• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : على جسر الآخرة.. .
                          • الكاتب : رجاء بيطار .

على جسر الآخرة..

 - أنت تخطو نحو حتفك..!

لا تنظرنّ إليّ متّسع الحدقتين، ولا تهزّنّ برأسك وتمضينّ... أنت تعلم أني على حق..!
وكيف لا أكون كذلك وخطُّ الزمان ممدودٌ تحتك، تتنقّل عليه بخفّةٍ تارةً وتثاقلٍ أخرى، وهو مطاوعٌ لخطاك يحتضنها ويرشدها، ولكنك غافلٌ عن نقطة الانتهاء.. قد نسيت ما علّمتك إياه علوم المنطق، من أن لكل نتيجةٍ سبباً، وأن ما له بدايةٌ هو حتماً منتهٍ إلى نهاية، وما درسته في هندسة الصفوف الابتدائية، من أن الخط هو مجموعة نقاطٍ متلاصقةٍ متّصلة، وهو إن كان محدوداً يبدأ بنقطةٍ وينتهي إلى نقطة، وإنك في ابتعادك عن البداية، حتماً تقصّر المسافة نحو النهاية، حتى تبلغها بعد حين.
وقاعدةٌ أخرى من قواعد الهندسة الابتدائية، أحب أن أذكّرك بها، فإنك حين تجري على مسارٍ مستقيم، ثم تنحرف عنه إلى مسارٍ آخر، أنت تبتعد عن مسارك الأول كلما تابعت في مسارك الثاني، حتى يتباعد الاثنان، فلا يلتقيان بعد ذلك أبداً.
 لست الآن بصدد شرح درسٍ في الهندسة، ولا وضع نظريةٍ في المنطق، ولكني أسمي الأشياء بمسمياتها، وأعكس صورة الحقيقة التي غفلتَ عنها طويلاً، مستعملةً مرآة الواقع المصقول على حد الاهتداء، ومستعينةً بصفحة وهّاجةٍ من نهر الحياة المحاذي لصراطك، رقراقة الماء ساكنة الهواء، لا تعبث بها ريحٌ ولا تتجاذبها الأهواء.
 - أتفهمني؟! أنت تخطو نحو حتفك..!
بل كلنا نحو حتوفنا ماضون، وليس الأمر مختصاً بك وحدك.
ولكن، أن تعيَ هذا الواقع، أن تتصرف بحياتك وفيها من خلاله هو المطلوب، بل أن يكون هو الدافع..!
وقد تسألني:
-  كيف يدفعني نحو الأمام ما سينتهي بي إلى الموت الزؤام؟!
وأقول لك:
- ليس هو ما سينتهي بك، بل أنت من ستنتهي به، إن لم تفهم الضارّ من النافع، ولم تعِ خطورة النوازع، ولم تدرك قيمة حياتك فأضعتها بين ناظرٍ وسامع، وظلمةٍ داجيةٍ تحسبها لشدة غفلتك هي النور الساطع.
ومن قال: إنها نقطة النهاية؟!
لقد رسم لنا الباري إليها طريقاً واضحة الغاية، لا عثرة فيها ولا عسرة، وقال لنا في حديثه القدسيّ:
"الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا..!"
إذن، فهي يقظةٌ من بعد نوم، ووصول إلى شط الأمان من بعد طول تخبطٍ بين غرقٍ وعوم، أو بلوغ هاويةٍ تفغر فاها لابتلاعك، إن كنت قد حفرتها بمعولك وعمّقت غورها  بذراعك..!
واليقظة من كابوس الدنيا راحةٌ وهناء، لمن كانت له الدنيا طليقة روحه، لا يبتغي مناها ولا يسعى لكسب رضاها، بل يعيش فيها ضيفاً خفيف المؤونة كثير المعونة، ينتظر ما بعدها كما ينتظر غادةً خطب ودها، فأجّلته حتى يصير جديراً بها إلى غدها..!
واليقظة من الدنيا لمن عاشها نعيماً عوضاً عن النعيم، هي الجحيم الأبدي الذي لا يماثله جحيم، فالمتنعّم بها غير مرتقبٍ لفقدها مسكين، قد باع الباقي بالفاني والخالد بالزائل.
 والشاهد قول إمام الفضائل في وصفه للمتّقين:
 "... عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن رآها، فهم فيها معذّبون...".
- أنت تخطو نحو حتفك، وتمهّد بيدك للحدك، وترسم بخطاك سبيل استيفاء عهدك..!
أنت تمضي، فإن نظرتَ حولك بعينٍ باصرة، قرأت أسفار الأولين والآخرين، وأدركت أنك تعبر جسر الآخرة.
وإن اعتبرت بما فعلوا ويفعلون، وعلمت أن الإنسان يعيش بعقله لا بحواسه، صار همّك من الدنيا أن تأخذ منها ما يرضي هذا العقل، ويسمو به إلى ذروة الصقل، فأنت تعلم أن الدنيا ليست هدفاً بحد ذاتها، بل هي دروب يهتدي بها من أدرك حقيقة صفاتها، ويغرق في وحولها من غفل عن وعورة عثراتها.
أنت تخطو، نحن نخطو... كل من في الكون يخطو...
والنهاية واضحة، فالبعض يراها ويسعى للقياها، والأكثر يغطي عينيه وقلبه بغشاوة لينساها، حتى إذا بلغها على حين غرة، لم تعد تنفعه النظرة والعبرة، فقد ذهبت السكرة وأقبلت الفكرة، ولا بد له من أن يخلد أبداً في حصيل تلك البذرة، ويغرق في مرارة جناها.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=153416
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 03 / 25
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 10