صفحة الكاتب : ادريس هاني

شعرية المقاومة وانحطاط فنّ الكذب..على هامش معركة جرود عرسال
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

معارك جرود عرسال جزء أساسي من عملية استكمال تطهير لبنان من الإرهاب، قد يكون الجهل باستراتيجيا الأرض سببا في التباس الأمور على من يمارس السياسة في حدّها الأدنى، أي السياسة بوصفها خداع ذاتي يكفر بنومينا الإرهاب. في لبنان كما في سائر البلاد العربية نواجه نمطين من الآراء تختلف في المشارب والغايات لكنها تشترك في التموضع الجيوستراتيجي للجيل الرابع المتقدم من الحروب بحسب التصنيف الذي وضعه خبراء أمريكيون أنفسهم. النمط الأوّل وهو تحصيل حاصل، جمهور عريض وقع كما وقع دائما في التاريخ ضحية خداع ميديولوجي يتمحور حول الصورة، هذا هو الجزء الأكبر من حداثة الجمهور: الصورة، وهي في الحقيقة تنتهك التعريف الأثير لماكس ويبر للحداثة باعتبارها نزع الساحرية عن العالم. لقد عادة الساحرية أو الابتهاج للعالم عبر الصورة بما يعني أنّ الميديولوجيا باتت علما إمبرياليا يستعمل آخر منتجات العقل الأداتي بينما يستند إلى قابليات ما قبل_حداثية تسكن اللاّوعي الجمعي للجمهور. مضمون هذا النمط هجين مقدور عليه من خلال سلطان المنطق الذي لا يأبه به في العادة، لأنه لا يلتقي معك في مشترك الأقضية المنطقية:كبرى وصغرى وواسطة في الإثبات، بل هو يعيش على انحراف في الأحاسيس حيث تلعب الصورة دورا كبيرا. هذا النمط في الحقيقة لا يدخل في نطاق الكذب لأنّه في موضع الضحية سواء أكان قاتلا أو مقتولا..إنه ضحية لما يمكن أن نستعيره من جاك ديريدا، لنوع من البسودوغرافيا التي بلغت أوجها مع الثورة التواصلية حيث بلغ الكذب منتهاه. هنا التواصل يعانق اللاّتواصل..هنا التواصل يعني التحكم عن بعد..من دون مماسة..في الحروب اللاّتمثالية..الإرهاب وظيفة..تفتيت الكيانات وفق رؤية جيوبوليتيكية تقوم على التوزيع الإمبريالي للثروات والاحتياطات وتكريس البلاهة السياسية وحالة الارتعاب والحاجة المستمرة للتدخل.
في الحقيقة حينما يثار موضوع الكذب في الميديا تنبري اتجاهات بعضها يحاول أن يضفي على رأيه صفة المدرسانية بينما هو فكر ينتشر بفعل لوبي إمبريالية الإعلام. البعض يحاول أن يقيس خداع الميديا بالشعر حيث لا يوجد كذب في الشعر، بل يحاولون تسخير مفارقة كذّاب كريت لتعزيز هذه الخدعة الوظيفية للإعلام باعتبار أن أصدق الشعر هو أكذبه. هنا يكمن ذلك الخلاف الفرعي في أصل الكذب وأصوله بين جاك ديريدا وحنا أرندت: في نظر دريدا هناك انحطاط في مهارات الكذب وتراجع في هذا الفن بينما في نظر حنا أرندت قد بلغ الكذب أوجه: الكذب المطلق. وحتى الآن وخلال هذا الجيل من الحرب على المنطقة بلغ الكذب مرحلة المطلق من حيث أدواته لكن مضمونه يعاني بالفعل من تراجع. هذا التراجع لم يأت من فراغ، هنا أحبّ أن أضيف بأنّ انحطاط الكذب في هذه الحقبة من تاريخ الكذب نابع من المقاومة..ومن هنا فإنّ إحدى أهمّ وأبرز المكتسبات التاريخية للمقاومة هي الحفاظ على قدر من الحقيقة داخل تاريخانية الكذب. هذا النمط من الناس الذي تحدثنا عنه يصعب عليه الفهم التركيبي للأمور، هو ضحية لعبة تفكيك القضايا ليقف أمام بسائط تعبّر عن نفسها من خلال الخداع الصوري: الهوية بسيطة، الحروب بسيطة، الديمقراطية بسيطة..كل شيء ينظر إليه في بساطة المعنى الإيتيمولوجي والصوّاتي وكذلك في معزل عن العوامل الآخرى..ومن هنا يصعب على هذا النمط أن يدرك بأنّ الحرب على الإرهاب هي عنوان ميداني لمعركة تاريخية بين الإمبريالية والمقاومة..ذلك لأنّ الإمبريالية أدركت أنّ محاولة تحقيق المرحلة الإمبريالية النهائية من خلال القوة المطلقة فشل، لأنّ هذه الحروب الكلاسيكية تراجعت بفعل وجود المقاومة. النمط الغالب على جمهور ضحايا الميديولوجيا هو التجزيئ، هو التساؤل حول دور المقاومة في سوريا أو دورها في عرسال، بينما المقاومة هي معادلة أثبتت بأنها عامل توازن وإبداع متواصل وخارج أنماط العسكرتارية التقليدية ومفاهيمها المدرسانية..أما النمط الثاني فيتعلّق الأمر بالأعوان أو المحميين الذين يشكلون الطابور الخامس للإمبريالية..هم حلفاء غير معنيين بكل المفاهيم التي تسند المقاومة، وهم على دراية بما يجري ولكنّ مصالحهم فوق وطنية..هؤلاء دورهم تشويشي، يهدف إلى عرقلة مهام المقاومة الوطنية، وهم لهذا السبب يكذبون بوعي كامل.
