في اللّقاء الهام الذي جمع سلف ضيف حضارة الرافدين الكبير البابا فرنسيس، البابا بندكت السادس عشر، مع الفيلسوف النقدي، وعالم الاجتماع الالماني، (يورغن هبرماس) في الاكاديمية الكاثوليكية في ميونخ عام ٢٠٠٤ كان واضحاً ان سؤال (هبرماس )عن ديالكتيك الدين والعقل في عالم ما بعد الحداثة، وما بعد العلمانية، سيكون مفتاح النقاش حول حاجة مجتمعات الدولة  الديمقراطية الدستورية، -او تلك التي دافع عنها هبرماس نفسه تحت عنوان ( الشكل الخاص للجمهورية الكانطية) كتبرير غير ديني للاسس المعيارية لقيام الدولة -  الى الدين . 

أعترف الفيلسوف الالماني للبابا، بظهور ( صدى نظرية تؤكد بأن الدين وحده هو الذي يمكنه ان يساعد الحداثة المتكسّرة بتاسيسها على اساسٍ متعالٍ  من أجل اخراجها من المأزق الذي وقعت فيه ) (١) . 

ثمة من ينتظره العالم ليجمع شضايا الحداثة المتكسرة إذن ! 

والحقيقة ان ما ذهب اليه (فرنسيس فوكوياما)ايضاً،  من ان العراق يعيش مرحلة تشبه مرحلة خروج اوربا من العصر الزراعي الى العصر الصناعي، يجعل الحوار الروحي والديني الرمزي بين التجربتين، يوصف بأنه حوار موضوعه واحد، وزمانه مختلف . 

ياتي سيد الفاتيكان وهو يحمل مناقشات الدين مع عالم ما بعد الحداثة، ليبثها لزعيم الحوزة الذي تعامل بحكمة بالغة في موضوعات بناء الدولة الحديثة في مجتمع يتسلق الحداثة والعقلانية ببطئ وتعثر . 

حاولت اعتى العلمانيات واشدها راديكالية وهي العلمانية اليعقوبية في فرنسا، والعلمانية الشيوعية اللينينية ( وليست الماركسية ) ان تتدرج في فصل الموسسة الدينية عن الدولة، ثم نفي نفس الدين عنها، ثم الفصل بين الاخلاق والدين، انتهاءً بمحاولة فصل اصل الاخلاق عن الفطرة او الطبيعة الاولى للانسان والاكتفاء بالاخلاق الاجتماعية المنتجة من الحداثة ذاتها . 

لعب البابا يوحنا بولص الثاني دوراً مهماً في التحريض على اسقاط الانظمة الشيوعية في اوربا انطلاقاً من هذا الفهم، وان الليبرالية الاوربية الرأسمالية اكثر تفهماً واقل عدوانية ضد الكاثوليكية . 

من القلق الوجودي، الى الوجودية المؤمنة، والمثالية المؤمنة، والعلمانية المؤمنة، تحاول الكنيسة الكاثوليكية اعادة احياء التعاليم المسيحية الروحية، ومساعدة الدولة والمجتمع على انتاج معايير من خارج المنظومة تعتمد على التضامن الاخلاقي والاعتقادي المؤسس، والسابق على قيام الدولة . 

يعيش المرجع الاعلى السيستاني في (النجف )الاشرف، وهي المدينة القريبة عن (اور )مهد ابراهيم الخليل (ع) ومنطلق العائلة النبوية المركزية في الشرق الاوسط. 

انتج الامام علي بن ابي طالب (ع) روحانية اسلامية عالية ظلت تشكل المرجعية الروحية لجميع الطرق الصوفية والعرفانية في الاسلام حيث تعتبر اغلب الطرق الصوفية السنية ان شيخ الطريقة الاول هو صاحب القبة الذهبية التي يسكن السيستاني على بعد امتار من قبره منذ اكثر من سبعين عاماً . 

ينتمي السيستاني الى المدرسة الفقهية الاصولية ، وهو استاذ فقه واصول فقه وحديث كبير،  ولم يعرف عنه الاهتمام بدروس الفلسفة او العرفان النظري. لكن حياته كانت تضحية كبيرة من اجل مبادئ اخلاقية تتعلق اساساً بالزهد والعلم والاخلاق والروحانية الملهمة للمسلمين . 

ينتمي البابا فرنسيس الى الرهبنة المسيحية او جنود الله وهو اول عضو في هذه الكنيسة يصل الى البابوية، وتعد الرهبنة خليطاً من التصوف والخيرية الاجتماعية والتعليمية والتبشيرية المنظمة تنظيماً عالياً. 

اعترف الاسلام مبكراً بالمسيحية كديانة توحيدية ابراهيمية مؤمنة، وكان النبي محمد (ص) يسمي عيسى (اخي). 

ينتمي كلا النبيين اللذين الهما العالم الروحانية الفائقة الى ابراهيم الخليل (ع ) ويعتبر العراق موطنهم الاول. 

لم يستطع اي من صحابة  النبي من بعده ان يمشي على الماء بيقين لا شك فيه كما دعاهم المسيح نفسه،كعلي ابن ابي طالب الذي اختار السيستاني ان يعيش في مدينته الروحيةالقديمة. كان الامام علي ينفي انه يعبد رباً لا يراه، وكان يقول: لو كشف لي الغطاء ما ازددتُ يقيناً.

تعلم كلا الزعيمين الروحيين الزهد من هذه المدرسة الابراهيمية الحنيفية. 

يعيش المرجع الاعلى الذي تجبى لامامته اخماس اموال المسلمين الشيعة الكبيرة في ضريبة عابرة للدول والقوميات، في بيت موقوف قديم مساحته ٧٠متراً مربعاً يستاجره في زقاق ضيق منذ العام ١٩٧٠، ويدفع بدل ايجار لا يتجاوز ٥٠٠ دولار شهرياً. 

ومثل اية الله العظمى، رفض البابا فرانسيس بعد توليه الحبرية العظمى  السكن في القصر الرسولي المخصص للبابوات في الفاتيكان، واختار البقاء في (بيت القديسة م…
 السيستاني ينتمي الى عرب إيران وقد اخذ هذا اللقب من جده الذي شغل منصب شيخ الاسلام في سيستان، والعائلة سكنت اصفهان لكن السيد علي ولد في خراسان بالقرب من مرقد حفيد الامام علي الامام علي الرضا( ع ) وهاجر للدراسة في النجف بمحض ارادته عام ١٩٥٠ . 

اصول البابا( فرنسيس) ايطالية وكان والده على خلاف مع الفاشية وكان ذلك احد اسباب هجرته منها. ويتكلم عدة لغات منها لغته الام الأسبانية والايطالية والفرنسية والانكليزية والاوكرانية واللاتينية بينما يجيد السيد السيستاني العربية والفارسية فقط . 

والد فرنسيس الذي هرب من الفاشية كان عاملاً مهاجراً في سكك الحديد، بينما والد السيستاني السيد محمد باقر كان فقيهاً واستاذاً في الحوزة . 

يهتم البابا فرانسيس الذي يحمل شهادة الماجستير في الكيمياء  بالثقافة والفنون ويتابع الافلام الجديدة وكرة القدم وهو من مشجعي النادي الاسباني برشلونه. بينما عرف عن السيد السيستاني كثرة مطالعاته في التاريخ والقانون الدستوري  وحبه لرياضة المشي قبل ان يقعده التقدم في السن عنها. 

يستقبل السيستاني البابا فرنسيس في بيته حفاظاً على تقليد مرجعي حوزوي قديم، ولا يتوقع الاستقبال في مطار النجف، او اي مؤسسة حوزوية او حكومية اخرى. 

عرف عن المرجع الاعلى حبه للناس، وكثرة الدعاء لهم، وهو يودع ضيوفه الكبار عدة خطوات الى باب غرفته الصغيرة . 

عرف عن البابا تواضعه وتمسكه بعادة غسل السيد المسيح لارجل تلاميذه، وهو يغسل ارجل السجناء والمرضى، والقاطنين في دور الرعاية . 

تعايش البابا فرنسيس في الفترة الحرجة من حياته من الدكتاتورية في بلده، وتعرض للنقد، وسوء فهم كبير طالما حاول  ايضاحه في اللقاءات الصحفية . 

تعايش السيستاني بصعوبة كبيرة وصبر مع النظام الديكتاتوري في العراق قبل ٢٠٠٣ والتزم منهج استاذه الخوئي في اولوية الحفاظ على الحوزة العلمية في النجف الاشرف . 

يعدُّ العراق موطناً قديماً للمسيحية،  وكنائسها.  وحتى مدينة بغداد التي ينزل في مطارها البابا فرنسيس بنيت بناءً على نصيحة قدمها الرهبان النسطوريين "البغداديين" للخليفة المنصور الذي شيدها على طراز رفيع من بين مدن العالم القديم . 

وليس في سهل نينوى او اشور القديمة فحسب، بل كانت المسيحية وكنائسها في المدن والحواضر الاسلامية الكبيرة البصرة والكوفة والحيرة وبغداد ونينوى وكربلاء. 

