أزمة المعرفة والحاجة إلى التأويل..
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
واعلم أنّ الباطن هو العلم والظاهر مجرد رشحة منه يقتضيها زمن مخصوص وهو مستنفذ ولا يدوم..فالظاهر مشروط والباطن غير مشروط..والظاهر محدود والباطن غير محدود..والظاهر متداني والباطن متعالي..
واعلم أنّ المعاني يحتلّ بعضها بعضا..ينسخ بعضها بعضا..يغني بعضها عن بعض..المعاني تشارطية والمصير إليها بالتأويل وأما الفسر والتفسير فمداره الظاهر واستنفاذه..ومتى استنفذ الظاهر أغراضه لا ينفع معه التفسير فيستدعي معنى جديدا من ذخائر المعنى المستبطن..نعود إلى الأول لاستلهام ما يفيد في المآل فتلك دورة التأويل..كما بدأنا الخلق نعيده..وكما بدأنا المعنى نعيده..ليس تكرارا للوجود بل استزادة وتطويرا..
يخرب العمران البشري حين تنسد طرائق الوصول إلى الحقيقة..أو طرائق تنزيلها في معاش الناس..تختنق النفوس وكأنها تصّعد في الهواء..فمخرج البشر مما هم فيه يحتاج إلى فكرة..والفكرة تحتاج إلى تأمّل..والتّأمل عملية تأويلية بامتياز..
إن ما في يد البشر اليوم أفكار تكرر نفسها..عود أبدي لظاهر استنفذ منذ سنين..ولكن العقم الضارب اليوم لحضارة قتل المعنى أنتج حالة غير مسبوقة من ألوان الإحباط والقلق..التأويل ليس لعبة ألفاظ أو انزياحا لا قرار له بل هو دورة كاملة من المعرفة..هو دواء أمراض المعرفة..هو تحرير المعرفة من كل أشكال الأرتذكسية العقيمة..هو إقلاع آخر نحو آفاق حضارية مختلفة..كل شيء من دون تأويل مصيره العقم حتى الأديان...
لا شيء يصلح هنا للمزايدة..كل ما هو من بنات عقل الإنسان يعاني أزمة حقيقية..الدين واللاّدين كلاهما في عقل ظاهري مآله الانسداد..أصلا لا يوجد دين مقابل لا دين، بل ثمة فقط دين مقابل دين.. لا يوجد دين بإله مقابل دين بلا إله بل يوجد دين بإله وآخر بآلهة غير معلنة..والآلهة في دين يدعى بلا إله هي كثيرة بكثرة المصالح السياسية كما نفهم من جون جاك روسو..إنها حرب بين إله وآلهة غير معلنة في تفكير بشرية مفلسة تدور حول أوهامها وخداعها الذّاتي..لاستنقاذ عقل الإنسان يجب معالجة هذه الأوهام خارج سلطان الابتزاز الأيديولوجي وتحكّمه بالمعنى ومصيره..إنّ الثورة الكبرى على كل أشكال الإفلاس المعرفي هو التأويل..التأويل الذي غايته اصطياد المعنى وليس الانزياح اللّعبي الذي هو شكل من أشكال الهروب من المعنى...
إنّني لا أعلق أزمة الفكر على مذاهب التفكير البشري، بل على أصل النظرة إلى العقل وإلى الحقيقة ..إلى طريقة تدبير عمل العقل بين ظواهر المعاني وبواطنها..فمن استثقل الباطن فقد ظلم نفسه وحاد عن طريق المعرفة..ذلك لأنّ الباطن خزّان احتياطي المعنى الذي به يتحقق التنوير الحق وليس التنوير الخادع..إنّ فعل الانزياح يخدعنا..والمعاني العقيمة التي تتولّد سفاحا منه تغرينا بالتشبع الخادع..بل تمارس سلطتها على المعنى المستنفذ..ويصبح العقل مهيّأ لقبول كل أحكامها الزّائفة ليعود بعد أن تستنفذ آخر إيحاءاتها إلى المعنى الأول..فيحصل التفكيك والقبض على المعنى المستبعد وهكذا هي لعبة الدّوران في حلقة مفرغة..التنوير الحقيقي يمرّ عبر التأويل الصارم..ذلك التأويل الذي لا تقمعه أصول النظر الأورتذكسي ولا تستهويه خفّة المعنى المستنفذ.....
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
ادريس هاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat