بين السير والسائر ذاتية , الا انها لا تتحقق ولا تظهر بالفعل الا بواسطة الطرق والدروب العرضية , فالدرب يكشف نوع السير وحقيقة السائر , وقد تسعد مناظر الدرب و زهوره السائر, وقد تدمي اشواكه اقدام السائر , فلا يعرف السائر ما يخبئ له الدرب احيانا .
واما عن تجربتي الشخصية مع الدروب , في الطفولة، كان الدرب بالنسبة لي : هو ذلك المسار الذي نتعلمه، ونكبر عليه , و نتعثر فيه، ونخطو عليه , و الذي يعلمنا كيفية الزحف و المشي، و التحدث، و التعامل مع الآخرين , والنظر الى الاشياء من حولنا , فهو الذي يصنع ذكرياتنا الأولى، ويحدد شخصيتنا ؛ وقد توسعت وترسخت تجربتي مع الدروب في عقدي الثاني وبداية مراهقتي البريئة , اذ طالما هرولت اليها مسرعا , وهي تتسع امام ناضري كلما تقدمت فيها وسرت عليها , وكنت اتبع الدروب اتباع الفصيل اثر امه , واقتفي اثر الاقدام اقتفاء الدليل في الصحراء لآثار المسير , وفي هذا العمر عرفت ان بعض الدروب مهلكة واخرى منجية , واتبعت المسارات التي تقربني من اهدافي البسيطة والمحفوفة بالمخاطر وقتها , اذ كنت العب بالنار من حيث لا اعلم , واساير الوحوش من حيث لا اشعر ... .
كان الدرب طويلا متعبا شاقا الا انني لم أكن اشعر بالتعب قط ؛ بسبب عنفوان الشباب وحيوية المراهقة , و كان الدرب يمتد أمامي كأنه نهر لا نهاية له ، يلتوي ويتأرجح في كل اتجاه، دون أن اعرف ما كان يخبئه لي الغد ... ؛ فقد اوصلني السير الى دروب ضيقة ومسارات متعرجة فيما بعد , وكانت مليئة بالمطبات والتعرجات والتحديات والصعوبات ؛ وطالما تعثرت فيها وسقطت عليها , الا انني انهض من كبوتي في كل مرة , والعق جراحي واسير من جديد , محاولا ان اجد بصيص امل في هذا الدرب الضيق او ذلك الطريق الوعر .
و اكثر ما اتعبني في رحلتي الطويلة وسيري الحثيث وسفري الدائم ؛ دروب الاوهام وطرق الظلام , اذ ادخلها وكلي ثقة بنفسي وبالله الا انها تنتهي بي وانا مثقل بالهموم وتراكم الالام والاحزان , ولا اخرج منها الا بعد جهد جهيد وصبر من حديد , والعجيب فيها اني كلما اجد السير فيها واسرع كلما ابتعد عن هدفي المنشود , واغرق في دياجير الظلام ؛ فإشارات وعلامات الاوهام تبعدني بعيدا ؛ فهي تقرب مني البعيد وتبعد عني القريب , اشبه بالسراب الذي يحسبه الضمان ماء .
وتعرفت في تلك الدروب على مختلف الناس والشخصيات , واستفدت منها انواع التجارب والخبرات , وعشت فيها صنوف البلايا والازمات , وذقت في بعضها الطيبات , وقضيت وطرا من الشهوات والمسرات والملذات , وعرضت علي الكثير من الفرص والامكانيات , ونجحت في عبور المصاعب والتحديات , وعلى الرغم من معمعة الطريق و وعورة الدرب ؛ لا يمكن لي ان اتجنب الدرب لو طلب مني الاختيار مرة اخرى ؛ لأنه يعطي لحياتنا معنى , وان كان ممزوجا بالألم احيانا ؛ فالدرب هو الحياة , ولا مناص منه .
