صفحة الكاتب : صدى النجف

نقد نظرية التطور – الحلقة 5 – دلالة النظرية تجاه الانسان وتجاه نظرية الصانع الحكيم للكون والحياة : اية الله السيد محمد باقر السيستاني
صدى النجف

الأمر الثالث : في نظريّة التطوّر والتأمّل العقلّي : حول دلالات نظريّة التطوّر في شأن حقيقة الإنسان.
إنّ الانطباع العقلانيّ العامّ عن الإنسان والذي يجري عليه عامّة الناس هو أنّ بين الإنسان وعامّة الحيوانات فروقاً جوهريّة ثلاثة: 
الفرق الأوّل : أنّ الإنسان يتميّز بالعقل والتفكير والتأمّل بوجوه من الاستنباط والاستبطان والمقارنة والتحليل والتعليل؛ ولكنّ الحيوانات لا تتمتّع بذلك، وهذه حالة واضحة ومشهودة.
الفرق الثاني : أنّ القانون الذي تجري عليه الحيوانات هي طباعها وغرائزها، فهي تتصرّف تصرّفاً غريزيّاً بحتاً. وأمّا الإنسان فهو واجد لتلك الغرائز، إلّا أنّ هناك قوّة أخرى أعلى من الغرائز تستبطن القانون الذي ينبغي أن يسير عليه وهي قوّة الضمير الأخلاقي حيث إنّها تتضمّن قيَماً ولياقات خاصّة هي المنبع الأمّ لجميع القوانين البشريّة ، فالحيوان لا يجد حاجزاً من الاعتداء على أيّ شيء آخر ينتفع به وتدعو إليه غريزته ولا يجد حزازةً في قتل حيوان آخر ولا تأنيباً داخليّاً. وأمّا الإنسان فهو يجد من نفسه أنّه لا ينبغي أن يعتدي على الآخرين؛ فإنْ فَعَلَ شَعَرَ بحزازةٍ في داخله وإنْ تَرَك ذلك شعر بالرضا عن نفسه واستتبع السكينة والاطمئنان النفسيّ.
الفرق الثالث : أنّ الإنسان يتّصف بالاختيار؛ بمعنى: إنّه ليس محكوماً بدواعيه الغريزيّة والأخلاقيّة على وجه حاسم وقاهر، كما هو الحال في الحيوانات على المشهور، حيث إنّها محكومة بغرائزها على وجه حاسم؛ ومن ثَمّ يحمَّل الإنسان مسؤوليّة أعماله ويستوجب الجزاء عليها.
فهذا هو الانطباع العامّ عن الإنسان. وعلى هذا الانطباع تجري الأديان كلّها، وهي النظرة السليمة في الموضوع.
ولكن هناك انطباع آخر عن الإنسان جرى عليه بعض من تكلّم في فلسفة الأخلاق وعلم نفس الإنسان يلغي الفرق الثاني والثالث تماماً، ويرى أنّ الإنسان كائن غرائزيّ بحت على حدّ الحيوانات، ويعتقد أنّ المفاهيم الأخلاقيّة صناعة إنسانيّة من خلال الفكر رعايةً للمصالح التي تضمنها لأصحابها في مقابل غرائز الآخرين، ويلقن بها الجيل اللاحق، وليست أموراً فطريّة قد جُهّز بها الإنسان كهدي ينبغي أنْ يسير عليه، كما إنّه يعتقد أنّ الإنسان محكوم بدوافعه حكماً حاسماً ولا يقدر على الانفلات منها، فهو ليس حرّاً ومختاراً في اتّباعها ومخالفتها.
وهناك من اعتقد أنّ نظريّة التطوّر تبرهن على صحّة هذه النظرة إلى الإنسان؛ فإنّه متى كان أصل الإنسان هو الحيوان، لم تجز أن تختلف خصاله اختلافاً جوهريّاً عن الحيوان، فكما أنّ الحيوان مطبوع على الاستجابة لغرائزه فإنّ هذا يكون هو الأصل في الإنسان.
