صفحة الكاتب : رياض سعد

رفقا بنا ايها الدرب
رياض سعد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بين السير والسائر ذاتية , الا انها لا تتحقق ولا تظهر بالفعل الا بواسطة الطرق والدروب العرضية , فالدرب يكشف نوع السير وحقيقة السائر , وقد تسعد مناظر الدرب و زهوره السائر, وقد تدمي اشواكه اقدام السائر , فلا يعرف السائر ما يخبئ له الدرب احيانا .

واما عن تجربتي الشخصية مع الدروب , في الطفولة، كان الدرب بالنسبة لي : هو ذلك المسار الذي نتعلمه، ونكبر عليه , و نتعثر فيه، ونخطو عليه , و الذي يعلمنا كيفية الزحف و المشي، و التحدث، و التعامل مع الآخرين , والنظر الى الاشياء من حولنا , فهو الذي يصنع ذكرياتنا الأولى، ويحدد شخصيتنا ؛ وقد توسعت وترسخت تجربتي مع الدروب في عقدي الثاني وبداية مراهقتي البريئة , اذ طالما هرولت اليها مسرعا , وهي تتسع امام ناضري كلما تقدمت فيها وسرت عليها , وكنت اتبع الدروب اتباع الفصيل اثر امه , واقتفي اثر الاقدام اقتفاء الدليل في الصحراء لآثار المسير , وفي هذا العمر عرفت ان بعض الدروب مهلكة واخرى منجية , واتبعت المسارات التي تقربني من اهدافي البسيطة والمحفوفة بالمخاطر وقتها , اذ كنت العب بالنار من حيث لا اعلم , واساير الوحوش من حيث لا اشعر ... .

كان الدرب طويلا متعبا شاقا الا انني لم أكن اشعر بالتعب قط ؛ بسبب عنفوان الشباب وحيوية المراهقة , و كان الدرب يمتد أمامي كأنه نهر لا نهاية له ، يلتوي ويتأرجح في كل اتجاه، دون أن اعرف ما كان يخبئه لي الغد ... ؛ فقد اوصلني السير الى دروب ضيقة ومسارات متعرجة فيما بعد , وكانت مليئة بالمطبات والتعرجات والتحديات والصعوبات ؛ وطالما تعثرت فيها وسقطت عليها , الا انني انهض من كبوتي في كل مرة , والعق جراحي واسير من جديد , محاولا ان اجد بصيص امل في هذا الدرب الضيق او ذلك الطريق الوعر .

و اكثر ما اتعبني في رحلتي الطويلة وسيري الحثيث وسفري الدائم ؛ دروب الاوهام وطرق الظلام , اذ ادخلها وكلي ثقة بنفسي وبالله الا انها تنتهي بي وانا مثقل بالهموم وتراكم الالام والاحزان , ولا اخرج منها الا بعد جهد جهيد وصبر من حديد , والعجيب فيها اني كلما اجد السير فيها واسرع كلما ابتعد عن هدفي المنشود , واغرق في دياجير الظلام ؛ فإشارات وعلامات الاوهام تبعدني بعيدا ؛ فهي تقرب مني البعيد وتبعد عني القريب , اشبه بالسراب الذي يحسبه الضمان ماء .

وتعرفت في تلك الدروب على مختلف الناس والشخصيات , واستفدت منها انواع التجارب والخبرات , وعشت فيها صنوف البلايا والازمات , وذقت في بعضها الطيبات , وقضيت وطرا من الشهوات والمسرات والملذات , وعرضت علي الكثير من الفرص والامكانيات , ونجحت في عبور المصاعب والتحديات , وعلى الرغم من معمعة الطريق و وعورة الدرب ؛ لا يمكن لي ان اتجنب الدرب لو طلب مني الاختيار مرة اخرى ؛ لأنه يعطي لحياتنا معنى , وان كان ممزوجا بالألم احيانا ؛ فالدرب هو الحياة , ولا مناص منه .