كانت الديانة المسيحية في الغرب قبل القرن الرابع ينظر اليها على انها طائفة يهودية مهرطقة. 

احتضن العراق اليهودية ومذاهبها والنصرانية ومذاهبها قبل ان يحتضن المذهبين الاسلاميين الكبيرين السنة والشيعة . 

احب المتدينون العراق كثيراً، وارتبطت به الكثير من الرمزيات التي يتمنون العيش قريباً منها . 

حتى اليهود الذين سباهم ملوك بابل، رفضوا العودة الى فلسطين بعد ان عرض عليهم الملك الاخميني  (كورش ) حرية العودة بعد غزوه وسطرته على بابل . ورفض اليهود العراقيون بعدها بآلاف السنين، عرضاً مماثلاً مطلع القرن العشرين، عرضه عليهم الجنرال (مود) بعد احتلال العراق، و صدور وعد (بلفور) وقالوا نحن نبقى في العراق، وهو وطننا منذ آلاف السنين . 

لكنَّ عدم الاستقرار السياسي، والتاثيرات الخارجية التي منعت قيام نظام قانوني ودولة حديثة، كان هو القوة الطاردة لاتباع هذه الديانة كما حدث للمسيحين بعدهم، والى حد ما الصابئة المندائيين والايزديين. 

في العراق كانت الدولة والمجتمع اعنف على الاقليات الدينية  من المؤسسات الدينية، والمرجعيات الاسلامية حيث ظل الخوف والقلق من احكام  معروفة تتعلق بفقه العلاقة مع الاديان  .  كانت مشكلة اليهود مع الدولة والمجتمع السياسي المتطرف كذلك المسيحيين الذين شكلت ضروف الحصار والارهاب والامن الهش اسباباً لهجرتهم. 

منعت الدولة القومية (البهائية) وحاولت السلفية الجهادية استئصال الايزيديين.

يعبر السيستاني عن السنة بانفسنا، وعن المسيحين بانهم جزء منا، في نسبة اصيلة وعميقة للإسلام الحنيف بمعناه الخاص والعام . اما بقية الاديان فنظرية السيد المرجع في الحكم، تضمهم كمواطنين اصلاء في الدولة العراقية . 

 يعد التسامح الديني جزء من التضامن الاخلاقي الاجتماعي القديم في العراق، ولم يكن العراق مسرحاً لا لمحاكم التفتيش، ولا الحروب الصليبية، ولا التصفيات العرقية، عبر التاريخ الذي عانى فيه دوماً من مشكلة الصراع السياسي الحاد. 

السيستانية، كمنهج ومدرسة فقهية، وادارة حوزورية، وولاية فقيه سياسية خاصة ، تعيد تاكيد مديات تاثيرها، وانتشار خطابها،  مع هذه الزيارة التاريخية التي يتجامل فيها الزعيمان الروحيان لاكبر ديانتين توحيديتين في العالم . 

تطوف الديموغرافيا الدينية في العالم حول الجغرافيا القديمة لتاريخ الاديان، وتلعب المدن، ودور العبادة، والمراكز الدينية، دوراً رمزياً مؤثراً في قيام التجارب الاجتماعية، وتاسيس الدول الحديثة القوية والمؤثرة. 

تحقق الحكمة السيستانية تقدماً في التاثير، وتقديم النموذج المحافظ العقلاني الذي يبتني على اصالة فقهية، وخطاب ديني انساني، وواقعية سياسية، تصبر في التكتيكات وتربح في الاستراتيجيات، وتستلهم حكمة الانبياء . 

الهمت السيستانية الدولة الدستورية في العراق، واوحت للاجيال الجديدة في ايران تطوير تجربة الدولة الاسلامية عندهم،  وارسلت للعالم العربي رسائل تساعد على  ارساء دعائم الاستقرار، في الوقت الذي تواصل فيه تعميق تاثيرها الروحي، ورعايتها الاجتماعية، وارشادايتها السياسية، في ترسيخ الابعاد المباركة التي استحقت فيها اعتراف العالم . 

وحدهم المتطرفون ودعاة العنف الجائر والفوضى كانوا ويظلون ينظرون الى هذه الزيارة والقمة الروحية المرتقبة  من زوايا ضيقة : 

فتحة كهف في جبال (تورا بورا)  . او صفحتان  من كتاب قديم لم يراجع منذ ست سلالات ! او عقل انطباعي نمطي تعود ان يصنع معاييره بمعزل عن مشاورة عقول الامم وعقال الانسانية الكبار .
..... .......

(١) يورغن هابرماس، جوزف راتسنغر: جدلية االعلمنة العقل والدين .