صفحة الكاتب : عبير المنظور

الشيخ هادي الكربلائي "مصباحٌ أضاء ليالي كربلاء الحالكة"
عبير المنظور

   شمسٌ ساطعة في سماء المنبر الحسيني غزلت خيوطها الذهبية على دكّاته، وعزفت سيمفونيات الولاء الصافي لمحمد وال محمد بصوته الرخيم الشجي الذي عجن ارواحنا بالعقيدة الصادقة في حب اهل البيت عليهم السلام منذ الطفولة. 
 خطيبٌ مفوّهٌ بخطبه، جزيلٌ بلفظه، بليغٌ ببيانه، قويٌ بسرده، رائع بشعره، سريع ببديهته اثناء الخطابة فيربط كل حادث طارئ في المجلس ويصبّه في بوتقة كربلاء ليصهر ارواحنا بعظم المصاب. 
منبره عاشوراء مصغرة، بكل احداثها وحيثياتها واشخاصها وشخوصها ولوعتها وشجنها ومصارع اسودها ونشيج ثكلاها  
حتى صرخات رضيعها يتردد في الارجاء 
هنا وهناك مع انّات الشيخ هادي الكربلائي وهو يقرأ المصيبة بصوته الرخيم بشجي الاطوار لنهيم من خلالها في عوالم كربلاء الخفية وترجمتها الى خشوع وخضوع ودموع على شموع حاولوا ويحاولون اطفائها الا ان ضيائها شعّ على الخافقين وأضاءها بنور الايمان المتجدد على مر العصور. 
  ذلك الضياء الذي  أضاء الخافقين اقتبس منه الشيخ هادي الكثير الكثير حتى أُترع نوراً عكسه لنا من خلال منبره الواعي والمتجدد، 
ولا عجب في ذلك لانه رحمة الله عليه " أخذ الخطابة واتقن فنونها على الأديب الشهير الخطيب الشيخ محسن أبو الحب، واتصفت خطاباته بأنها جاذبة وملفتة لانتباه السامعين دون أن يدعهم يدخل الملل والضجر في نفوسهم، علاوة على مقدرته في معالجة أي موضوع يختاره لخطابته بتدرج سليم. 
وهذا يدل على مقدرته الكلامية ورصانة أسلوبه المنطقي، كما أن له مقدرة فائقة في أبكاء مستمعيه لمصاب سيد الشهداء الحسين عليه السلام."(١) كما انه ايضا "مجيد لمختلف الطرائق والأطوار المنبرية، وخصوصاً الطريقة الفائزية المشهورة، التي يتفاعل معها الجمهور، لا سيما الجماهير الحسينية في الخليج" (2). وما ذلك الا للارتباط الروحي الوثيق بين الشيخ هادي الكربلائي رحمه الله وبين اهل البيت عليهم السلام وخاصة الامام الحسين سلام الله عليه حيث التحمت روحه بحب الامام الحسين الذي عشعش في فؤاده ، ومن المعروف عن الشيخ هادي رحمه الله انه لم يقرأ مجالس العزاء الحسيني الا في كربلاء المقدسة رغم الدعوات الكثيرة التي وجهت اليه من داخل العراق وخارجه وبمبالغ مالية مغرية ولكنه كان يرفض معللا ذلك الرفض بانه يستلهم المدد في مجالسه  عند رؤيته لقبة الامام الحسين اثناء القراءة فكيف يقرأ التعزية بدون النظر الى القبة. 
هذا العشق الحسيني الصادق الذي استقر في جوانح وجوارح الشيخ هادي الكربلائي كالوهج الساطع الذي استقطب عامة الناس ليصهر ارواحهم ومشاعرهم في مصيبة الامام الحسين وفكر عاشوراء ليخرجهم من الظلمات الى النور، فكان بحق مصباحٌ اضاء مجالس كربلاء لعقود. 
 وبطبيعة الحال فان نور المصباح يتضاعف ويبرز نوره اكثر في الظلام، كذلك الحال في الشيخ هادي الكربلائي شعّ نور ضيائه اكثر بعد ان اكتست مدينة كربلاء بالعتمة بعد الانتفاضة الشعبانية التي عاش بعدها الكربلائيون محنة كبيرة بعد اغلاق الحرمين الشريفين  والشوارع الكربلائية ملأى بالجثث والدبابات منتشرة في كل مكان وانعدام الخدمات والانقطاع التام لمنظومة الكهرباء حينها، كان شيخنا الجليل في اواخر عمره الشريف آنذاك، ورغم تلك الظروف الصعبة كان يحمل مصباحه (الفانوس) ويقيم مجلسا حسينيا في منزله او بين الانقاض على ضياء ذلك المصباح الخافت واحايين اخرى يقيم المجلس عند رفيقه الحاج كاظم النداف في محل عمله، وهذا يفسر لنا الارتباط الروحي الوثيق بين الشيخ هادي وبين تلك المجالس التي يراها روضة من رياض الجنان فكان رحمة الله عليه مصداقا حقيقيا للمصباح الذي اضاء ليالي كربلاء الحالكة. 
 
