• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : الشيخ جواد الشبيبي "الكبير"، حياته ...شعره ...طرائفه .
                          • الكاتب : كريم مرزة الاسدي .

الشيخ جواد الشبيبي "الكبير"، حياته ...شعره ...طرائفه

 مازلنا نتجول في منتديات النجف الأشرف , إذ يرجع بنا الزمن القهقرى إلى قمة النهوض الأدبي , والأمن الاجتماعي, والطيب الخلقي.. إلى أواخر القرن التاسع عشر, وبدايات القرن العشرين.. إلى تلك الحقبة الزمنية التي تعد من أهم المنعطفات التطورية لمسيرة الشعر العراقي خصوصاً , والشعر العربي عموماً, ويمكننا أن نطلق عليها حقبة (العشرة..) وهم , مجموعة معتبرة من أفذاذ الأدباء (1) , " فقد كانت لها مآثرهم وآثارهم الجارية على أفواه العلماء والأدباء , إذ أنهم كانوا الصفوة المختارة " (2) , و " يرجع إليهم الفضل العظيم في بناء النهضة الأدبية وتكوين مجموعة من روائع الأدب العربي الرصين , تلك المجموعة التي لا تجارى من حيث متانتها, وقوتها وكيفية نسجها "(3), ونحن إذ نشارك غيرنا الرأي  , قد ربطنا بين ثلاثة أقوال عنهم للعلامة الشهير أغا بزرك الطهراني وهو من معاصريهم , والدكتور عبد الصاحب الموسوي  ,  وهو حفيد أحدهم ,  والأستاذ الكبير جعفر الخليلي ,  وهو من تلامذة بعضهم , لنعطي فكرة مختصرة عن هؤلاء اللذين يعدون بحق الركن الأساسي - مع ركنين أساسيين آخرين في قاهرة المعز ودمشق الشام - لبناء صرح الشعر والأدب العربيين المعاصرين بدون منازع , هؤلاء هم الذين تخرج على أيديهم الجواهري (وهو ابن الشيخ عبد الحسين الجواهري أحد أعضاء العشرة) , والشيح محمد رضا الشبيبي وأخوه الشيخ محمد باقر الشبيبي (وهما ابنان لأحد أعضائها أيضا وهو الشيخ جواد الشبيبي شخصية دراستنا المتواضعة) ,  والسيد أحمد الصافي النجفي  ,  والشيخ علي الشرقي (وهو ابن أخت الشيخ عبد الحسين الجواهري , وابنه بالتبني) , والسيد محمود الحبوبي (وهو ابن أخ العلامة المجاهد السيد محمد سعيد الحبوبي)  , والشيخ محمد علي اليعقوبي ,  والشيخ عبد المنعم الفرطوسي , والشاعر محمد صالح بحر العلوم , والدكتور عبد الرزاق محيي الدين  , والأستاذ صالح الجعفري , والأستاذ جعفر الخليلي  , وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم .
 كان لهؤلاء (العشرة)  , ولغيرهم من الأسر العلمية الكبيرة , نواد ومجالس  , يتطارح فيها  رواد الشعر قضاياه , وأصحاب العلم مسائله  , وتنشط هذه النوادي والمجالس أيام العطل الدراسية  , وفي ليالي رمضان (4)  , ولبعضهم مجالس أسبوعية تتزاحم على الأيام , والأيام نفسها عاجزة عن تلبية مطالبهم بالاتساع  , وكأن كل واحد منهم يردد قول المتنبي :
أريد من زمني ذا أن يبلغني *** ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
هل كانوا حقاً أكبر من زمنهم بكثير.. أم أن زمننا أصبح أكبر منا بكثير حتى أمسينا كريشة في مهب الريح !!
أنقل إليك - يا قارئي الكريم - هذين الخبرين , ولك أن تتصور وتقارن بين عصرهم , وهم بين أحضان الفترة المظلمة , وبين عصرنا , ونحن نخترق القرن الحادي والعشرين !!
أولهما ينقله لنا الدكتور عناد إسماعيل الكبيسي في كتابه (الأدب في صحافة العراق منذ بداية القرن العشرين) عن مجلة (العلم) النجفية بعددها 1و2 لسنة 1910م يقول الخبر: " كانت الصحف في كل اسبوع تنهال على إدارة (العلم) من كل فج عميق بين مجلة وجريدة ولائحة (كذا) باللغات العربية والفارسية والتركية والهندية وقليل من الفرنسية والإنجليزية ,  بعدد يتراوح بين الخمسين والمائة, وكانت الإدارة توزعها بين المكتبات العمومية ودور الشعراء وبعض الفضلاء " . (5)
هل يدخل العراق في يومنا هذا , ومن قبل يومنا هذا, هذا العدد من الصحف والمجلات , وبهذه اللغات المتعددة وعلى ظهور الحمير والبغال؟!
وإليك الخبر الثاني : عن أحد نوادي النجف الأشرف الأدبية من بين عشرات النوادي في أيامها الخوالي.. أيام حقبة (العشرة). وهو نادي صاحب الترجمة الشيخ الشبيبي الكبير, إذ يقول ابنه الشيخ محمد رضا الشبيبي عنه " لم يزل ناديه من أبهج نوادي الأدب في النجف , تلقى فيه المحاضرات النافعة, وتجري فيه المناظرات المفيدة , والمذاكرات العلمية, فهو مجتمع الطبقة العليا من المهرة الذين تفعل أحاديثهم في الألباب مالا تفعل السحرة " (6).
