▫قبل أن يتناها جرس الحصة الأخيرة إلى مسمعي لملمت ما على الطاولة من أوراق بعدما انتهين تلميذات الصف الثاني الابتدائي من كتابة الواجب ، هممت بالخروج من الصف إلا أن أحداهن أستوقفتني منادية عليَّ :
🔸معلمتي هذهِ ورقتي للتو تممت
نظرة إليها متسائلة :
🔹لمَ تأخرتي هل كنتِ تغشين ؟!
أطرقت برأسها نحو الأرض وغرتها السوداء كانت تتدلى على جبينها وبفمها الصغير اجابت
🔸كلا لكني احتجت إلى ورقة اخرى فأخذتها من دفتر زميلتي وللتو انتهيت
🔹لا تفعليها مرة اخرى!
وسحبت الورقة من بين يديها الصغيرتين ودسستها بين باقي الأوراق ..
▫في المساء دلفت إلى حجرتي افترشت أوراق التلميذات وبدأت أعطي العلامات بقلمي.. كوب الشاي الساخن كان يدفئ أوصالي وأنا أواصل قراءة ما كتبن الصغيرات.. بينما أنا أتابع وضع العلامات أستوقفتني عبارة مكتوبة في صدر الورقة
( رسالـــة إلى أبي ..).
شدني للوهلة الأولى العنوان وبشغف رحت أتابع ما قد كتب بخط متعرج إنها خربشات الطفولة وبراءتها قد سطرت..
▫( يا الله أني أشتقت إلى أبي كثيراً.. قد رحل إليك منذ ستة أشهر أمي أخبرتني أنه رحل بسفر إليك فمتى يعود؟؟
كل الفتيات يتحدثن أن أبيها أشترى لها لعبتها المفضلة وقد واعدها أذا حصلت على علامة عالية في الامتحان بمكافئتها وسيذهبون جميعاً في نزهة إلى الحديقة..
أما أنا أمي مازالت تقول لي كلما طلبت منها أن تشتري لي شيئاً تقول لا املك نقوداً فلما لا يرجع أبي كي يعطينا نقوداً أنا أتذكر إنها في جيب بنطالة الأسود عندما رحل إليك ..
أرجوك يا الله أسمح له بالعودة فنحن كل ليلة لا نملك ثمن العشاء فأنام جائعة وحجرتنا تلك الباردة خافتة الأنوار قد افترشتها أمي بحصيرة قديمة قد باعت كل أثاث المنزل في سبيل أن لا نموت جوعاً وبرداً .. وتحضننا أنا وأخي الصغير وننام بعد أن تطمئننا بان أبي بخير وأنه بجوارك لكنني رأيتها أحياناً تبكي كلما ألحنا بالسؤال فأرجوك يا الله أرجعهُ ألينا فأنا وأمي وأخي الصغير مشتاقون أليه وسأعدك إن أرجعته إلينا بأني لا أسرق ورقة الرسالة تلك من دفتر زميلتي مرة أخرى ..أرجوك يا ربي أسمح لأبي أن يستلم رسالتي من معلمتي ).
▫بقيت للحظات صامتة أحدق بما سطرت تلك الأنامل البريئة وثمة غصة في صدري فتشت عن اسم التلميذة فلم أجدهُ ،
حزمت جميع الأوراق وعزلت تلك الورقة عن الأخريات انتفضت من مكاني وفتحت نافذة غرفتي قليلاً مشدوه البال عزلاء ..
السماء تتلبد بالغيوم ..ويعصف بي صوت يخرق أعصابي المتعبة ها هو المطر يغافلني و ينقض عليَّ بوابل من الدموع .. كيف أعبئ ماء السماء كله في قلبٍ فاض بهِ الشجن..أ كل هذا المطر الذاهب صوب عروق الأرض لا يكفي لإطفاء نار قلب صغير؟!!
ماذا عن من سكن الخيام وأفترش العراء ماذا عن من لا يملك معطفاً أو مظلة للأحتماء منك يامطر.. ماذا عن تلك الطفلة الآن ياترى منزلها القديم المتداعي الأركان وملابسها المتهرئة تلك هل يقويان عليك يامطر ..؟!
للحظات صمت في أفكاري بقيت أصغي لوقع المطر تنثر كل حبة منهُ رذاذ السقوط فيغرق سكون ليل مدينتي .. ها هو الجسد المتعب يتوق لسكون الروح فيفرض عليهِ هدهدة النعاس ..
الصباح التالي كان وجهة المكان مغتسلاً أفقتُ باكراً تنفست بعمق وأنا أنظر للشمس تولد في يومٍ جديد.. وكالعادة أشيائي المبعثرة ألملمها كراسات التلميذات أجهزها وأشرب كوب القهوة الساخن وأمضي مسرعة.
هيئة المعلمة المهابة كان شيئاً معتاداً لي ، نظرت أليهن وعيونهن كانت ترنو على مافي يدي وبدأت أذيع أسماء الواحدة تلو الأخرى حتى أنتهيت وبقيت الورقة الأخيرة ذات الأسم المجهول بحوزتي ، أحداهن أقتربت مني هامسة
🔸 معلمتي هل ذهبت رسالتي إلى بابا ؟؟
سكتُ لبرهة قليلة وعلمت في نفسي إنها صاحبة الرسالة زهراء..
حدقت في عينيها ملامح البؤس واضحة على محياها قميصها الأبيض فاقد للونهِ الناصع ذو سمرة تشبه لون حنطة الفقراء وثمة شق ما قد رقع وحذائها يعلوهُ ثقب قد بانَ من خلالهِ أصبعها ، أخفيت دمعة كادت تفلت من محجري ومسكت بيديها الصغيرتين الطريتين وقلت لها
🔹 أطمئني حبيبتي زهراء لكن لمَّ لم تذكري اسمك ؟؟!
🔸قالت وبكل براءة لأن أمي قالت أن الله يعرف جيداً اسمائنا وأنه يعرفني ويعرف أبي ..
وسالت الدموع من عينيها كقطرات شموع بيضاء على خدها الأسيل..
جرس الحصة الأخيرة يقرع وهممنا الصغيرات بالخروج كفراشات بأبهى حلة الحياة ..
أفلتت يدها من يدي ومسحت دموعها بكمها وهرولت نحو صديقاتها ومضين...همسة : رسالة إلى أبي ..هي رسالة لكل أنسان يقظ الضمير وما زالت الأنسانية تنبض بعروقه ..
أنموذج بسيط يطرح أمامنا في أن التيتم قد يخلف ورائه ألم وحرمان ؛ يمكننا أن نكون بلسم لتزهر فيهم الحياة، مد يد العون لليتيم هو جواب رسالة كل يتيم..
قال تعالى (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }/ المزمل20
بقلم الكاتبة / (غفران عبد الكريم) |