الشيخ هادي الكربلائي شاعرا 
  وكما برع الشيخ هادي الكربلائي في الخطابة الحسينية وتسيّد على عرشها، وكان مصباحا مضيئا انار للموالين طريق الايمان بخطبه وعبّده لهم بالدمعة الواعية بنعيه ، برع ايضا في الشعر وكان مصباحا وقّادا فيه، فقد اجاد الشعر الفصيح والشعر الشعبي، وكذلك كان بارعا في كتابة الشعر باللغة الفارسية، اضافة الى موهبته الفذة في التشطير  والتخميس، والشعر الملمع باللغة العربية والفارسية، حتى انه كان كثيرا ما يستعين ويستشهد بشعره في مجالسه. 
وكتب الشيخ هادي الشعر في جميع اغراضه وسنقتطف بعضا من قصائده عن اهل البيت عليهم السلام، من قصيدة له في رثاء الامام الحسين سلام الله عليه : 
لست انسى الحسين حين تلقّى 
من عداه بالطف خطبا جسيما* 
 
طلبوا منه ان يبايع رجسا 
من بني حرب فاسقا وزنيما* 
 
فأبى السبط شاهرا لحسام 
فيه يسقي العدى شرابا حميما*
مرهفٌ فيه قد اباد الاعادي 
وعلى الكافرين صبّ الجحيما* 
 
ما سطى باسما على الخيل الا  
ترك الشوس في الرغام رميما* 
 
بعدما شاد للهدى  ما تداعى  
ووفى للاله عهدا قديما* 
 
خرّ قطب الوغى على الترب ظامي 
جسمه بالضبا جريحا كليما* 
 
فبكته السما هناك نجيعا 
وبها مأتم العزاء أقيما*
وبنات الهدى برزن حيارى  
تندب الندب والهمام الكريما* 
 
وأمام النساء حِلف الرزايا 
زينب من غدت تقاسي العظيما* 
 
تندب السبط والدموع هوامي  
ولظى الوجد في الفؤاد اقيما* 
 
حر قلبي لقلبها مذ رأته  
وبنو الشرك منه حزوا الكريما* 
 
يا اخي من ترى يذود الاعادي 
بعدكم من ترى يحامي اليتيما*(٣) 
   
 وله  ايضا راثيا الائمة الطاهرين عليهم السلام: 
كيف الامان من الزمان وغدره 
بادٍ لدى كل الورى لن يكتما* 
 
من بعد ما غدر الزمان بعترة 
المختار ترجو من زمانك تَسلما* 
 
كم جرّع المختار من اشجانه 
غصصا وهيّجت البتولة فاطما* 
 
كم كابدتْ بنت النبي من العدى 
غصبا وذلا ثم ضربا مؤلما* 
 
والمصطفى ما كان يدخل دارها 
ما لم يكن مستأذنا ومسلما* 
 
هجم العدو عليه يطلب وتره 
وببابه نار الضغائن اضرما* 
 
من حرقهم باب النبوة احرقوا 
يوم الطفوف من الحسين مخيّما* 
 
لو لم يُرضُّ من البتولة  ضلعها  
ما رضضوا لسليل طه اعظما* 
 
لو لم يقاد علي الكرار ما  
زين العباد مكبّلا قد اهضما* 
 
مهما رأت ال النبي بكربلا 
من جور أعداها ومن حرّ الظما* 
 
ما ذاك الا سالفٌ متقدّمٌ 
يوم السقيفة امره قد ابرما* 
 
يابن الغطارفة الاولى من هاشم 
من في وجودهم انجلى ليل العمى* 
 
انهض لثأرك ايها المُرجى له  
اعداؤكم كم منكمُ هدرتْ دما* 
 
تركتْ حسينا بالطفوف مجدلا 
جثمانه بشبا السيوف تخذّما*(٤) 
 
ومن قصيدة رائعة له: 
لو كان يبقى للمحب حبيبه  
ما عاد حيرانا سليل محمدِ* 
 
فقدَ الاحبة والحماة بكربلا 
وبقى فريدا لا يرى من منجدِ* 
 
لم أنسهُ لما رأى اهل الوفى 
صرعى على حر الثرى المتوقدِ* 
 
ناداهم يا اخوتي واحبتي 
شملي انثنى من بعدكم بتبددِ* 
 
قوموا انظروا ما حلّ بي من بعدكم 
ففراقكم يا اهل ودّي مُجهدي* 
 
قطعَ الرجا منهم وعاد مودّعا 
حرم المهيمن من عقائل احمدِ* 
 
فبرزن من حرم الاله لندبه 
ولهى بنعي موجع وتوّجدِ* 
 
وعليه درن صوارخا ونوادبا 
ولنعيها قد ذاب صم الجلمدِ* 
 
واشدها حرقا عقيلة حيدر 
تدعوا اخاها السبط من قلب صدي* 
 
من بعد فقدك يا حمانا ملجأ 
للحائرات ولليتامى الفقّد* 
 
من ذا ترى يحمي حماها ان غدت 
من ضرب أعداها تدافع باليدِ*(٥) 
 