هذا أحد النوادي بهذه المواصفات , وكان موقعه في محلة البراق  , وهي محلة سكن تجار النجف وأثريائهم ,  وليست محلة رجال العلم ومجالسهم , ولكن كانت تحتضن عوائل (علمية- تجارية) كآل الطريحي , وزوجة الشبيبي الكيبر منهم - كما سنذكر- وآل الأعسم , وآل الشبيبي, وآل شبر , وغيرهم , المهم كان النادي يعج (بالعشرة) ومن حولهم العشرات والعشرات من الأدباء والعلماء والمفكرين والباحثين ووجوه البلد وأعيانه.. يتحاورون ويتناقشون ويتسامرون بروح حيوية  , ونشاط فعّال  , وتدفق ذهني  , وذكاء فطري , وعبقرية فذة .. لحظات ولا أجمل , وحياة ولا أفضل , وأفكار ولا أبدع , وطموح ولا أروع , وتسابق ولا أشرف , ولكن هل يوجد في نجف اليوم ولو معشار ماكان قبل قرن ونيف من الزمان !!
ولابد أن تسألني من هؤلاء (العشرة) ؟ ولي أن اجيبك ببساطة القول كبساطة حياتهم , هم شعراء وأدباء وعلماء ومؤرخون ومفكرون , ظلمهم التاريخ ويقول القرآن الكريم , ولا تبخسوا الناس أشياءهم , وحق العلماء والأدباء أهم الأشياء, وهذه - مرة ثانية - دعوة لنقاد الأدب العربي والمؤرخين لإشباع هذه الحقبة المهمة من تاريخ العراق بالبحث والتمحيص , ونشكر كل من يفسح لنا المجال لإلقاء أضواء خاطفة وسريعة على هؤلاء الرجال , ونعددهم لنشرع من بعد بدراسة مواقف وطرائف أحدهم  ,ألا وهو الشيخ جواد الشبيبي, ومن الجدير أن نشير إنّ هذه المجموعة المنعوتة (بالعشرة المبشرة) هي إحدى حلقات الأدب والعلم في النجف الأشرف ولحقبة زمنية واحدة وهم :
1- السيد محمد سعيد الحبوبي (1266 -1333هـ \ 1850-1915م) , وهو سليل أسرة عريقة الشرف, صحيحة النسب, طبع على حب العلم والأدب واهتم بالأخلاقيات, فدرس علم الأخلاق على يد الأخلاقي الكبير ميرزا حسين قلي , ودرس الفقه والأصول عند الأستاذ الكبير الشيخ حسين الكاظمي , ثم تتلمذ على الشيخ محمد طه نجف. وهو فقيه كبير , وأديب فطحل , وشاعر مبدع , ومجاهد شجاع.
2- الشيخ جواد الشبيبي (1281-1363هـ \1864-1944م) ,  سنترجم له في هذه الدراسة.
3- السيد جعفر الحلي (1277-1315هـ \ 1861-1898م) ,  ترجمنا له في ثلاث حلقات سابقة.
4- السيد علي العلاق (1293-1344هـ \1876-1925) وهو من الأدباء والشعراء المعروفين , يلم بأخبار العرب وسير الشعراء وغرر الشعر.
5- الشيخ عبد الحسين الحلي (1299-1375هـ \ 1882-1955م) , وهو غير الشيخ حسين الحلي الفقيه المعروف, الشيخ عبد الحسين المذكور هو بن الحاج قاسم بن صالح من عائلة معروفة بالحلة تعرف بـ(آل هليل) , عالم كبير ,  وفقيه بارع , وأديب جليل, هاجر الى النجف 1314هـ, وبرع براعة لفتت إليه الأنظار, إذ ظهر نبوغه وعبقريته ,  توفي بالبحرين بعد أن تولى فيه المحاكم الشرعية.
6- أغا رضا الاصفهاني (1287-1362هـ \ 1870- 1943م): هو أغا رضا بن محمد حسين بن باقر بن محمد تقي الأصفهاني , ولد في النجف ,  ونشأ فيها  , وقرأ علوم العربية  , وكان مجتهداً في الفقه محيطاً بأصوله وفروعه وكان نابغة في الشعر والأدب العربي والرياضيات ويجيد أيضا  الأدب الفارسي , وكان حلو المعشر  , ظريف المحضر , كثير المداعبة. توفي في أصفهان ودفن فيها.
7- الشيخ عبد الحسين الجواهري (1281-1335هـ \ 1864-1917م) وهو والد الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري , وهو من علماء النجف وأدبائها البارزين , كما كانت له منزلة اجتماعية في الأوساط الأخرى, ونبغ في الشعر , وبرع فيه  , وساجل الأعلام والفحول وجرى  معهم في حلبات السبق ,  تتلمذ في الفقه والأصول على الميرزا حسين الخليلي , والشيخ محمد طه نجف , والشيخ محمد كاظم الخراساني  , والشيخ أغا رضا الهمداني.
8- الشيخ هادي كاشف الغطاء (1287-1361هـ \ 1870-1942م) وهو عالم شهير وأديب كبير وشاعر مجيد, كان يمتاز بظواهر بارزة من الذكاء والوداعة واللطف والدماثة , يكره الفخفخة والتظاهر بأمور الرياسة, تتلمذ على عدة علماء أجلاء كالشيخ عبد الهادي البغدادي  , والسيد علي بن السيد محمود الأمين, وحضور دروس السيد كاظم اليزدي , ومحمود طه نجف وغيرهم.
9- السيد باقر بن السيد محمد الهندي الموسوي (1284-1329هـ \ 1876-1911م)  , وهو عالم مرموق  , وأديب كبير ,  وشاعر شهير , سابق فحلق , ونظم فأبدع , حلو المعاشرة  , حسن الأخلاق , ظريف لطيف , ولد في النجف  , ونشأ بها  , وقضى شطراً من حياته في سامراء مع أبيه, وهو غير السيد محمد باقر بن السيد هاشم الهندي الموسوي المتولد 1332هـ \1913م , فالأخير هو ابن أخيه وابن أخ السيد رضا الاتي ذكره.