نعم، إنّ الإنسان حيث إنّه أكثر تطوّراً من حيث الإدراك يتمكّن أن يصطنع لنفسه سبيلاً لتخفيف ذلك من خلال التأمّل في روعة الإيثار.
وكأنّ هذا الانطباع يبتني على أساس قاعدة عقليّة تقدّم ذكرها، وهي: أنّ الشيء لا يولد إلّا ما يسانخه ولا يتطوّر إلّا إلى ما يناسبه.. وعليه: فلا يجوز أن يختلف الحيوان بالتطوّر عن جوهره الذي طُبع على الأنانيّة إلى شيء مختلف عنه.
ولكنّ هذا الاستدلال خطأ؛ لأنّ التطوّر يعطي الشيء إمكانات وصفات متفاوتة أرقى، ولا ضير في أن تكون امتيازات الإنسان من جملتها فيما لو قُدّر تطوّره فعلاً عن الحيوان، كما أنّ أحد هذه الامتيازات وهو التعقّل والتفكير هي من هذا القبيل؛ بل عامّة إمكانات الحيوانات عدا صفة الحركة والتكاثر والتغذية كذلك؛ لأنّها لم تكن في الخليّة الأولى التي هي الأصل فيها حسب نظريّة التطوّر.
ويزداد ذلك وضوحاً في حال البناء على وجود جانب روحيّ في الكائنات الحيّة مناسب مع التكوين الجسميّ؛ فإنّ اكتساب أصل الإنسان صلاحيَّة جسميّة يوجب أن يكون الروح الذي يُفاض على الجسد متميّزاً.
وهناك من يقرّر فكرة غرائزيّة الإنسان من منطلق أحيائيّ بتقريب أنّ التأمّل في أحوال الخلايا والجينات يرشد الباحث إلى أنّ جميع نشاطاتها أنانيّة، فهي مبرمَجة لحماية ذاتها وتأمين حياتها وتوليد مثلها ليبقى نوعها.
وعليه: فمن الطبيعيّ أن تتّجه سلوكيّات الإنسان المتطوّر عن الخلايا والجينات اتّجاهاً أنانيّاً، فهي تدور حول نفعه ولذّته وتكاثره، ولو كان بالإضرار بالآخرين، فهذا طبيعة الإنسان في حدّ نفسه.
نعم، يستطيع الإنسان أن يتعلّم الكرم والإيثار.
وهذه الفكرة خاطئة بوضوح، وذلك:
أولا : أنّ من الواضح على الإجمال اتّصاف الإنسان بالضمير الأخلاقيّ وهي قوّة داخليّة مزروعة في باطن الإنسان تمدّه بالقيم والمبادئ النبيلة، وترشده إلى الهدي اللائق به، كقانون ينبغي أن يسير عليه ويتحكّم في نوازعه وملاذّه ومنافعه.
وعليه: فإنّ عدم الاعتداء على الآخرين وإعانتهم هو جزء ممّا جُهّز به الإنسان، وليس أمراً يتعلّمه من الخارج؛ وإنّما تكون العوامل الخارجيّة محفّزة له.
ثانيا : أنّ من غير الصحيح توصيف الجينة بالأنانيّة؛ لأنّ الأنانيّة صفة نفسيّة، والجينة حتّى لو كانت جينة حيوانيّة أو إنسانيّة فإنّها قبل تناميها ليست ذات نفس واعية بالوعي الذي يجعلها مؤهَّلة للاتّصاف بصفة نفسيّة. 
وعليه: فإذا وُصفت الجينة بالأنانيّة فينبغي أن يكون تعبيراً مَجازيّاً عن أنّها مطبوعة على نشاطات نافعة لحفظها وتكاثرها، وليس في ذلك ما يقتضي أنّها تنطوي على التصرّف الأنانيّ في حال نموّها ووعيها وإدراكها؛ بل إذا كانت تلك الجينة جينة إنسانيّة فهي تنطوي على استعدادات أوّليّة للتحلّي بالأخلاق والضمير، وهذا أمر واضح.
