سأبدأ حكايتي من قصة حبي لفتاة في الكلية وقد أغرمت بها حقا .
في طلب من خالتها الطبيبة البرجوازية ذهبت لمقابلتها .
وما أن رأتني حتى انهالت علي تقريعا
من جملة ماقالته ولن انساه أبدا
- إبحثوا عن مستقبلكم ،إحصلوا على وظيفة تعينون بها ذويكم لكي تعيشوا ، لا ان تحبوا -
أدبا فقط ، لم أنبس ببنت شفة ، وانسحبت ، مثل هؤلاء المخلوقات لا تميز بين الوضاعة والتواضع ، ويبدو ان بنت أختها - الحبيبة - نقلت لها عني وصفا غير دقيق بسبب ميولي الماركسية حينها ، وتألمت ولا زلت أشعر بمرارة تلك اللحظة لسبب بسيط هو : ان هذه الطبيبة المسكينة كانت تتصور أن حبي للفقراء والشغيلة والكادحين لأنني منهم وفقير الحال ، وربما تعتقد انني أسكن في صريفة ، وبالرغم من توجه هذه الأسرة العلماني والماركسي والتقدمي !!! على وفق إدعائها ، فقد كانت تزدري البسطاء والكادحين لكنها لاتعلم اني أسكن في بيت لا تستطيع السكن بمثله ، وفي منطقة عصية عليها ، وفي شارع برجوازي تتمناه حتما ، لكنه لا يشجيني سوى بالقدر الذي يعد ملاذا لي .
لا أقول هذا مفتخرا بسكني في هذا الشارع لأنني أحترم الفقراء والكادحين والشغيلة وأي انسان لمجرد انه انسان ، ويتمتع بمقومات الأنسنة وليس البشرية فقط ، البيوت بساكنيها وليس بمظهرها وزخرفها .
هذا الشارع هو شارع 21 في راغبة خاتون ويصار إليه من تخطي النادي الأولمبي سابقا باتجاه السدة - سدة ناظم باشا - على اليمين بستان نخيل اما الدور فتقع على يسار الشارع وهي عرصات وكان البستان ينتهي عند كلية الآداب . ومستوصف صغير يسمى - مبرّة الملكة عالية - هذا في عام 1959
أسال الطبيبة التي كانت تدعي نصرة الكادحين والشغيلة والمظلومين :
هل لمست صابون ؟ وما أدراك ما صابون .
في الشارع الموازي لشارعنا كنت أرقب رأس حصان محنط في دار مكتوب على بابه إسم ( سامي عبد القادر ) وبعد مدة من الزمن صادقت وزاملت إبنه ( محمود ) .
سالت محمود مرة عن سر رأس الحصان المحنط ، فدعاني لدخول داره وقابلت والده ( سامي عبد القادر) الذي كان مرافقا للمرحوم الملك ( غازي ) ملك العراق وحكى لي قصة هذا الحصان الأثير لدى الملك غازي الذي اسمه (صابون ) والذ ي اشتراه ( سامي ) بعدما أحيل الحصان على التقاعد .
في الشارع الموازي لشارعنا والذي يقابل بستان النخيل أتذكر يا دكتورة يا كادحة بيت جارتي الشاعرة العراقية الكبيرة ( لميعة عباس عمارة ) ولم تكن علاقتي بهم كجيران بقدر علاقتي بها كشاعرة ، هنا أرتل لها بعض ماتقوله الشاعرة لميعة ولعله مناسب في موضعه :
أساطير نمقها الخادعون
و أشباح موتى تجوب القرون
لتخنق أجمل أحلامنا
جار آخر أصبح محاميا اسمه ( صباح ) ويكنى - صباح لا ستيكه - ومبعث هذه التسمية انه كان حامي هدف يتمطى رشاقة .
