يعتبر معدن النحاس من أقدم المعادن التي اكتشفها الإنسانُ القديم، وطوّعها لاستخداماته المختلفة، حيث وجدَ في الطبيعة على شكل قطع حمراء نقية؛ مخلوطة بصخور منذ أكثر من (10000) سنة، واستعمل للأغراض المعيشية. وكان المصريون القدامى قد استخدموا النحاس في صنع أنابيب مياه الشرب والتصريف، وفي عصر الحضارة الإسلامية استخدم النحاس في صكّ النقود، كما استخدم أيضاً في صناعة أواني الطعام، وأوعية السوائل، وأدوات الزينة، وفي طلاء السفن الخشبية؛ حتى لا تتعرض للتلف.
من الصعب تحديد المكان الذي صنعت فيه أولى الأدوات والأسلحة النحاسية. والشيء المؤكد أن هذه الصناعة تطوّرت في أحد مراكز العصر الحجري الحديث المتطورة في الفترة من حوالي 7000-6000 ق.م. ويرى البعض بأن مصر هي التي بدأت هذه الصناعة، كما يرجع البعض بداية صناعة النحاس بالعراق. ومما يؤكد احتمال أن تكون مصر أو العراق قد بدأتا صناعة النحاس؛ أنه توجد في مصر مناجم سيناء، وهي ليست بعيدة عن العراق، فإذا كانت مصر هي الأولى في صناعة النحاس؛ فلا بد أن العراق قد ساهم أيضاً في أن يكون من المناطق السابقة في صناعة النحاس. ويرى البعضُ أن المصريين عرفوا صناعة النحاس من العراق عبر سوريا.
وتعتبر صياغة النحاس مهنة لها عراقة ومكانة خاصة لدى العراقيين، وظلت هذه الصناعة ركيزة أساسية للحياة اليومية، ونشاطاً تجارياً يدخل كل بيت؛ عبر الأواني المستخدمة في مختلف الأنشطة. فالأواني النحاسية بالنسبة لبيت الزوجية؛ لا تعكس فقط قيماً جمالية؛ وإنما تكرس لاستخدام عملي يرتبط بالعنصر الجمالي، ناهيك عن البعد الصحي الكامن في معدن النحاس، مقارنة مع غيره من المعادن المستخدمة في صناعة أواني الطعام... إلا أن الحال تغير في الأغلب الأعم، واتجه الاهتمام بالنحاس إلى اقتناء بعض القطع التذكارية وزينة البيت، فلذلك نجد اختفاء حرفة صناعة التحف النحاسية، وإغلاق كافة النشاطات التي كانت تسعى لتنشئة حرفيين أكاديمين. وهذه الحرفة كانت ومازالت تعكس روح وحياة وثقافة المجتمع العراقي، فالتحف النحاسية تنقل في أشكالها وزخرفتها تاريخ حقبة معينة، أي أنها بمثابة سجل لتاريخ الفترة التي نشأت وانتشرت خلالها.
يتطلب التشكيل على مادة النحاس دقة في إبراز التفاصيل، وعدم التسامح مع أي خطأ، وتحويل النحاس الى لون من الألوان التي يرتبط التعامل معها وفق رؤى وتطورات، وتوظيف ذلك لخدمة العمل يستدعي ثقافة معرفية متنوعة يتمتع بها الفنان، مثلا معرفة إمكانية النحاس وماهيته العلمية، ودراسة عمليات الضغط، لكي نحظى بفهم مدرك للمساحات... ثم نسعى لبناء الموضوع بناء فنياً يتواءم وصفات خدمة فكرة العمل، ونوعية النحاس وتوافقيته للاستخدام الفني بأنواعه الأصفر والأحمر والخلط بينهما، ومنها تشكيل الموضوع الأساس... وهذا يتطلب من الفنان أن يكونَ صاحب معرفة في جميع الأساليب الفنية، ومنها اسقاط الأسطورة أو إضفاء أساليب تعبيرية وسريالية، لكي يكونَ العملُ الفني ضمن مقومات التواصل مع القيمة الفنية الموضوعية لقيم التواصل، ومنها معرفة التراث سعياً لتشكيل الهوية والانتماء الوطني الانساني...
ويعد نقصُ خام النحاس وغلاء ثمنه؛ من أهم المشاكل التي اعترضت العمل في الوقت الحاضر، غير أن (الصفّار) يشعر بالأسف لأسباب كثيرة، منها طغيان الصناعات المستوردة، وقلة النحاس في السوق، وتحول الصفارين لمهن أخرى، وقلة السائحين الذين كانوا يعتبرون الزبائن الأفضل، وأخيرا قلة الاهتمام الحكومي بهذه الحرفة التراثية القديمة.
|