10- السيد رضا بن السيد محمد الهندي الموسوي (1290-1362هـ \  1873-1943م) عالم كبير , وأديب شهير , وشاعر مجيد, له شعر فائق كثير في الطبقة العالية بين أشعار أهل عصره , درس على أبيه والسيد محمد الطباطبائي , والشيخ محمد طه نجف  , والشيخ حسن بن صاحب الجواهر (الجواهري) , كان بارد الطبع , لطيف المعشر.
من دراسة فترات حياة (العشرة) يتبين لنا أن السيد محمد سعيد الحبوبي هو أكبرهم سناً, والشيخ عبد الحسين الحلي أصغرهم , والشبيبي الكبير عمّر أكثرهم في الحياة  , والسيد جعفر الحلي أقلهم حياة , ولكن لا أعرف كيف أتيح للشيخ الحلي أن يحسب على (العشرة) في حين كان عمره عند وفاة السيد جعفر الحلي خمس عشرة سنه (7) , ولو انه قدم للنجف وهو ابن ثلاث عشرة (8) , على الأكثر هذا المصطلح (العشرة المبشرة) هو استعارة تشبيهية لايراد بها الحصر على كل حال سنرجئ حديثنا عن طرائف الشيخ الشبيبي الكبير للحلقة القادمة, مع التطرق الى حياته(9) , وسنمر الان بطرفة للشيخ عبد الحسين الحلي (رحمه الله) , فمن بدائعه المرتجلة أن زار فضيلة الشيخ عبد الحسين شرع الإسلام عند رجوعه من السفر , وكان في المجلس  طبقة من علماء النجف فطالبوا زميلهم بهدية  منه بمناسبة زيارة للإمام الرضا (ع) بخراسان, فقام الشيخ وجاء بجملة من الخواتيم الفيروزية, وقال ليختر كل واحد خاتما , فارتجل الشيخ الحلي:
ألقى الخواتيم لنا فانتثرت*** حتى تزاحمنا عليها معه (10)
فلاتسل عنا فكل واحد ***  أدخل فــــي خاتمه أصبعه!
وأخيراً.. رويدك سأسير بك للوصول إلى ندوة أدبية, فما علينا إلا الوقوف أمام فحولها المتبارزين على مسرح الأدب الرفيع , والتأمل بامعان , والانتباه لما يدور بين الشفاه.. الآن وصلنا وأربعة من أعضاء العشرة المبشرة , وهم الشيخ جواد الشبيبي (ج) , والسيد جعفر الحلي (ع), والشيخ رضا الاصفهاني (ر) , والشيخ هادي كاشف الغطاء (هـ).. وبين أيديهم كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي يتداولونه بينهم , وإذا بعبارة قالها العرب تصك مسامعهم وهي (نظرت بعيني شادن ٍ ظمآن)
شمر الشعراء الأجلاء (ج) و (ع) و (ر) و (هـ) - كل حرف رمز لواحد منهم- عن أذرعهم للارتجال , اقرأ ياصاحبي , وتخيل رحمك الله :
هـ نظرت بعيني شادن ظمآن  *** *ظمياء بالتلعات من نعمان
ج وتمايلت أعطافها كغصونها  **ما أشبه الأعطاف بالأغصان
ع وشدا بذاك الربع جرس حليها **فتمايلت طربا غصون البان
هـ تفتر عن برد أكاد أذيبه***** بتصاعد الزفرات من أشجاني
ر هيفاء غانية لها من طرفها *****أسياف غنج فقن كل يماني
ع الحب ياظميا عناء أول  ******  والعذل فيه هو العناء الثاني
ج جرح الجبان بفيك ضمخ في دم ** ** مالاح للعشاق أم شفتان
أراك غرقت بعيون الشادن الظمآن , وتمعنت  بتشابه الأعطاف بالأغصان  ,وتمايلت تمايل أغصان البان .. وتصاعدت الزفرات لأهيف الغانيات, ووقعت بين العناء الأول والعناء الثاني , أما استعارة جرح الجبان, فهما الشفتان.. واصل معي :
ج مارفّ صدغك فوق سالفة المها  ***** إلا ولفـّت طاقة الريحان
ج لك قادني التبريح في شطن الهوى ***أكذا الغرام يقود بالأشطان
ع لو كان غيرك ما تملك مقودي   ****  كلاًّ ولا ألوى بفضل عناني
هـ إن كنت جاهلة بفضلي فاسئلي *** من فاق يوم ندى ويوم طعان
هـ ماكنت لولا أن قدك أسمر   **** **  أهوى عناق عوالي المران
هـ أهوى المنية في هواك صبابة *******إن المنايا في هواك أماني
ج أودعتك الكبد التي قد خنتها  ********يوم الوداع ولم تفي بظمان
هـ وجفوتها من بعد ما استوطنتها **** ***زمنا فأين الحب للأوطان
ج هذا لسان الدمع يا سرّ الصبا  *****  في الخد أبرز صورة الكتمان
ع حاولت كتمان الهوى فوشت به ******** في سر قلبي أدمع الأجفان
هـ لي مقلة تجري الدموع جداولاً  *** ****  فتسيل مفعمة بأحمر قاني
هـ وبها غرستُ الورد في وجناتها**فصددت عن غرس ولست (بجاني)
ر ياللرجال لضيغم فتكت به     *** *****حدق المها وسوالف الغزلان
ر وأسرت من فك الأسارى شأنه  *******أبدا فرفقاً بالأسير العاني (11)
نكتفي من القصيدة بهذا الغزل الجميل, ونترك المدح لأهل المدح , بعد أن قادونا للتبريح , وتملك المقود بتصريح, ونسلـّم الأرواح , ونودع الأكباد, وتسيل مقلنا دمعاً حتى تكتمل الألسن على الوجنات.. يا للرجال .. !! ولا أعتقد فاتتك التضمينات  , لأبيات شعراء سلفوهم من الجاهليين حتى العباسيين.