على باب البيت المطل على الركن نقرأ اسم - ناجي طالب - وناجي طالب غني عن التعريف وزير الخارجية ، ورئيس الوزراء العراقي في العصر الجمهوري ، والعسكري المعروف في العهد الملكي ، وأولاده زملاء أخوتي الأصغر مني سنا ، ومن طريف ما يذكر ان الحماية في باب داره عبارة عن شرطي واحد من الممكن ان يموت بسد فتحات أنفه ، ولم يشعرنا هذا الرجل السياسي ، هو أو أولاده بأنهم جزء من سلطة البلد ،و سارع أحد أولاده لشراء قاموس - وبستر - لي من كلية بغداد حيث كان طالبا فيها ، ورفض أخذ ثمنه ، وكثيرا ما كان يصار إلى تشخيص المنطقة فيقال : قرب بيت ناجي طالب . وهناك شاخص آخر هو قول الناس : خلف ( أسواق زهير) وأسواق زهير هذه عبارة مخزن متقدم حضاري وليس دكان عادي وقلما نجد مثله اليوم بعد خمسين عام لا سيما في المحافظات . والد السيد زهير لبناني الأصل قدم العراق ويحمل أفكارا جديدة لم يعتدها المجتمع العراقي ، ففي هذا المخزن على سبيل المثال يباع الـ - بتي فور - وهو من صنعهم في حين كان الشائع ( الكيك ) في المناطق المتحضرة و( البسكت ) ويبقى الكعك هو الأشهر ولعله الألذ لاسيما إذا كان ( كعك السيد ) .
الركن الثاني هو دار عدنان عبد الله عوني وهذه الدار من تصميم أخيه المهندس المعماري المعروف ( قحطان عبد الله عوني ) ومن الملفت للنظرانه على امتداد شارعنا كان ينتصب بيت مهندس معماري آخر شهير هو ( هشام منير ) .
عدنان عوني كان ميالا للفكر القومي أو البعثي ،وبالرغم من ذاك أعدم زمن النظام السابق ، ونجهل حقيقة إعدامه وما بين فكرة الموت التي اتشحت بها هذه الدار وفكرة الولادة ، ولادة الحب الطفولي ، المراهقي ، الذي يتمرد في البيت المجاور أقول : لا أذكر من كان يسكنه لكني أتذكر مربية الأطفال الفاتنة التي عمرها يكبرني بسنة أو سنتين ، كان أترابي في الشارع يتنابون على ( الخفارة ) قدام باب هذه الدار وليست الخفارة لحمايتها مثلا ، لا ، لكن محاولة الوصول لقلب الفاتنة ، مربية الأطفال .
لم أكن أتجرأ سلوك مسلكهم ، لكن المفاجأة التي حصلت لي يوما وعند عودتي من الإعدادية ( إعدادية الأعظمية للبنين ) ، وفي أثناء مروري قدام الدار، قذفت بباقة زهرفي داخلها زجاجة عطر صغيرة ، وبقيت ذلك اليوم مرتعدا مرتجفا ، المرة الأولى التي أكون بموقف مثل هذا ، والخوف كل الخوف أن يسمع أبي لأنه سينهال علي ضربا ولا يتوانى عن ( الجلاليق) .
البيت الملاصق تماما لبيتي تسكن فيه إمراتان جليلتان ولم يشاهد رجل في الدار لكن القطعة على الباب تقول : ( عبد العزيز الدوري ) وعبد العزيز الدوري غني عن التعريف رئيس جامعة بغداد ، والمؤرخ العربي المعروف .
الدار المقابل لداري تماما دار مدير الشرطة - ق - والذي لا أستطيع نسيان فضله ، وفي عنقي دين له ماحييت .
في عام 1965 كان لزاما ان أحصل على شهادة الجنسية العراقية ، ولما كنت عاجزا عن الإشتباك مع الناس ، وتحمل الإهانات ، والـ ( صوندات ) من أجل الحصول على ورقة باغية ، توجهت الى زوجته مديرة المدرسة الصارمة ، وأخبرتها ان يوم بعد غد هو آخر يوم يقبل فيه التقديم لجامعة بغداد ، وسأخسر مقعدي لعدم امتلاكي شهادة الجنسية العراقية ، فقالت : إمسح دموعك غدا تحصل عليها - وشحده ميسويهه - صباح اليوم الثاني أركبني الرجل بسيارة الشرطة العتيقة - طبعا سائق دون حماية - .