دلالات نظريّة التطوّر في شأن الصانع :
الأمر الرابع : في شأن نظريّة التطوّر والتأمّل العقلّ: حول دلالات هذه النظريّة تجاه نظريّة الصانع الحكيم للكون والحياة، وهنا سؤالان حول ذلك:
أحدهما : أنّ هذه النظريّة على تقدير ثبوتها هل تنفي الحاجة إلى تدخّل الخالق في التنوّع الأحيائيّ.
وثانيهما : أنّها على تقدير نفيها لذلك، فهل هي تنفي أصل الحاجة إلى الخالق للكون والحياة بشكل مطلق أو لا.
الأقوال في ذلك :
هناك انطباعات متفاوتة في الموضوع.
الأوّل : أنّ هذه النظريّة حياديّة تجاه نظريّة الصانع الحكيم؛ بمعنى: أنّها إنّما تنفي التدخّل المباشر للإله في صنع التنوّع الأحيائيّ، ولا دور آخر لها في شأن إثبات الخالق أو نفيه، وهو موقف فريق من العلماء التطوريّين.
الثاني : أنّها تنفي الحاجة إلى الصانع الحكيم سواء في التنوّع الأحيائيّ أو أيّ شأن آخر من شؤون الكون والحياة، ويسمّى هذا الانطباع بالتطوّر الإلحاديّ، أو بالإلحاد التطوّريّ، وقد ذهب إليه عدد من أهل العلم وبالغوا فيه.
الثالث : أنّها لا تغني عن تدخّل الصانع الحكيم في أمر حدوث التنوّع الأحيائيّ؛ بل هي تمثّل سنّة من السنن التي جعلها، ويسمّى هذا الموقف بالتطوّر التوحيديّ، وهو موقف جمع من العلماء التطوّريّين.

يقول عالم الأحياء المعروف (فرنسيس كولنز) (1) : (إنّ التطوّر التوحيديّ هو الموقف السائد بين علماء الأحياء الذين هم في نفس الوقت مؤمنون بالله. بما في ذلك آسا غري Asa Gray ، وهو أكبر مدافع عن داروين في الولايات المتّحدة، وثيودوسيوس دوبجانسكي Dobzhansky Theodosius ، وهو أبرز المهندسين المعماريّين في القرن العشرين في مجَال التفكير التطوُّريّ.
إنّها وجهة النظر التي يعتنقها الكثير من الهندوس والمسلمين واليهود، والمسيحيّين، بما فيهم البابا يوحنّا بولس الثاني) . (2) وهذا الانطباع هو الموقف الصحيح في الموضوع.
الانطباع القائل بحياديّة نظريّة التطوّر تجاه الخالق :
أمّا الانطباع الأوّل : فحجّته أنّ هذه النظريّة إنّما تبيّن السنن الطبيعيّة لنشأة الكائنات الحيّة، وبذلك تنفي نظريّة الخلق المباشر لها، ولا دلالة خاصّة لها على إثبات الصانع كما في سائر الحوادث الواقعة في عالم الطبيعة من جهة العوامل الطبيعيّة، كما لا دلالة لها على نفي وجود الصانع فيما إذا قام على إثباته دليل آخر، مثل: حاجة الكون ونظامه وقوانينه وكذلك نشأة الحياة إلى صانع موجد لها.
وعلى هذا الموقف ملاحظات تظهر من خلال وجه الانطباع الثالث.
الانطباع القائل بنفي نظريّة التطوّر للصانع الحكيم :
وأمّا الانطباع الثاني : القائل بأنّ نظريّة التطوّر تنفي الصانع الحكيم. فالوجه فيه بيان مؤلّف من مقدّمتين:
المقدّمة الأولى : أنّ التطوّر إنّما يحصل بالطفرة الجينيّة، وهذه الطفرة هي حالة عشوائيّة؛ لأنّها ضرب من الخطأ المحض في عمل الخليّة، وليست جزءاً من الآليّات والسنن الغائيّة في تكاملها.