الدنيا صور .. والحياة عبر.. وهذا شأن الحسان فبأي آلاء ربكما تكذبان.

          
شخصيته :
 فكما هو معروف من أفذاذ عصره, وأكابر رجالاته , وعمالقة شعرائه, ومشاهير أدبائه, غزير الانتاج, قوي الديباجة, متين الأسلوب, جمع بين الشعر المنظوم , والدر المنثور , والمقامات الأدبية الرفيعة في أبدع صورها وأوسع خيالها, وأدق  عباراتها اللغوية بفكاهة حلوة ودعابة لطيفة, إذ كان الرجل سريع البديهة حتى درجة العبقرية , لا تفوته أي شاردة أو واردة إلا ولها مجيب, بلطف الود, وجميل العبارة , ومهارة التورية, وحسن الاستعارة, وكان  حسن السيرة , شديد الكرم مع  أقربائه وأصحابه وجواره, والحق أنه جمع المشيخة من طرفيها العلمي والاجتماعي وبعبارة أقرب إلى مفاهيم مجتمعنا, مشيخة الدين , ومشيخة العشائر , وهو ليس بعيداً عنهما.
فالشبيبي الكبير هو الشيخ جواد بن محمد بن شبيب بن ابراهيم بن صقر الجزائري ابن عبد العزيز بن دليهم الأسدي, وكانت سلالتهم حتى الشيخ شبيب الذي تنتمي العائلة إليه, يسكنون في منطقة الجبايش في محافظة ذي قار , وكان (دليهم) الزعيم العام لآل حميد المواجد من بني أسد, فهم من فخذ المواجد, وكان لشبيب ولدان محمد وموسى, توفي الأخير دون خلف , أما محمد بن شبيب فقد تزوج ابنة الشيخ صادق أطيمش, وهو أحد رجال الأدب والفكر والعلم في مدينة الشطرة التي تأسست في عهدهم سنة (1286هـ\1869م), وإثر نزاع عائلي على الأراضي غادر محمد بن شبيب إلى النجف في بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر , فقضى ردحا من الزمن يرتشف من علومها الدينية, ثم انتقل الى الشطرة ثانية, منها إلى بغداد , وبعد ولادة ابنه جواد (1281هـ\1864م) بعدة ايام توفي الى رحمة الله, فاضطرت قرينته الرجوع إلى النجف حتى أنفذ الشيخ صادق أطيمش من يحمل ابنته وسبطه إلى الشطرة , فنشأ المترجم له في كنف جده لأمه, وكان جده يلقنه ويخصه, فكبر بعنايته , وقد فتح على طبعه الشعر صبياً فزاد إعجابه به وأحبه حباً شديداً , ولن يزل مقيماً في ذرى جده إلى أن توفي عام (1296هـ\1879م) , وبعد وفاة جده لأمه لم يطل مقامه في الشطرة حيث نزح إلى النجف مع والدته في (ذي الحجة \1297هـ تشرين الثاني 1880م). وهي سنة الوباء الفضيع , ومنها إلى بغداد والكاظمين. ثم قفل راجعاً إلى النجف لدرس المقاصد في الفقه والأصول, وسكن محلة (البراق) وتزوج من إحدى بناتها وهي بهية بنت محمد من آل الطريحي العائلة النجفية المعروفة, فأنجبت له الشيخ محمد رضا الشبيبي , ومحمد باقر ومحمد جعفر ومحمد علي والشاعر محمد حسين ومحمد رشاد , وبتوجيهه ساهم أولاده في الثورة العراقية (1920م) وفي الحركة الوطنية, وقد أبلوا في كل ذلك بلاء حسناً.
تخرج الشيخ الشبيبي الكبير على الشيخ محمد محسن الخضري والشيخ جعفر الشرقي والسيد محمد سعيد الحبوبي في مجال الشعر , وقد بلغ ما نظمه أكثر من اربعين الف بيت , لم يعثر منها إلا على عشرة آلاف بسعي من السيد محمود الحبوبي, وشغل شعره معظم الجزء الثاني من شعراء الغري للشيخ علي الخاقاني , أما في الفقه والأصول فقد قرأ على جماعة من العلماء كالسيد عبد الكريم الأعرجي الكاظمي والشيخ أحمد المشهدي والسيد مهدي بن السيد صالح الحكيم  النجفي, وغيرهم فاستفاد المترجم من هؤلاء علماً كثيراً وصنف عدة مؤلفات يذكرها لنا الزركلي في (أعلامه) وهي الروض المعطور بالدر المنثور وتراجم أدباء العصر, ونبذة في الأصول وديوان شعر. توفي الشيخ الشبيبي رحمه الله بعد عمر حافل بالنشاط والحيوية والإبداع والخلف الصالح. وذلك في بغداد سنة (1362هـ\1944م). ونقل نعشه إلى النجف الأشرف ودفن في مقبرة قرب داره في محلة البراق, بعد ان شارك في تشييعه الوزراء والنواب والاكابر والوجوه, واستقبل في النجف بتشييع اشتركت فيه جميع الطبقات وفي مقدمتهم العلماء والشيوخ والأدباء وأغلقت الأسواق وضاق الصحن الشريف بجماهير المشيعين.