والدروب في حياتنا ليست مجرد مساراتٍ نعبرها , وخطوط نجتازها , واماكن نصل اليها ، بل هي قصصٌ تُكتب بخطى أقدامنا، وحكاياتٌ نحملها في قلوبنا , فكل خطوة نخطوها هي كلمة في كتاب حياتنا، بعضها خفيف كالنسيم، وبعضها ثقيل كالجبال، لكنها جميعًا تصنعنا ؛ نعم هناك دروبٌ سهلة، ممهدة كالحرير، نمرُّ عليها بفرحٍ وسرور، نلتقط فيها أزهار الأمل ونستنشق عبير التفاؤل ؛ وكذلك هناك دروبٌ وعرة، مليئة بالحجارة والعقبات والعقارب والحيات ، نتعثر فيها أحيانًا ونتألم ، لكننا ننهض لنتعلم أن القوة تكمن في الاستمرار، وأن الجروح التي نكسبها هي شهاداتٌ على إصرارنا... ؛ وقد نلتقي في تلك الدروب بمن يسيرون معنا، ويشاركوننا الخطى، ويخففون عنا أثقال الطريق، ويضيئون ظلامها بكلماتهم الجميلة وأرواحهم الطاهرة , وقد نضطر أحيانًا إلى السير وحدنا، نبحث عن بصيص نورٍ في نهاية الطريق، نتعلم أن الوحدة أحيانًا تكون معلمًا نتعرف من خلاله على أنفسنا أكثر .

الخطى التي كتبت علينا أن نمشيها في هذا الدرب او ذاك ليست دائمًا باختيارنا ، وكنت اردد بيني وبين نفسي هذه الابيات :

مشيناها خطى كتبت علينا *** ومن كتبت عليه خطى مشاها

ومن كانت منيته بأرض *** فليس يموت في أرض سواها

لكنني كنت اخوضها بشجاعة وادخلها بعزيمة ؛ مؤمنا بان هذا الدرب او ذلك الطريق سيقودني إلى وجهةٍ ما ، حتى لو لم اكن اعرفها من قبل ؛ فالحياة ليست وصولًا ومستقرا دائما ، بقدر ما هي رحلةٌ متنقلة , نتعلم فيها أن نعيش بقلوبٍ واعية، وأرواحٍ شغوفة , ونفوس صابرة متحدية ؛ وكلما كانت الدروب وعرة والطرق متعرجة والمسارات ضيقة , والخطى مقيدة , كنت امشيها بثقة وعزيمة وارادة من فولاذ , و روح مطمئنة على الرغم من النفس اللوامة القلقة المضطربة , وبخيال خصب ؛ يفتح لي من العسر يسرا , ومن الهم فرجا , ومن الضيق مخرجا , ومن اليأس املا , ومن الحزن فرحا ... ؛ فكنت اعيش التفاؤل والامل وكلي ثقة بالله ان القادم افضل وان الغد اجمل .

وفي ليالي الغسق ؛ يلتقي ظلي بالدرب , وارى نفسي فيه ؛ وفي اللَحظةِ التي اظُنُّ فيها أنَّ الدَّربَ يَنتهي ، اكتشف أنَّ الخُطوَةَ الأخيرةَ هِيَ بِدايةٌ لِظِلٍّ جَديدٍ , وهكذا دواليك , وعندها تنبثق الاسئلة كنجوم حائرة , وتتوالى التساؤلات كأقمار متناثرة , تأخذني ذات اليمين وذات الشمال ... ؛ هل انا من الدرب ام الدرب مني , وهل ذرات الدرب تحمل جينات اسلافي الغابرين , وهل تطأ اقدام رجال المستقبل رفاتي عندما يسيرون على الدرب ؟!

كل خطوة اخطوها كانت تحدثني عن اسرار الماضين من قبلي والذين ساروا على نفس الدرب ؛ وكل حجر ومدر فيه يهمس في اذني ويذكرني بأخبار الهالكين , واشاهد بأم العين كيف ان القرون الماضية والازمنة السالفة قد نسجت على الدرب نقوشا واثارا ... ؛ وقتها عرفت ان الدرب ليس خطا مستقيما او طريقا طويلا يصل بين ميلاد المرء ورحيله ؛ بل هو انعطافات وجودية وتنقلات روحية تختزل ارواحنا فيها ؛ تارة كالسهل في فصل الربيع الذي يلاعب خطانا , وتارة كالوديان السحيقة والهضاب المتموجة والظلمات والحفر المخيفة التي تبتلع الانفاس وتلتهم الاشخاص .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رياض سعد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/02/20



كتابة تعليق لموضوع : رفقا بنا ايها الدرب
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net