والوجه في ذلك: ما تقدّم بيانه من أنّ سنن التكاثر في الكائن الحيّ بطبيعتها تقتضي الحفاظ عليها بخصائصها؛ ومن ثَمّ تؤدّي إلى خلق حالة مماثلة لها.
المقدّمة الثانية : أنّ نشأة التنوّع الأحيائيّ وفق نظريّة التطوّر عن سبب عشوائيّ يعني أنّ التعقيد والانتظام والروعة يمكن أن ينتج عن الصدفة المحضة من دون تخطيط وتدبير وعقل وحكمة ويترتّب على ذلك عدم إمكان الاستدلال على وجود الخالق بوجوه الانتظام والتعقيد المشهودة في الكون والحياة؛ لأنّ الطفرة بضميمة الانتخاب الطبيعيّ عامل مادّيّ أعمى ينتج نتاجاً باهراً، وبذلك يكون هذا التنوّع حجّةً للإلحاد.
ولكنّ هذا الاستدلال خاطئ، لوجهين:
الوجه الأوّل : أنّ كون الانتظام المعقّد نتاجاً للعقل أمر عقلّي بديهيّ يدركه عامّة العقلاء، وعليه تبتني كثير من معلوماتنا واستنتاجاتنا سواء في الحياة الأسريّة الخاصّة أو الحياة الاجتماعيّة العامّة أو في كشف الحضارات والثقافات التاريخيّة من الآثار الباقية.
وعلى ضوء ذلك: فإنّ كلّ نظم وتعقيد في الكون والحياة دليل لا محالة على زرع مبادئ الانتظام فيهما من صانع عاقل وحكيم.
وعليه: فإذا قدّرنا أنّ كلّ هذا التنوّع الأحيائيّ في الحيوانات والنباتات نتاج الطفرة الجينيّة فإنّ ذلك يعني على الإجمال أنّ الطفرة هي سنّة من سنن تطوير الطبيعة منطوية تحت برمَجتها.
إن قيل : ولكن كيف يمكن توجيه مع ما ثبت من أنّ تكوين الخليّة يقتضي توليدها لما يماثلها تماماً.
قيل : إنّ هذا الاقتضاء صحيح بمستوى محدود؛ ولكن ليس في ذلك ما ينفي أن تكون الطفرة متمّمة لنظام عمل الخليّة؛ بمعنى: أنّ نظامها معبَّأ بهامش من حرّيّة الطفور لإيجاد بعض التنوّع والاختلاف في الكائن الحيّ، مثل: اختلاف الألوان والحجم وغير ذلك ممّا يساعد على تنوّعه ويعطي فرصة أكبر لبقائه.
وليست الطفرة غير الضارّة الناشئة من العوامل الطبيعيّة على حدّ الطفرة الضارّة في كونها حالة غير منظورة ولا غائيّة ضمن تكوين الكائن الحيّ.
ولعلّ علم الأحياء الجينيّ وما يتفرّع عنه من علم الطفرات الجينيّة يصل في المستقبل إلى عمق العوامل المؤدّية إلى الطفرة وتصنيفها ويكشف حقيقة تمتّع الكائن الحيّ بمساحة من الحريّة لغاية صلاحها وتنوّعها.
إذن، كون الطفرة عشوائيّة لا تعني أنّها تحدث على سبيل الصدفة ومن غير سبب؛ لأنّ من الممتنع أن يحدث أيّ شيء من غير سبب مطلقاً، مضافاً إلى أنّ من الواضح من المنطلق العلميّ والتجربة أنّ للطفرة عوامل وأسباباً تؤدّي إليها، وإن كان علم أسباب الطفرة لم يزل بحاجة إلى تطوير واستكمال إلى حدٍّ بعيد.