قالوا عنه:
وصفة العلامة الشهير أغا بزرك الطهراني وهو من معاصريه بأنه عالم جليل , وأديب كبير , ولغوي بارع , وشيخ أدباء العراق , وقد برع في علوم الأدب, وأصاب خبرة واسعة  و اطلاعا كثيراً, وأحاط بعلم اللغة إيما إحاطة, وقد جمع بين الإكثار والإجادة, فشعره على كثرته جيد رصين وسلس متين, وبتطرق الدكتور حسين على محفوظ إلى مقاماته وشعره قائلا عنه من أشياخ الكتاب وفحول الشعراء تعبر عن مقامه المحمود في صناعة الكتابة التي يعنو لها البديع وتدل على مرتبته العالية من القريض أشعاره التي لا  يقاويها القدامى حر لفظ ولا يضارعها المحدثون دقيق معنى ويقول عنه الشيخ حرز الدين في (معارف الرجال) عشق الأدب وصار من شيوخ الأدباء, وولع في نظم الشعر ونادم الشعراء, وكان من فرسائهم.. كان عصره حافلا بفحول الشعراء والأدباء.. وكان لا يرجو نوال ممدوحه بشعره على طريقة بعض الشعراء, مع طيب نفس وظرافة وكياسة في الحديث وتدبر في الأمو ر, وإن الأستاذ جعفر الخليلي وهو بعمر أحد أولاده يسجل لنا ما أن وعيت ولشيخ الأدباء الشيخ جواد الشبيبي دوي هائل في الأوساط الأدبية والمحافل النجفية, فكان اسمه من الشهرة بحيث لا يذكر اسم الأب يومذاك بجميع فنونه إلا وكانت له من المناسبة ماتجعل الأتصال وثيقاً باسم الشبيبي الكبير, ويؤكد الشيخ علي الخاقاني ماذهب إليه الخليلي بقوله عاشرته فوجدته حسن العشرة مليح النادرة صافي النية, حلو الفكاهة , لغوي, مؤرخ, حسن المحاورة, جيد المحاضرة , فطن , ذكي, ذو ذهن وقاد وفكر نقاد ويعتبره السيد جواد شبر شيخ الادب ومفخرة العرب الشاعر الخالد جامع الشوارد... من أفذاذ الزمان في أدبه وكماله وظرفه وأريحيته.. وفذلكة الأقوال يسجلها لنا السيد محسن الأمين في (أعيانه) بقوله : كان شيخ شعراء العراق وأحد أعلامه وأعيانه ، وله الحق فيما ذهب إليه وصدق الجميع في أقوالهم , فقد كان الشيخ الشبيبي الكبير طوداً شامخاً من أطواد العراق ورمزاً كبيراً من رموزه .
مواقفه:
الشاعر يعرف من شعره وسيان أسجل لنا المؤرخون أم لم يسجلوا عنه شيئاً ؟ فابن الرومي عرفناه من شعره, وإن تغافله معاصروه , لأن الشعر مرآة صادقة للشاعر, لا يمكن لها أن تكذب , فإن كذب الشاعر, فالشاعر يمكن له أن يكذب في أي شيء, إلا في شعره , فهو صادق أمين , يبث إليك ماطفح الكيل من انفعالاته الوجدانية, ومخزونه اللاشعوري في عقله الباطن ونحن نستطيع بسهولة أن نفهم شيخنا الجليل الشبيبي الكبير دون حاجة إلى أقوال معاصريه , ولكن كيف لنا أن نقنع الآخرين ونحن تعودنا بأن نستشهد بآخرين لإقناع آخرين !
أنقل لك هذه المواقف للشيخ الشبيبي رحمه الله وتأمل معي الأحاسيس الصادقة النبيلة التي لا يمكن لها أن تصدر إلا من عقل كبير ونفس شامخة وروح عزيزة وطبيعة حرة وخيال واسع, اقرأ معي هذه القصيدة التي تحمل عوامل قوتها معها, ولو أنني قصصت من أعضائها أعضاءا!
يطارحني في الدوح من ليس قلبهُ ** كقلبي ولا أوكاره كمطارحي
إن كان كل المجد بعض مطامعي**   فنيل الثريا من أقل مطامحي
وظن سماك الشهب أنيّ اعزلٌ **وكم أعزلٍ يقوي على طعن رامح
عبرت له نهر المجرة ضارباً *** * *   لأسنّة الأمواج في يد سابح
تلاحقني في ضفتيه نجومهُ *** **  فهل كنت في الأفلاك أول سائح
كأنيّ من تحت النيازك حاسر *** *** تهاوت عليه بارقات الصفائح
من السعد لونصل الهلال يريحني *** * فأصبح مذبوحاً لأشرف ذابح
فكن ياضراح الشهب موضع حفرتي ***فما في ثرانا موضعٌ للضرائح
تجاور فيها الجائرون وأسسوا ****** بهذا الفضا إحدوثة من فضائح
قرون حديد أطلعوا من سقوفها  ****  وقالوا لها هذي السماء فناطحي
ربحتم بسوق الدهر ياباعة العلا *** *** ومن خسر العلياء ليس برابح
وتأبى طباع الأعزب الحرّ غادة *** *** **يراودها عن نفسها ألف ناكح
ومن كان من ضرع السحابة ريّه  ***  يشق عليه الحوم حول الضحاضح
الشبيبي الكبير من قبره يناجينا ,ويرسم صورة لعصرنا ..!
وأنتقل بك الآن إلى هذه المقطوعات والنتف الأخرى كأنّ الشبيبي يسجل لنا فيها أحداث هذا العصر, وليس احداث عصره ,فمن قرصاته النقدية لمواقع المسؤولية ,ومن سخرياته اللاذعة  -ونحن نسخر معه -,وكما تعلم الناس أجناس ,والنواب كما لاتعلم أصناف ..! ومن أصنافهم من ليس له أذن تسمع , ولا فم يردع , ومعنى هذا القول ,أيها المسؤولون ليشبع من يشبع ,ولا حاجة لكم بالبرقع , فليس هنالك من يد تصفع ,أقرأ وتمتع ..!!
