صفحة الكاتب : عقيل العبود

شحوب الفجر/ قصة قصيرة 
عقيل العبود

  الليل كما يبدو كأنه على وشك ان يغلق آخر بوابة من بوابات رحلته المعتادة عبر ذلك الإمتداد الذي لا تحده فواصل سوى تلك المساحة العائمة من فضاءات تمتزج الألوان فيها مع خطوط من الأشكال الهندسية من النجوم بسحر عجيب، لعله ذلك الإتساع الذي تحيط به العين المجردة يمضي مواكباً مشوار مسيرته مع أول ضوء من شحوب الفجر 
 
العم كامل، وهو في الستين من عمره،  بملامح وجهه السمراء المستديرة، وإطلالته الوقور، وخصلات شعره الأبيض، المتفاعلة مع هيبته التيتفرض محبته على الجميع، لم يعد تطيب له جلسات النهار المعتادة في مقهى الحاج ابو فاضل، وبخاصة بعد فقدان أبنه الوحيد في الحرب مع داعش 
فالصمت أخذ يلازمه والحزن منذ صلاة الفجر حتى آخر الليل، يتكئ على فراشه تارة، ويدخن السيجائر، ويحتسي الشاي تارة أخرى، ينصت إلى أفكاره رغم انصرافه عن قراءة الكتب، وكتابة المذكرات التي كان لها الأثر الإيجابي في حياته 
 
شهيته لتناول الطعام لم تكن كما كانت. لقد تغير كل شئ بالنسبة له بعد فقدانه ذلك الحضور الذي كان يملأ عليه جميع الأمكنة، والأزمنة 
 
المشاهد تلكَ لم تكن تفارق خياله، النظرات الهادئة والملامح الوديعة، ما زالت يسكن صداها مع صوت أم عدنان القابلة التي زفت له بشرى ولادة ابنه قبل خمسة وعشرين عامًا 
 
يومها راح يقفز من الفرح هاتفاً بأعلى صوته متجاوزاً حدود اتزانه المعهود، ليضم ولده الصغير الى صدره معبراً عن شكره وامتنانه لرب العالمين: 
-الحمد لله، كم انت كريم يا رب، كم أنت كريم.. 
 
سنوات بزهوها، وأحزانها، شريط من الأحداث والمفاجآت، عوالم من التجارب والعبر، تمشي بتعاقب سلس، تحكي فصول تحققها، مشاهد اختزلت معها حقبة من تاريخ العراق، لتندرج في إطار بضع دقائق من الزمن 
 
لقطات، تفاصيلها ارتبطت بحياة ذلك الشاب النحيف الهادئ، بطوله الممشوق، بابتسامته المعهودة، بسخائه، بقلبه الطيب، وعلاقاته الوديعة في البيت، والمدرسة، مع الأصدقاء، والمعلمين، والشارع والمحلة، والناس الذين أحبوه، وأحبهم 
 
شخصيته بقيت ملتصقة في أذهان أحبته بجميع مواقفها؛ الكبرياء، والتحدي، والشجاعة، والأمانة، والكرم، مفردات تتوزعها مفاهيم ما زالت تقتبس منها تلك الحكايات موضوعات لها إيقاع مقابل 
سيناريوهات اختطاف، وقتل، صور مروعة عن الموت والتفخيخ وترويع الضحايا، والحروب 
 
تفاصيل تتناغم فيها لغة الموت مع الحياة، وبالعكس، حكايات بنهاراتها، بلياليها، بشتاءاتها، بصيفها، ببردها، وحرها، بمرارتها، بحلاوتها، بأحزانها وأفراحها تتلى كما شريط سينمائي 
 
ومع التكرار تتغير المشاهد، بينما يفرض المشهد القديم خطوات أبجديته القاتمة 
يوم قال الأب لإبنه وهو يحثه على الزواج: 
-ستتزوج اللي ببالك يا ولدي 
ليرد عليه الإبن بلامبالاة 
-لم يعد الوقت مناسبًا ولا الظروف يا أبت 
 
لقد بقيت آثار تلك المحادثة مثل الجرس في ذاكرة العم كامل. كأنه يستعيد بها نبأ استشهاد ابنه مع زملائه ورفاقه 
 
الذكريات إحيانًا تشبه قطرات غزيرة من المطر، تتساقط بقوة كأنها تحمل أحزان أب لم يتحقق له ما يريد، لذلك بقي الرجل بقلب كسير مع كلماته التي غادرت مع نعش ولده الى المقبرة 
 
منذ ذلك الحين، الأيام صار يأكل بعضها بعضا، دون تغير في الحال، بينما فَرَضَ اليأس، وفقدان الأمل طوقاً من العزلة التامة على حياة العم كامل، حتى ان الشعور بمغادرة الدنيا صار شغله الشاغل ذلك بعد أن أرغمته حالة الملل الشديد التي تلازمت معها أعراض الإحساس بالتعب والإعياء على ملازمة البيت، والفراش 
 