وطلب منه شعر ينقش على حجرة الامام زين العابدين عليه السلام في المخيم: 
دع دموع العين تنهل دما 
هذه خيمة زين العابدين* 
 
ههنا مُلقى على النطع بقي 
والعدى جرّوه مغلول اليدين(٦) 
 
وقال رحمه الله مخمّساً: 
الله اكبر في العوالم ما جرى 
مذ طاح سبط محمد فوق الثرى  
ودعته زينب والفواطم حُسّرا 
أنعم جوابا يا حسين اما ترةى 
شمر الخنا بالسوط ألّم اضلعي(٧) 
 
اما شعره الشعبي فلا زال يتردد في مجالس العزاء حتى يومنا هذا ومن تلك القصائد الرائعة في الامام الحسين عليه السلام: 
يللي تناشدني عليمن تهمل العين 
كل البكا والنوح والحسرة على احسين(٨) 
 
وله ايضا وقد طلب منه نظم ابيات على قبر السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام بالشام  على ضريحها ولسان حالها شهر شعبان ١٣٩٤ للهجرة: 
يزوار انحبو وابجوا عليّه 
بنت حسين انه واسمي رقيه(٩) 
 
 ومن الالطاف الإلهية في شعر الشيخ هادي الكربلائي قصة لطيفة رواها لنا الشيخ علاء الكربلائي نجل الشيخ هادي الكربلائي وهي ان الشيخ هادي رأى في عالم الرؤيا انه يكتب ابياتا وهي:  
  (هتف الروح ونادى في السما 
   فاض محراب علي بالدما 
   يا ابا الفضل نعزيك بمن 
   سيفه البتار للدين حما) 
وبعد استيقاظه مباشرة كتب هذه الابيات لانه كان يحتفظ دائما بورقة وقلم ومسبحة في مخدته، وفي اليوم التالي رآه السيد محمد علي خير الدين واخبره بأنه رأى في عالم الرؤيا ان  الشيخ هادي يقرأ للإمام علي عليه السلام رغم تعجبه لان الشيخ هادي روزخون (قارئ او خطيب) وليس نوحخون (رادود) حسب تعبير العامة  آنذاك، وكانت ليلة ٢١ من شهر رمضان  ليلة شهادة امير المؤمنين وطلب من الشيخ هادي ان يقرأ ابياتا مصداقا لرؤيته، وفعلا قرأ الشيخ هادي هذه الابيات لأول مرة في مجلس الحاج رشيد الحميري الكائن في باب قبلة العباس عليه السلام،   واستمر الشيخ هادي بتكرار هذا المستهل كل عام، كما اكمل هذه الابيات ناصر اللحام وجعل  منها قصيدة كاملة مستهلها هي ذات الابيات التي رآها  الشيخ في منامه. 
 
هي تلك الالطاف الالهية التي شملت الشيخ هادي بعنايتها، وغمرته بمواهب متعددة استثمرها في خدمة محمد وال محمد عليهم السلام  لقوة ايمانه واخلاصه في الخدمة الحسينية بكل امكانياته وهباته المتعددة من خطابة رصينة وبأسلوب سلس يتناسب مع جميع المستويات الثقافية،  ونياحة شجية ومؤثرة في النعي الحسيني بأطوار متعددة عراقية
وخليجية اسالت الدموع من مآقينا حتى يومنا هذا ، وشعر ولائي رائع في مدح ورثاء اهل البيت عليهم السلام لا زال بعضها خالدا يتردد كثيرا في مآتم العزاء، فهو بحق مصباح يضيء لنا عتمة النفوس وينير الطريق الصحيح في تطبيق تعاليم الدين الحنيف ورسم معالم مسلك الخدمة الحسينية بشرطها وشروطها.

علي الخباز, [19/03/2023 04:17 ص]
الهوامش: 
(١)موسوعة كربلاء الحضارية، المحور التاريخي، ج10، ص144-145. 
(٢)معجم الخطباء، ج 2، ص 128-131. 
)٣)ديوان الشيخ هادي الخفاجي الكربلائي، ص٤٦-٤٧. 
(٤)المصدر السابق، ص٤٧-٤٨. 
(٥)العبور الى جهة القلب، هادي الكربلائي صوت الحزن ومرفأ الدمعة، نخبة من ادباء كربلاء، ص٢٠. 
(٦) ديوان الشيخ هادي الخفاجي الكربلائي، ص٧١. 
(٧) المصدر السابق، ص١٧٦. 
(٨)انظر المصدر السابق، ص١٩٤. 
(٩)راجع المصدر السابق، ص١٩٠.


 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبير المنظور
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/03/19



كتابة تعليق لموضوع : الشيخ هادي الكربلائي "مصباحٌ أضاء ليالي كربلاء الحالكة"
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net