيسة عربيّا..سيكتشف الفتى أنّ المسيحية في المشرق حافظت على العربية والعروبة..مسيحية تتقاسم الوجع الشرقي والعربي مع من يشاركها الوجود..أصبح الموضوع متجاوزا للاعتقاد إلى الوجود الحضاري الغني..للتكامل والاندماج في المصير الواحد والهدف المشترك..كافحت المسيحية في الشرق ضد الغرب المسيحي حين أراد أن يستوطننا..وكافحنا التطرف الإسلامي لما أصبح يعتدي على المسيحية في الشرق..الهوية المركبة التي تنهض على أساس صلب من الثقافة المشتركة والذّائقة الحضارية الواحدة: الكينونة العربية التي قطعت مشوارا أبعد في اتجاه احتواء التنوع لأنّ ما هو عميق في الهويات هو ما يحدّده تاريخ الفن والجمال والغذاء والمخيال والثقافة..
كان المغاربة إبان المقاومة لا يسمون المستعمر باسمه، كانوا يقولون: إننا نقاتل النصارى..استمر هذا الميراث..معجم الفاظ تداولي خطير..ولازال..الأحياز ضّيقة..الآخر الملغي إلاّ بشروط القهر والميز والعزل..جرّب الفتى أن يختلف، فأصابه ما أصاب كل هذا الآخر..فقط اليوم عرف ماذا يعاني الآخر المختلف في بيئة الاستئصال والقهر والتّوحّد والتكفير بمعنييه: الوحشي والناعم..إنّه غياب كامل للتربية على الخلاف واحترام الآخر، الآخر الذي اكتشفه في المهاجر والأسفار..بعيدا عن أولاد حارتنا...

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/08/23



كتابة تعليق لموضوع : لا يوجد الآخر..يوجد أنا بصيغة أخرى
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net