ولكن ورغم ذلك، حيث عند بقايا زاوية قائمة من الذكرى، ثمة شئ يشده اليه، شئ من قبيل أمل بسيط، ضوء به يبصر ظلمة هذا النوع من الإنكسار، لعله 
يكمل رحلته مع ما تبقى له من سنوات عمره 
 
ربما هي صورة الشهيد، هذه التي بقيت تؤطر المكان المفروش ببعض قطع سوداء، وطاولة وُضِعَ فوقها القرآن، ومفاتيح الجنان، إضافة الى مجموعة كُتُب ومجلدات على الرف المجاور لدفتر المذكرات التي اعتاد استخدامه للكتابة قبل الحادثة 
 
أو لعله الفجر هذه المرة، تلك اللحظات التي اندلعت منها أخبار مشهد جديد، ومشاعر جديدة، وأفكار جديدة. لقد رأى الرجل في المنام ابنهبطلعته البهية، وبسيماء الأبطال يطل عليه 
 
لحظت ئذٍ، نهض نشيطا لأداء الشطر الأخير من صلاة الليل، تلاها بصلاة الفجر، مع تزايد الرغبة للخروج الى الشارع للقاء أصحابه 
 
-لقد مات ابني الوحيد، لكي تبقى صورته هكذا مثل منارة يجلس تحت ظلها الوافدون. قالها كأنه يعيد مواساة نفسه من جديد 
 
قوة غريبة جعلته ينهض من فراشه متجها بكل كيانه صوب صورة ابنه المؤطرة بالورد 
 
وقف أمامها، استنهضته تلك الرؤية متجها نحو نداء وقوفه امام تلك القبة الناصعة للإمام الحسين (ع) بصحبة الشهيد الذي كان كأنما يعود الى الحياة بهيبة جديدة، تطلع مرة اخرى الى زرقة عينيه وهدوئه 
 
ورغم أنّه كان يشكو من عدم قدرة ساقه اليمنى على الوقوف، ظلّ مبتسماً، متطلعاً إليه مرةً اخرى. ابتسامته هي نفسها تلك الخطوط المشعة بالأمل رغم ذلك الإجهاد الذي كان يرتسم على تلك الملامح 
 
-الموت والاستشهاد هذه الأيام هما الغالبان، قالها الأب بعد تأمل متجاوزاً حواجز محنته ، حتى راح مسترسلاً كأنه يحث نفسه مرة أخرى لكتابة ألغاز عصر إمتلات مشاهده بالوحدة، والحزن، والفراق 
انداحت أمام بصيرته بعض المشاهد بشكل متجدد: 
عباس، صديقه، هو الآخر اصبح عاجزاً عن الحركة، 
الجرحى والقتلى، أعدادهم تتزايد 
 
-الشباب وليس غيرهم،  هم من يدفعون ضريبة الشهادة هذه الأيام. قالها وِ~كأنه يكتشف شيئا مستوراً، وراح مستأنفاً يحاكي نفسه: 
 
-هي نفسها صور التوابيت وقوافل الموتى، ونحن كأنما نعيش من أجل ذكراهم، هؤلاء الذين يتساقطون كل يوم تباعا 
ثم اردف متسائلاً بعد لحظة صمت عميق: 
- كيف لنا ان نصنع أيقونة الحياة؟ 
-الحياة بمطباتها بقدر ما فيها من لحظات جميلة، يُفرَضُ فيها على المرء ان يعيش تعاستها، ومرارتها 
ترى، أما آن لهذا الإنسان أن يُخضِعَ هذا البؤس الذي يفرض عليه أثقال كوابيسه إلى إرادته، أما آن لهذا الكائن ان يصنع الأمل، أما آنلهذا الجبروت ان يكيف نفسه متحديا لغة القدر؟ 
-إذن. 
هتف كأنه يصنع قرارا لمواجهة طوق الحصار الذي ما انفك يفرض مخالبه، ليعطل حياته، وحياة غيره 
 
-سأذهب لزيارتهم اولئك الذين استشهدوا في الحرب، سأكتفي بتلك الشموع، وذلك الحضور ليبقى عطرهم حاضرا معي الى الأبد، سأحتفظ بعطرهم، وسأضع الشموع على تلك المائدة، سأحتفي بأعياد ميلادهم كل عام رغم ابتعادهم هذا الذي يفرض أطواق وحشته القاهرة. فالمشاهد هذه التي تعيش مع مشاعرنا في الأحلام، والذاكرة يجب ان نتعايش معها بعيدا عن مرارة الأقدار 
انبعثت تلك الأفكار من أعماق ذاته بيقين ثابت، كأنها تتفجر في نفسه كالبركان، لتصنع منه إنسانا آخر. لذلك قرر ان يستعيد نشاطهم تحالفا مع أفكاره بصحبة تلك الأوراق التي بقيت تبحث عن حروف، ليكتب عنوان روايته الجديدة.  
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عقيل العبود
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/08/27



كتابة تعليق لموضوع : شحوب الفجر/ قصة قصيرة 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net