لم تكذب المقاومة على شعبها بل عاشت في أحضانه. وهي لم تخرج عن حدود استراتيجيا الأرض بل حمت نفسها وحمت كيانها الوطني من العدوان. تدرك داعش ومثيلاتها أنّ الدخول على لبنان ليس نزهة، ولكن ثمة بيئة استراتيجية إقليمية ودولية تسعى لتفجير الوضع في لبنان لاستيعاب وضع ما بعد سوريا، أي الهدف هو زرع شوكة في خاصرة سوريا من داخل لبنان، والتشويش على مهام المقاومة وكل هذه المعارك تهدف إلى تحريف صورة الصراع وقطع الطريق أمام العود المحمود إلى القضية الفلسطينية باعتبارها القضية الأولى في معادلة الصراع. ما الفرق إذن إن كانت المقاومة تقاوم الإرهاب داخل وطنها لأنها هي التي تملك اليوم الإمكانية لذلك وبين أن تحاربه في غير أرضها؟ كيف تنخرط المقاومة في مقارعة الإرهاب خارج بلدها بينما تسعى السياسة لمنعها من مقارعة الإرهاب في بلداتها؟ لا مجال لكي نقف كثيرا عند التساؤل عن هذه المفارقات للنمط الثاني الذي يدخل في دائرة الكذب العاري على الوطن وعلى الشعب وعلى الحقيقة. هذا النمد من المحميّين جربناه في بلداننا أيّام الاستعمار..أيام جيش التحرير والمقاومة..المحميون الذين كان لهم دور كبير في التشويش على الحركة الوطنية وجيش التحرير..هم يوجدون في كلّ مكان..وهم مفلسون من وجهة نظر تاريخية..المقاومة اليوم في لبنان لا تحمي الأرض فقط بل تحمي كل المؤسسات السيادية للكيان والدولة ، أي تحمي الحدود وتحمي الجيش الوطني باعتباره مكسبا للبنان بعد أن تعرّض للاعتداء من قبل الإرهابيين وبعد ان تمّ حصاره ومنعه من التسلح للقيام بمهامه الوطنية..الجيش الذي قام وفي ظروف لعلها الأصعب بالنسبة إلى جيش يشكل قوام مشروع الدولة اللبنانية بمواجهة الإرهاب والمخطط الإمبريالي لتحويل لبنان إلى ساحة صراع دولي وإقليمي مفتوح..تكامل الجيش والمقاومة في لبنان أخرجته من خدعة قوة لبنان في ضعفه.