ونائب يملآ الكرسيّ قلت له ********ماذا السكوت ؟ تكلم أيها الصنم
الحامل الرأس لم نسمع له أذن ***والصاقل الوجه ما في صفحتيه فم
وله موقفه مع الريف المظلوم ,والوطن المنهوب , يعلن نقمته ,فتعلو صرخته ,ولكن هل من مجيب لسؤال نجيب!
الله بالوطن الذي*** ******فيه الذباب علا وطنطن
يا ماضغين خراجه ** *****من مغرسٍ زاكٍ ومعدن
أتلفتموه   ,وقلتموا *** **منا الدمار ,وأنت تضمن
فسلوا البواخر هل غدت** من غير هذا النهب تشحن
وسلوا القوافل ما على ***** تلك الظهور ,وما تبطن
وسلوا المناصب هل بها ******  من أهلها أحد تعنون
وشيخنا يرى أن القحط ليس بقحط الأرض ,وقلة الخصب ,وإنما قحط الرجال ,وعدم شغل المنصب الخالي ,وهذا هو حال عراقنا الحبيب اليوم:
أجيالنا الماضون عز خضوعهم ** وسكوتهم لمصارع الأجيال
درجوا ,وأبقوا بعدهم أفعالهم ******** عبروا لأسماء بلا أفعال
تركوا البلاد,وخصبها مستوعب**** ***ما بين أجواز الى أجيال
والخصب ليس بمسمن سكانها **** *إن كان محفوفا بقحط رجال
وا حسرتا خلت البلاد ,فهل لها****** من شاغلٍ هذا الفراغ الخالي
ولا ريب أن الشبيبي ,لابد له أن يتطرق إلى الصراع الأزلي بين القوي والضعيف في وطن لا يستند على قانون نافذ ,ولا دستور ثابت ,فإلى الله المشتكى :
  كان الضعيف إذا مدّ القوي يداً  **** ****لظلمة ردّها مدفوعة بيد
واليوم ظلّ ضعيف القوم مضطهداً**** وارحمتاه لمظلومٍ ومضطهد
كم شجة أرضخته وهو معتدل **** *****كما تعاقب طراق على وتد
يبيت مضطرباً في موطنٍ قلقٍ  **** ****** كأنه زئبق في كفّ مرتعد
نعم كم من طارق تعاقب على طرق وتدنا الصابر  صبر يعقوب وما زلنا نردد, صبراً جميلاً. وهل هنالك موطن قلق كعراقنا الحبيب, إنه زئبق في يد مرتعش! ويقول شيخنا الجليل:
واضيعة الآمال بعد مناصبٍ**** حفظت مقاعدها لغيرة كفاة
من كل كأس يستجد لنفسه  *****حللا ولكن من جلود عراة
يامفقر العمال إن بك غيرهم ******سبباٍ لإثراء البلاد فهات !!
وهل هناك  أكثر بلاغة من منصف للعمال من البيت الأخير فهات! ولك هذه الأبيات الأخيرة من جارة القصر وجارة الكوخ ! فيا لسعادة الأخيرة ويالبؤس الأولى!!
أجارة هذا القصر نوحك مزعج ****  لآنسة فيه أكبت على العزف
أدرت الرحى في الليل يقلق صوتها**وجارتك الحسناء تنقر بالدف
وجاورت هاتيك القصور شواهقاً ***  بدار بلا بهوٍ وبيت بلا سقف
صور من الدنيا الدنية ,الصراع بين الاضداد ,والتفاوت ما  بين الناس ,صولة القوي على صراخ الضعيف ,واحتجاج الفقير على ثراء الغني ,نعم الدنيا بكل متناقضاتها ما انفكت تشغل بال المصلحين,وتثير مشاعر المحتجين ,لهم أن يناضلوا لما يعشقون ,اويقفوا كما يشتهون ,فالحياة لا تبالي بهذا ,ولا بذاك ,لها موقفها ...وكفى  !! 
مهما يكن من أمرٍ ، الشاعر ابن بيئته بكل قيمها وتقاليدها وحسناتها ومساوئها , يعكس صوراً ناطقة متحركة حية , من حياة عصره يصعب على اهل العصر انفسهم رصدها في اوانها أو الانتباه اليها, إنه آلة تصوير خفية بارعة الذكاء , مكثفة في رأسه العبقري على مر الدقائق والثواني , لتسجيل دقائق الأحداث الخاطفة كوميض البرق ,و بعبارات يسهل حفظها ونقلها عبر الأجيال المتعاقبة, لا تحتاج إلى ساحات وقاعات ومسارح ومتاحف وهرج ومرج  ,قد يكفي القلم وحده, لأنه نتاج العقل ونسيج الفكر ,لا يضاهيه بأية حال من الأحوال مهارة يد ,  أو ترديد حنجرة , أو ضربة قدم ,من هنا يعتبر الشعر أصعب الفنون الانسانية وأروعها وأبدعها على الإطلاق.