في مديرية الشرطة أين يصدرون شهادة الجنسية ، وبكل إحترام دخلت معه ، والتحيات ( تتراكع ) يمنه ويسرة ، بينما بلا وساطة كانت الصوندات والمسبات تتراكع يمنه ويسرة وشمالا وجنوبا .
فوجئت بالسلام بينه وبين المدير الذي وفدنا عليه ، مجموعة ( فشار) وكلام من ( اللي يعجب ) ، و جاء الشاي ، قدم له أوراقي فتأملها المدير، وقال : (هذوله عجم بيت المعمار شلون أطلعله شهادة جنسية ) ، فرد عليه (بفشورة من اللي تعجب ) ، وخلال خمس دقائق كانت الشهادة بيدي .
الدار الأخرى المقابلة لداري هي دار الدكتور ( هاشم دوغره مجي ) والدكتور الدوغرمجي شخصية كوردية معروفة ، وإنسان غاية في التهذيب والأدب والرقة ، ومما لا أ نساه :
يوما وفد هم زائر ، همـّوا لاستقباله ، حدث هذا صدفة عند خروجي من داري وإصطدام عجلة دراجتي الهوائية بالباب الحديدي ، وإذا بشخصين يرافقانه يلتفتان إلي كالبرق ، وهو أيضا ، فقالت زوجة الدكتور هاشم للزائر المهيب الشكل : هذا سردار، فأراد مخاطبتي باللغة الكوردية ، فقالت : هو لايعرفها ، فأبدى استغرابه : أسردار ولا يتكلم الكوردية ؟ كان هذا الزائر هو: (الشيخ أحمد البارزاني ) ، ولا بد لي أن أذكر كيف كان العراق حديقة رحبة للأطياف كافة ، ولا فرق بين هذا من أية مدينة وذاك من أية مدينة والذي يميز المرء علمه وعمله .
الدليل على ذاك هو: ان إبنة الدكتور هاشم دوغرمجي ، وهي الدكتورة ( نسرين هاشم دوغرمجي ) قد تزوجت من الدكتور ( فاروق التكريتي ) الأستاذ في كلية الطب بجامعة بغداد .
ومن جميل ما أذكر مشهدا غريبا للدكتور فاروق رحمه الله وإبنه عمر:
يوم كان عمر طفلا وهو جالس بجنب الساقية في حديقة دارهم تلفت يمنة ويسرة ، هو خائف ، و مقدم على عمل ما ، لم يكن يعلم أنه مراقب من أبيه .
ماالفعلة التي يرومهاعمر؟ يريد إلتهام قطعة طين من الساقية ، ففوجئت بالدكتور فاروق يقول له: كلـْها ، كلـْها .
قلت : يادكتور ، أنتم معشر الأطباء تدعون الناس للنظافة ، فكيف تدعوه لإلتهام الطين .
جارنا الملاصق لبيتنا وهو حقا كما يسمى - جار العمر - هو دار ( عبد القادر السبتي ) وزوجه إبنه العالم الديني المعروف ( القيسي ) ولن أتكلم عن هذه العائلة التي كانت لنا أقرب من القريبة ،فذاك يحتاج إلى وقفة قد تطول .
لأ نتقل بضعة أمتار في الجهة نفسها ، لأصل بكم إلى بيت شخصية مهمة هو: الدكتور ( هاشم جواد ) وزير خارجية العراق ، والديبلوماسي المعروف في هيئة الأمم المتحدة والذي إغتيل في بيروت .
كان هاشم جواد يملك سيارة شخصية من نوع - شوفر ليت - وليست بحوزته سيارة حكومية وهو وزير خارجية وسياسي معروف على صعيد العالم - المضحك انني عندما كنت مديرا عاما كانت بحوزتي أربع سيارات هههههههههه - كذلك لاتوجد حماية في بابه سوى شرطي واحد تماما مثل جاري الذي نوهت سابقا السيد ( ناجي طالب) - ولتضحكوا مرة أخرى كانت حمايتي عندما كنت مديرا عاما بأي عدد أرغب ، وفي حادثة إغتيالي توفى منهم إثنان وقتل الثالث فيما بعد - .