كما أنّ عشوائيّة الطفرة لا تعني بالضرورة أنّها ليست جزءاً من الغائيّة الملحوظة في نظام الكائن الحيّ؛ بل هي عند التأمُّل الجامع في نتائجها سُنَّة من السنن الطبيعيّة المعبَّأة لأجل تطوير الكائنات الحيّة وجزء من النظام الغائيّ فيها، وإذا كان النظام الغائيّ في الحياة يدلّ على فاعلٍ قادرٍ ومدبِّرٍ وعليمٍ فإنّ في سنّة التطوّر في هذا النظام ونتائجها من التنوّع الأحيائيّ ما يؤكّد هذا المعنى، ويزيد الإنسان شعوراً بروعة هذا النظام ودقّته في كلّ جانبٍ من جوانبه.
ولما ذكرنا ذهب جمع من علماء الأحياء التطوّريّين إلى أنّ التطوّر هو الآليّة التي جعلها الله تعالى لخلق التنوّع الأحيائيّ، كما نقلنا ذلك من قبل.
وبذلك يظهر: أنّه لا يصحّ ما ذكره بعض القائلين بالإلحاد التطوّريّ من (أنّ التطوّر يأخذ بالحسبان التعقيد الشديد للتطوّر البيولوجيّ وأصول الجنس البشريّ، لذلك لم تعد حاجة لله) .
وقد علّق أحد علماء الأحياء التطوّريّين على هذا الكلام بعد نقله (3) قائلاً: (في حين أنّ هذه الحجّة تنفي بحقّ مسؤوليّة الله عن القيام بأفعال متعدّدة للخلق الخاصّ على الأرض، إلّا أنّها بالتأكيد لا تدحض فكرة أنّ الله قام بتنفيذ خطّته في الخلق عن طريق أساليب التطوّر).
الوجه الثاني : أنّ من الخطأ نفي وجود الإله على أساس تفنيد حجّة التصميم الذكيّ للتنوّع الأحيائيّ على وجوده؛ لأنّ الحجّة على وجود الإله لا ينحصر بهذه الحجّة.
فهناك حجّة نشأة الكون التي وُضّحت أكثر في العصر الأخير بترجيح وجود بداية للكون ونشأته من خلال الانفجار الكبير.
ثمّ حجّة قوانين الكون التي تؤلّف علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء؛ فإنّ هذه الحجّة قائمة ولا تنفيها الطفرة وإن كانت عشوائيّة؛ لأنّها إنّما تعمل على أساس قوانين وسنن تجري عليها.
ثمّ حجّة الحياة، حيث لم يكتشف العلم أيّ سبب يمكن أن يؤدّي إلى وجود تكوّن الخليّة الحيّة بشكل تلقائيّ.
فإن قيل: إنّ المانع عن افتراض نشأة الخليّة الحيّة بشكل تلقائيّ هو تعقيد تركيبها، فإذا بنينا على أنّ التعقيد يمكن أن ينشأ عن العوامل التلقائيّة كما في وجود التنوّع الأحيائيّ فليكن تعقيد الخليّة الحيّة أيضاً ناشئاً منها. 
قيل: إنّ نشأة التعقيد في التنوّع الأحيائيّ عن الطفرة الجينيّة مبنيّة على تحقّق شرطين:
الأوّل : وجود عوامل طبيعيّة تؤدّي للطفرة الجينيّة، فلو لم توجد لدينا عوامل طبيعيّة تؤدّي إلى ذلك لم يمكن البناء على تحقّق الطفرة كما هو واضح.
الثاني : فاعليّة تلك العوامل بشكل تدريجيّ وبطيء للغاية عبر مليارات السنين، فلو لم تكن لدينا هذه المدّة الطويلة لم يمكن الإذعان بنشأة التعقيد فجأةً في الحياة. ومن المعلوم أنّ هذين الشرطين لم يحصلا في شأن نشأة الحياة.
أمّا الشرط الأوّل: فلأنّ الدراسات حول عوامل نشأة الحياة لم تصل إلى أيّة آليّة طبيعيّة قريبة لتوليدها.