اقرأ معي ما يقول الشيخ الشبيبي:
أمثقف  القلم     الذي *** من دونه الرمح المثقف
تجري  سلافة   ريقه ***   فتعبها  الأفكار  قرقف
و رد الفصاحة لم يكن ***  لولاه  بالإملاء    يقطفْ
جوف العدو يضيق من ***  نفثات  أرقمه   المجوف
فكأنه   قلم     القضا ****   إن  جر  يوماً ما   توقفْ
وليل القلم طويل , مليء بالمعاناة , والبحث والتفكير, والبؤس والتحليل , و الحروف و التركيب , لأنه يبحث عن سر الحياة, ولغز الممات, وقيم العدل , وأبعاد الكون, بين جثث الموتى , وتراكمات الظلم , وملايين المجرات , أراك اضطربت وتشتتت ,الحياة شتى ,ولا ترى إلا لمدى , والأبعد بعيد عن الإنسان  .. فهيهات.. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
أعاد بعدك ليل الهم    ساهرة  *** معلقا بالسواري السبع  ناظره
أراه أوله  حتى  استشاط  عنا  ***فقام يبعث  بين  الشهب  آخره
ياناهي الطرف لا تعلق به سنة  ** امنن عليه وكن بالغمض آمره
بأي شيء كان يفكر شيخنا؟ ولماذا هذا الليل الطويل الداجي, وما همومه؟ غير أن الهم الاجتماعي في مطلع القرن العشرين.. هذا القرن المنفلت على قيم الإباء , وتقاليد الأجداد, قرن الحضارة الزائف المنفتح على الصخب والخداع والفجور, ومع ذلك (أرقى العصور) , كما يقال, ويقول الشيخ:
تسافل الصدق بأرقى العصور  ****واحتجب الحق بعهد السفور
وانتشر الرعب  بهذا    الفضا  **** فكل  يوم  هو  يوم  النشور
وانتبه  الفاجر   من    نومه **** إلى الدعارات  ونام    الغيور
لايفخر   الداني إذا  ما   علا ***إن اللباب المحض تحت القشور
وشاعرنا لا يكتفي بالاشمئزاز من حالة وصفها, بل يأمل الاعتبار من الدنيا لا عبورها:
لا تشتكي   دجلة     نقصانها ****ألم يزدها فيضان الخمور؟!
فيا أولي الامر احفظوا عهدها ****ماهكذا كانت ولاة الأمور
أما اعتبرتم    بالأولى   قبلكم ***كم تركوا جناتهم والقصور
اللهم اجعلنا ممن يعتبر بالدنيا ولا يعبرها! والشبيبي الكبير كان منسجما مع عصره, وفيا لمدرسته, حريصا على التشبث  بالقيم الاجتماعية , والتعاليم الدينية, ولاريب أنه أحد رموزها وأعلامها, لذلك رفض الاختلاط والتبرج محذراً بقوله:
يا من لها  صفة  التأنيث ثابته ** تدبري النعت ما التأنيث تذكيرُ
فأنت قارورة حيث الرجال لهم **** معـــادن لا تدانيها القــواريرُ
شففت, لا تقربي للصلب معدنه ** إن الأشف لمصدوع  ومكسورُ
طرائفه:
والشيخ الكبير كان يرصد النكتة, ولا تفوته الدعابة, واستطاع الأستاذ القدير جعفر الخليلي, وهو من معاصريه ومريديه أن يثبت لنا قسماً منها في كتابه الفريد (هكذا عرفتهم), وللأسف الشديد قد عقب على بعضها, " وليس الأمر من الأهمية التاريخية بحيث يستلزم البحث والتعقيب  " ! في حين يعتبر الأدب الفكاهي من أصعب الآداب العالية, وأبلغها جرأة, وأكثرها رواجاً, وأقربها إلى النفس البشرية المتخمة بالهموم والمتاعب, إذ تجد بين ثناياها طراوة الروح, وفلسفة الضحك, وتجارب الحياة , والدعابة الهادفة ,لا يراد بها قضاء الوقت والتسلية فقط , وإنما قد تكون نقداً ساخراً لعادات اجتماعية غير مرغوب فيها, إنها نقطة ثقل لرفع الواقعية المعاشة إلى مستوى المثالية المنشودة, فلم يكن ( لوسيان) و( ارستوفانيس) يمزحان لتعقبهما سقراط بالنكات اللاذعة, بل هو انتقام للحقيقة من السفسطة الفارغة حسب رأيهما, وهناك رموز أدبية عالية شامخة, قد اتسموا بالدعابة وجعلوا منها وسيلة لحدوث انقلابات فكرية واجتماعية هامة, كفولتير الفرنسي وثورته الساخرة, وسالوستري الايطالي ولمزه القارس على لسان حيواناته وبرنادشو الإنكليزي والعالم بين لحيته وصلعته ! و(دائرة المعارف الإنكليزية) افردت مقالة عن المؤلفات الأوربية في فلسفة الدعابة لكثرتها, وشركة ( فولشام ) اختارت ستين قصيدة ومقطوعة عن أدب الفكاهة والدعابة العالمي, وكان الشاعرالعربي أبو نؤاس من بين أعلامها .و شيخنا الشبيبي  الكبير لم يكن لاهياً وساخراً في دعاباته لأجل السخرية واللهو فقط... بل كان يعني ما يريد, ويعبر ويزيد فعندما تزوج عدد من أصحابه, وكان كل منهم قد تجاوز السبعين, قد رماهم بقصائد ومقطوعات تستوجب التأمل والتفكير, فالشيخ الأول قد أربى على الثمانين وتزوج بفتاة صغيرة السن, وأخذ يعالج نشاطه الجنسي بمختلف الوسائل والعقاقير الطبية, فكتب إلى أحد اقربائه قائلا:
(جوادك) من بعد الثمانين صاهل** فمن ذا يجاريه  ومن ذا  يطاول
وقائلة  ماذا  تحاول  نفسه  ****  فقلت لها فتح (الحصون) تحاول
فقالت أبالسيف الذي هو حامل ****وماسيفه في الروع  إلا  حمائل
ومن عجب أن الصياقل لم تكن **** تعالجه, بل عالجته (الصيادل)!