حماية الدكتور هاشم ،الشرطي البسيط ، ساذج من الدرجة الأولى ، فقد رأيت خيطا يتدلى من صدغه ، خيط لولبي قذر ، معقود ، فقلت له :
ما هذا ؟ قال : طب عرب .
سألته : إن عرض نفسه على طبيب .
قال : ذهبت ولكنه لم يستطع علاجي .
أقول له الوجع في راسي ، وهو يريد زرقي بإبرة في ( عزّي ، شجاب الراس عل الجعب ) .
لأستمر إلى أمام إلى دار صديقي ( صلاح ) وحينما تعرفت على صلاح تعرفت إلى عمه ، الأستاذ ( سعدي عبد الكريم ) .
من الأستاذ ( سعدي ) تعرفت على أشياء مهمة في حياتي :
منها : تعرفت على شاعر له مستقبل باهر إ سمه : ( مظفر النواب ) ، ولأول مرة إطلعت على قصيدة ( الريل وحمد ) وحينها لم يكن يعرفها إلا النخبة والمولعين بالفكر الماركسي .
ومنه عرفت الأكثر عن الأستاذ ( يوسف العاني ) الشخصية الفنية الراقية ، في حين لم أكن أعرف سوى ( سعيد أفندي ) .
قبل أن أنتهي من الجانب الأيسر من شارعنا أشير إلى شخصية معروفة أخرى ( العقيد محمد سعيد السكران ) مدير شركة ( كوكا كولا ) والذي تعرض إلى الإعتقال والمساءلة على أساس انه من الفئات الماسونية .
كذلك في نهاية الشارع دار الدكتور ( وليد شوكت الخيالي ) الطبيب المعروف . ودار العسكري المعروف ( إسماعيل عنيفة ) ولقب عنيفة كما يقال جاءه لأنه أول من أسس في العراق قوات المغاويرأو الصاعقة ، والتي كان أسمها أولا ( الدورات العنيفة ) .
لأعود إلى يمين الشارع إلى بيت جارنا السيد ( جمال بابان ) ومن أولاده من أترابي هو : شوان جمال بابان . ويجاوره دار زوج أخته السيد ( نافذ جلال ) الشخصية الكوردية المعروفة والمقربة إلى القائد الكوردي التاريخي ( الملا مصطفى البرزاني ) ، وقد أستوزر السيد نافذ جلال بعد إتفاقية آذار ، وأغتيل في حادث غامض ، ومما أذكره ولده الصغير حينئذ ( نوزاد ) الصبي الوسيم ، ولا أعرف عنهم الآن أي معلومات ، بالرغم من علاقتي الوطيدة مع ( شوان )
.
هناك شخصية مهمة في تاريخ العراق السياسي ، أخشى عدم قبول ذكر الإسم ، لكني أقول : أنه كان يوما وزيرا ، وهو أستاذ جامعي أظن ان تخصصه
( الإيكولوجي ) ، ولكنني أذكره ، والله يشهد ، لأن هذه العائلة كانت تتمتع بصون حقوق الجار ، وتتبع قول الرسول الكريم : جارك ثم جارك ثم أخاك .
لم أتطرق إلى بقية جيراني الأحبة جميعا ، ولهم منزلة ومكان في القلب والروح ، لكني أود أن أشير إلى ان هذا الشارع كان يضم أطيافا من البصرة والناصرية والعمارة وراوة والحلة وتكريت وأربيل والسليمانية والدور وبغداد ، وعشت فيه لأكثر من ثلاثين عاما ولم أسمع أن جارا إعتدى على جاره أو أساء إليه أبدا .هكذا كان حال العراقيين .
* الأسماء الواردة كلها أسماء حقيقية ، والحوادث حقيقية ، وإذا كان هناك ثمة خطأ بسبب النسيان وغير متعمد ، أرجو تصحيحه إن وجد
|