وأمّا الشرط الثاني: فلأنّ الخليّة الحيّة هي معقّدة جدّاً في نشأتها وليس في تطوّرها واختلاف أحوالها، فوجودها يحتاج إلى عمل يولّد التعقيد دفعةً واحدة وليس على نحو التدرّج البطيء.
إنّ بعض المتحدّثين باسم نظريّة التطوّر يسعى بإصرار غريب على أن يجعل من التطوّر الأحيائيّ حجّةً مفنّدة لوجود الإله، ويتجاوز مقتضيات المنهج العقلانيّ في العرض والاستدلال، فيعرض نظريّة وجود الإله أو صدق الدين عرضاً ضعيفاً غير عقلانيّ، ثمّ يتعرّض لانتقاده بأساليب أقرب إلى المنهج الخطابّ والأدبّ ، حتّى قد يُخيَّل إلى الناظر وجود دافع شخصيّ في اختيار هذا الأسلوب، وقد أدّى ذلك إلى انتقاد لاذع من قبل بعض علماء الأحياء التطوّريّين أنفسهم، ولا يحسن الخوض في سجالات من هذا القبيل.
والمناسب مع الأسلوب العلميّ عرض وجهة نظر الآخر على وجه منصف، ثمّ تقييمه وإبداء الملاحظة عليه بتمعّن وأناة.
والمهمّ مماّ تقدّم: أنّه لا يصحّ جعل نظريّة التطوّر دليلاً على عدم وجود الإله.
الانطباع القائل إنّ التطوّر لا ينفي الحاجة إلى الصانع في التنوّع الأحيائيّ :
والانطباع الثالث : في شأن دلالات نظريّة التطوّر تجاه وجود الخالق أنّ هذه النظريّة لا تنفي الحاجة إلى دور الإله في صنع التنوّع الأحيائيّ؛ بل تبقى الحاجة إلى دوره في صناعة هذا التنوّع، وذلك من وجهين:
الوجه الأوّل : ما ذكرناه من أنّ الطفرة وإن كانت تُعتبر بالنظرة الأوّليّة إلى طبيعة النشاط الجينيّ حالة طارئة لأنّ نظامه قائم على خلق نموذج مماثل، إلّا أنّها بمنظور أوسع وأشمل تُعتبر وفق نظريّة التطوّر سنّة عظيمة من السنن الطبيعيّة المساهمة في شأن الكائنات الحيّة لعظيم دورها في إيجاد هذا التنوّع الهائل وفق النظريّة من خليّة أوّليّة بدائيّة، ولا ضير في حدوثها في أثر خرق الضبط الجينيّ لخلق النموذج المماثل ما دام أنّ لحدوثها أسباب كامنة في الطبيعة نفسها والأمور البنّاءة المحيطة بها.
ضرورة تدخّل الصانع في إيجاد البُعد الروحيّ من الكائنات الحيّة الواعية ولو قيل بنشأتها عن التطوّر التدريجيّ 
الوجه الثاني : أنّه لا غنى عن تدخّل الصانع في إيجاد الكائنات الحيّة الواعية وهي الحيوانات عامّة والإنسان بشكلٍ خاصّ من جهة استبعاد توليد التطوّر الكيميائيّ والفيزيائيّ لوحده لأمور غير مادّيّة من قبيل المشاعر والإدراكات والقوانين الأخلاقيّة والاختيار.
وهذا الوجه يعتمد على مقدّمات ثلاث:
المقدّمة الأولى : فكرة عقليّة سبق ذكرها، وهي أنّ الشيء إنّما يمكن أن يتطوّر إلى شيء يناسبه ويسانخه وليس إلى أيّ شيء آخر، فلا يصحّ افتراض تطوّر كلّ شيء إلى أيّ شيء آخر، ولا كون كلّ شيء سبباً لأيّ شيء آخر.