لا أعرف صورة كاريكاتيرية ساخرة مضحكة مثل هذه الابيات الرائعة, من (فتح الحصون) إلى (الصيادل) ومن (السيوف) حتى (الحمائل).. ولم تمض عدة أيام حتى يثب الثاني مستعجلاً, وهو أيضا قد قارب الثمانين, والمسألة كانت بلا ريب مقبولة في زمنها اجتماعياً, ولكن شيخنا الشبيبي يرصد الأحداث من موقع سبق فيه عصره -على ما نرى- ويسجل لنا:
أتاك الصاهل الثاني  ****عقيب الصاهل الأول
كلا الطرفين لم   يعثر **وإن خب على الجندل
ولكن طرفنا استعصى**على السائس فاسترسل
أردنا   منه     إمهالاً ***على الوثبة فاستعجل!
"وجاء الصاهل الثالث, ولم تصل إلينا أبياته, ونحن أعرضنا عن ذكر الأسماء إجلالاً واحتراماً لهم , لأن مفاهيم زماننا غير مفاهيم زمانهم , ولا تستطيع القياس على اعتبار أن  ( لكل زمان دولة ورجال) وشاعرية الشبيبي الكبير نظرت إليهم من موقع متقدم وهذه هي ميزة العباقرة ولما تزوج صاحبه الجليل الرابع فقال:
أتاك الصاهل الرابع ****فهن الشرع والشارع
ثمانون     لعشرين *** فأين (القدر الجامع)؟!
و(القدر الجامع) استعارة تشبيهية جميلة ورائعة عن الناموس الذي يبني العلماء والفقهاء عليه تشريعهم, ونختم قضية الزواج وصواهله بمطلع قصيدة للشيخ:
صواهل ما بلغن مدى الرهان **** فدى لك أول منها وثان!
والشيخ الشبيبي لا يكتفي بالشعر, فلا تمر عليه أي شاردة أو واردة, إلا ولها مجيب كما ذكرنا, قال له أحد أصدقائه: لا تنس إنك ولدت سنة ولادة الشيخ مرتضى الأنصاري, فقال: وأي شيء في ذلك؟ قال: إن تاريخ وفاته بحساب الجمل (ظهر الفساد) , فقال له : وأنت فيما أعلم من الذين ولدوا في ذلك التاريخ , قال: لا, بل ولدت انا قبل وفاته بأربع سنين , فقال: تاريخ ولادتك (ظهر الفسا) بحذف الدال الذي يساوي حسابها أربعه وكسر الفاء, وكان الله في عون صاحبنا (الصديق) على رد شيخنا الحاسم العاجل, أما قضية الهريسة والسمك , فلها شأن إذ تهافت الحضور على مد الأيدي في دعوة أقامها الشيخ أحمد بن الشيخ علي كاشف الغطاء, وكان من بين الحضور الشيخ الشبيبي, وشاعرنا الكبير عجز على مجاراتهم في التشابك والتزاحم, وشعر الشيخ أحمد التقصير تجاه الشيخ الشبيبي, فسأله في المجلس الذي يقتعده الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء, عما يجب ان يأكل من طعام؟ وعمن يريد ان يدعوه معه يوم الأربعاء المقبل؟ فأطرق الشبيبي دقائق ليستلهم الإبداع ويتخيل المجلس المهروس , والسمك المجلود, ويتأمل في حركات شخوصه ثم رفع رأسه وقال مايشبه الارتجال:
يامن لذاتك بيت من علا سمكا ****** صيرغدائي غداة (الأربعا)  سمكا
وخصني  فيه  فردا لا يشاركني ** سواك, فالنفس تأبى الشرك والشركا
أما اعتبرت بهم يوم الهريسة  مذ****** ألقوا  أناملهم  من فوقها  شبكا
قالوا   لنا سرر ( البني) نقسمها *********ما  بيننا والبقايا والجلود لكا
سمك (البني ),هو من أفضل الأسماك في منطقة الفرات الأوسط ,وموضع السرة منه من أطيب المواضع أكلا ,ولا اعتقد تفوت القارىء الكريم ,  ما للأبيات من أبعاد أجتماعية في ضرورة احترام أداب المائدة , وإلا فعند البطون  ,تعمى العيون ,ولكم ما تشتهون !!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-نقباء البشر: أغا بزر الطهراني ج1, ص337-338.
2- حركة الشعر في النجف: الدكتور عبد الصاحب الموسوي ص118, دار الزهراء بيروت1988
3-هكذا عرفتهم : جعفر الخليلي ج1 ص75.
4- حركة الشعر.., المصدر السابق ص117.
5- الأدب في صحافة العراق منذ بداية القرن العشرين : الدكتور عناد اسماعيل الكبيسي, مطبعة النعمان في النجف عام 1972 ص33.
6- الشبيبي في شبابه.. الشيخ محمد رضا : علي عبد شناوة ص23, دار كوفان 1995, رسالة ماجستير.
7- يذكر الشيخ أغا بزرك في نقباء البشر, ص1070, يرع براعة لفتت اليه أنظار الشيوخ وهو شاب, فظهر بنبوغه وعبقريته, فقد نظم الشعر في الرابعة عشرة من عمره ونمت موهبته بعد هجرته للنجف.
8- أدب الطف : السيد جواد شبر, ج1 ص95-96.
9- قدم حمود الحمادي رسالة ماجستير عن الشيخ محمد جواد الشبيبي وشعره الى جامعة عين شمس بالقاهرة, نشرها في كتاب مستقبل بعنوان (الشبيبي الكيبر) الشيخ محمد جواد الشبيبي حياته - أدبه, وذلك عام 1972 ب(567) صفحة.
10- راجع أدب الطف, المصدر السابق, (وهكذا عرفتهم) يرويها بشكل اخر فيه اختلاف قليل, ج1ص255.
11- راجع ديوان (سحر بابل وسجع البلابل)\ السيد جعفر الحلي.. ص242-244 الطبعة الثانية بيروت 1988

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=59131
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 03 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5