رصيد المقاومة من الدعم والإسناد الشعبي يبلغ مداه..ولا توجد أي استراتيجيا للكذب المطلق أن تخفي هذه الحقيقة..واليوم تنتصر المقاومة على الإرهاب وتضع المشرف الدولتي على الإرهاب أمام حرج تاريخي يسعى اليوم للهروب من استحقاقه بافتعال أزمات غريبة الأطوار وتحريك الاحتياطي السيادي من العملة للهروب من العدالة التاريخية..انتصرت المقاومة على الإرهاب وكسرت شوكته بينما وجدت الإمبريالية وعملاؤها أنفسهم أمام صدمة الواقع الجديد..هذا ما يسمّى بقانون الردع..تدرك المافيا السياسية التي تمثّل المصلحة الإمبريالية والرجعية في لبنان بأنّ وجباتها الصوتية لا يمكنها إيقاف هدير المقاومة وهي تعيش أوج انتصاراتها..ولكن حتى استقرار الصورة فهي مطالبة بممارسة فعل الكلام..على أنّ المقاومة هي التي ساهمت في حماية الكيان اللبناني من الفوضى بل يعود لها الفضل للحفاظ على حدّ من الاستقرار يسمح حتى للمافيا قليلة الوفاء بمزاولة مهامها في الفساد السياسي والمالي..وكان بالإمكان أن تتحوّل المافيا إلى محميات في خلافة البغدادي الذي كان يبحث عن ممر بحري لممارسة القرصنة وبالتالي يسعى لتحويل شرق المتوسط لجيل آخر من التدعيش البحري..المقاومة لا تشاركهم المفيوزية، ولا لعبة الورق ولا السهر عرقا وعرقا..بل هي نمط في لاهوت التحرير يقوم على مبدأ الشهادة الذي يلخّصه الوفاء الدّائم للمبدأ حدّ التضحية..هذه النقطة المشرقة في ظلام من الهزائم هي التي تنحدر من تاريخ عمودي قوامه التّرقّي والتماهي الكوني إلى تاريخ أفقي قوامه كارتيزية النصر والهزيمة بحساب الميز التعسفي بين المادي والروحي وبحساب قوّوي نيوتوني لا يمنح قوّة لهولوغرامية المقاومة، تلك التي تحتوي الكلّ مهما بدت في حساب الكارتيزية والنيوتونية وحتى استراتيجيا الأرض محدودة في الزمان والمكان، لأنّ الأمر هنا قد يتعلق بالزمن الخاص للمقاومة هنا وكذلك المكان الخاص. الزمان هنا ليس بمفهومه الكلاسيكي المتواجد هناك خارج العقل ولا هو بالمفهوم الكانطي باعتباره مقولة قبلية بل هو مفهوم يقع ها هناك، ما بعد الزمان الواقعي والزمان النفسي. أما المكان الملهم للقوة فهو ينتمي إلى حقل الجمال وشعرية المكان ولا يمكن مقاربته بحساب المسافات..لسنا هنا أمام هندسة إقليدية للمكان بل أمام هندسة أخرى: روحانية المكان الذي حوّلته دماء الشهداء إلى برزخ جيو_روحي يتواصل فيه التاريخان: الأفقي والعمودي على أرضية العرفان المقاوم.. إنها حكاية أخرى..ما تبقّى من عصر الأساطير يصنعه مستضعفوا المنطقة وشباب شعبها الوفي لميراث الأجداد..ما تبقّى من قوة الردع في زمن شطط الإمبريالية..أيقونة انتصاراتنا في زمن هدر الكرامة والتباس معالم الطريق وانحراف البوصلة..المقاومون هم أشرف من في هذه الأرض بعجرها وبجرها..هم المعنى المتبقى في سجل حافل بالنكسات..هم من يجيب عن مأمولاتنا في مستقبل هو إمّا أن نكون فيه أو لا نكون..من يزهد في المقاومة فهو في الحقيقة يزهد في مبتدأ التاريخ وخبره..يزهد في قوامه كإنسان له شرف الوجود على أرضه التي استطاع عبر قرون أن يخرجها من حالة الطبيعة البرّية إلى حقل دلالي متحرّك بالمعنى..حرب ثقافات تحدد مصير العدالة الكونية..بفضل المقاومة بدأنا نقترب من نهاية تاريخ الكذب الجيوبوليتيكي: العودة إلى فلسطين التي غابت في عتمة ربيع منحطّ ومهلوس فرض على الشعوب أن تصوت على دساتير تستبعد فلسطين من بنودها..ربيع نلخّصه بأنّه: ربيع تصفية القضية الفلسطينية من وجدان الشعوب تحت ذريعة التغيير الذي رأينا له نماذج مبهرة في بلدان الربيع العربي..الشيء الذي لم تلتفت إليه وسائل الإعلام التي تقع تحت الهيمنة المالية والإدارية للرجعية وحلفاء الإمبريالية هو أنّ ربيع المقاومة الذي أزهر وصنع انتصارات هو الربيع العربي الحقيقي لأنّه أحبط مشروع الإهانة والهيمنة.. الذين قرؤوا المشهد إقليديّا لم ينتبهوا إلى حقيقة الواقع المقعّر..قالوا: هي مغامرة..وقالوا: هي خروج عن القانون..وقالوا وقالوا، لكنهم لم يقولوا أي شيء يوزن في معيار العدالة الإنسانية باعتبارها سابقة عن كل أشكال القانون الأخرى..
إنّ البعد المتعلق بشعرية المقاومة هو وحده الذي يجعلنا ندرك بأنّ المقاومة مثل الشعر هي نداء الروح المطلق الهيغلي وهي الكلام الذي يقول ولا يقول كل شيء بحسب تعبير اوشو، أي نحن أمام مقاومة لا يمكن التفكير فيها حين التفكير فيها بفصّ واحد من الدماغ بل وجب التفكير فيها بالفصّين معا، لأنّها تحتوي الدّماغ كلّه وتتعالى على النظرة التجزيئية للعالم وتعبّر عن الروح المطلق ونظام الأشياء..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/07/24



كتابة تعليق لموضوع : شعرية المقاومة وانحطاط فنّ الكذب..على هامش معركة جرود عرسال
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net