المقدّمة الثانية : أنّه تفريعاً على تلك الفكرة العقليّة ليس من الصحيح افتراض تطوّر المادّة وحدها بالتغيير الكيميائيّ والفيزيائيّ إلى شيء ليس من سنخ المادّة أصلاً، أو قيامها بنشاط غير مادّيّ، أو بنشاط ذي بُعد غير مادّيّ، فكلّ ذلك أمر يمتنع أن يكون نتاجاً لتغيّرات وفعّاليّات مادّيّة بحتة.
المقدّمة الثالثة : أنّنا نجد في قسم من الكائنات الحيّة وهي الحيوانات عامّة والإنسان خاصّة ظواهر غير مادّ يّة متعدّدة كالمشاعر والإدراكات.. على ما تقدّم بيانه من قبل تفصيلاً.
ونتيجة هذه المقدّمات الثلاث أنّه لا يصحّ البناء على أنّ تلك الكائنات برمّتها نتاج التطوّر المادّيّ المحض؛ بل لابدّ من إشراف قوّة غير مادّيّة على هذا التطوّر لخلق البُعد الروحيّ متزامناً مع التطوّر المادّيّ.
وبذلك نصل إلى أنّ نظريّة التطوّر في نفسها هي نظريّة توحيديّة، فهي على حدّ سائر السنن الكونيّة مظهر من مظاهر الصانع الحكيم .
________
الهوامش :
________
1- لغة الإله: 217 - 218 .
2- وقال أيضاً إنّ : (عالم النبات الأمريكيّ العظيم آسا غراي Asa Gray والذي كان مؤيّداً لنظريّة الانتخاب الطبيعيّ كتب كتاباً بعنوان "الداروينيّة"، وهو كان مسيحيّاً متديّناً. عندما نقفز 50 سنة إلى الأمام، سوف نجد أنّ تشارلز دي والكوت Charles Walcott مكتشف أحافير "بورغس شال"، كان يؤمن بالداروينيّة، ومع ذلك كان مسيحيّاً ملتزماً في الوقت ذاته، وهذان الرجلان كانا يعتقدان بأنّ الله اختار الانتخاب الطبيعيّ ليشيّد تاريخ الحياة وفقاً لخططه ورغباته. وإذا استمرّينا في المسير 50 سنة أخرى سوف نجد اثنين من أكبر أنصار نظريّة التطوّر في عصرنا وهما سيمبسون Simpson ، والذي كان لاأدريّاً إنسانيّ اً، كما سنجد ثيودور دوبزنكسي Theodosius Dobzhansky الروسيّ الأرثوذوكسي الإيمان. إمّا أنْ يكون نصف زملائي أغبياء بدرجة كبيرة، وإمّا أنْ تكون نظريّة داروين متوافقة تماماً مع المعتقدات الدينيّة التقليديّة، ومتوافقة كذلك مع الإلحاد.
ولذا، فإنّ أولئك الذين اختاروا أنْ يكونوا ملحدين، يجب أن يجدوا أساساً آخر لاتّخاذ هذا الموقف. التطوّر لن يكون هو الأساس) .
3- نقله عن دوكينز، لاحظ: لغة الإله: 180 .
المصدر : مدونة صدى النجف
تنويه : هذه السلسلة من تقريرات دروس اية الله السيد محمد باقر السيستاني التي القاها في السنة الماضية 1437 هـ بعنوان منهج التثبت في شأن الدين اضفنا لها الصور والمعلومات المتعلقة بها
الحلقة السابقة تناولت : نقد نظرية التطور – الحلقة 4 – دلالة النظرية في شأن الكائنات الحية من حيث توفر الكائنات على بعد معنوي : آية الله السيد محمد باقر السيستاني لمطالعتا أضغط هنا 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صدى النجف
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/07/08



كتابة تعليق لموضوع : نقد نظرية التطور – الحلقة 5 – دلالة النظرية تجاه الانسان وتجاه نظرية الصانع الحكيم للكون والحياة : اية الله السيد محمد باقر السيستاني
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net