والدروب في حياتنا ليست مجرد مساراتٍ نعبرها , وخطوط نجتازها , واماكن نصل اليها ، بل هي قصصٌ تُكتب بخطى أقدامنا، وحكاياتٌ نحملها في قلوبنا , فكل خطوة نخطوها هي كلمة في كتاب حياتنا، بعضها خفيف كالنسيم، وبعضها ثقيل كالجبال، لكنها جميعًا تصنعنا ؛ نعم هناك دروبٌ سهلة، ممهدة كالحرير، نمرُّ عليها بفرحٍ وسرور، نلتقط فيها أزهار الأمل ونستنشق عبير التفاؤل ؛ وكذلك هناك دروبٌ وعرة، مليئة بالحجارة والعقبات والعقارب والحيات ، نتعثر فيها أحيانًا ونتألم ، لكننا ننهض لنتعلم أن القوة تكمن في الاستمرار، وأن الجروح التي نكسبها هي شهاداتٌ على إصرارنا... ؛ وقد نلتقي في تلك الدروب بمن يسيرون معنا، ويشاركوننا الخطى، ويخففون عنا أثقال الطريق، ويضيئون ظلامها بكلماتهم الجميلة وأرواحهم الطاهرة , وقد نضطر أحيانًا إلى السير وحدنا، نبحث عن بصيص نورٍ في نهاية الطريق، نتعلم أن الوحدة أحيانًا تكون معلمًا نتعرف من خلاله على أنفسنا أكثر .
الخطى التي كتبت علينا أن نمشيها في هذا الدرب او ذاك ليست دائمًا باختيارنا ، وكنت اردد بيني وبين نفسي هذه الابيات :
مشيناها خطى كتبت علينا *** ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منيته بأرض *** فليس يموت في أرض سواها
لكنني كنت اخوضها بشجاعة وادخلها بعزيمة ؛ مؤمنا بان هذا الدرب او ذلك الطريق سيقودني إلى وجهةٍ ما ، حتى لو لم اكن اعرفها من قبل ؛ فالحياة ليست وصولًا ومستقرا دائما ، بقدر ما هي رحلةٌ متنقلة , نتعلم فيها أن نعيش بقلوبٍ واعية، وأرواحٍ شغوفة , ونفوس صابرة متحدية ؛ وكلما كانت الدروب وعرة والطرق متعرجة والمسارات ضيقة , والخطى مقيدة , كنت امشيها بثقة وعزيمة وارادة من فولاذ , و روح مطمئنة على الرغم من النفس اللوامة القلقة المضطربة , وبخيال خصب ؛ يفتح لي من العسر يسرا , ومن الهم فرجا , ومن الضيق مخرجا , ومن اليأس املا , ومن الحزن فرحا ... ؛ فكنت اعيش التفاؤل والامل وكلي ثقة بالله ان القادم افضل وان الغد اجمل .
وفي ليالي الغسق ؛ يلتقي ظلي بالدرب , وارى نفسي فيه ؛ وفي اللَحظةِ التي اظُنُّ فيها أنَّ الدَّربَ يَنتهي ، اكتشف أنَّ الخُطوَةَ الأخيرةَ هِيَ بِدايةٌ لِظِلٍّ جَديدٍ , وهكذا دواليك , وعندها تنبثق الاسئلة كنجوم حائرة , وتتوالى التساؤلات كأقمار متناثرة , تأخذني ذات اليمين وذات الشمال ... ؛ هل انا من الدرب ام الدرب مني , وهل ذرات الدرب تحمل جينات اسلافي الغابرين , وهل تطأ اقدام رجال المستقبل رفاتي عندما يسيرون على الدرب ؟!
كل خطوة اخطوها كانت تحدثني عن اسرار الماضين من قبلي والذين ساروا على نفس الدرب ؛ وكل حجر ومدر فيه يهمس في اذني ويذكرني بأخبار الهالكين , واشاهد بأم العين كيف ان القرون الماضية والازمنة السالفة قد نسجت على الدرب نقوشا واثارا ... ؛ وقتها عرفت ان الدرب ليس خطا مستقيما او طريقا طويلا يصل بين ميلاد المرء ورحيله ؛ بل هو انعطافات وجودية وتنقلات روحية تختزل ارواحنا فيها ؛ تارة كالسهل في فصل الربيع الذي يلاعب خطانا , وتارة كالوديان السحيقة والهضاب المتموجة والظلمات والحفر المخيفة التي تبتلع الانفاس وتلتهم الاشخاص .
|