ثمة مواقف تُعلَّق في ذاكرة الروح، لا تمر مرورًا عابرًا، بل تنقش في الوجدان درسًا خالدًا، تُرشدك إلى حكمة القدر، وتُعلّمك كيف تُصغي لرسائله بصبرٍ ويقين.
قبل أيام، وفي رحاب مكة، عزمنا على الإفطار في المسجد الحرام، وهناك بدأت رحلة البحث في دروب التجلّد، ومعركة الانتظار مع الزمن. المدينة تعجّ بالزائرين، ونحن لسنا قلة؛ عشرة أرواح تبحث عن وسيلة توصلها إلى مقصدها.
جلسنا على حافة الرصيف، نعدّ المركبات المارة كمن يحصي نبض الأمل، لكنها كانت تتلاشى كما يتلاشى السراب. ما إن يسمع السائق أننا نريد البيت العتيق، حتى ينطلق مبتعدًا؛ فمن ذا الذي يؤثر إفطاره على أن يكون قبطانًا لسفينتنا الصغيرة وسط بحر الزحام؟
طالت بنا الدقائق كأنها أعوام، حتى عثرنا أخيرًا على مركبة أجرة، فارتدت أرواحنا ثياب البهجة، وقلنا: المهم أن نصل، حتى وإن كانت المساحة ضيقة. صعدنا إليها، فكان الصغار فوق الكبار، كأننا شجرة تتسلق أغصانها بعضها بعضًا. عندها، ارتسمت الدهشة على وجه السائق، وقال متوجسًا:
“هذا العدد سيجلب لي مخالفة!”
قلنا له: “لك أن تتوقف إن شئت، فلا نريد أن نحمّلك ما لا تطيق.” لكنه اختار الصمت، وواصل المسير.
وحين لاحت لنا أنوار المسجد الحرام، أزهرت أرواحنا، ورفرفت أفئدتنا كطيور وجدت مأواها. لكن ما كاد السرور يتمّ، حتى وقع ما أفسد فرحتنا، واضطررنا للعودة إلى الفندق. سألناه أن يعيدنا لاحقًا، لكنه رفض، وتركنا نعود إلى دوّامة الترقب من جديد.
كان الأذان يقترب، وملامحنا تتلحف بثياب القلق مجددًا. توقفت مركبات عدة، لكن جميعها كانت تسير بنا إلى الخيبة. نظرنا إلى الزمن كمن ينظر إلى قدرٍ معلّق، وبدأنا نتذمر، كأنما الصبر غادر قلوبنا، وتركها للضيق والهواجس. فهذه عادة البشر، لا يكادون يبرؤون منها.
وفجأة، بعد أن كاد الرجاء يخذلنا، توقّف أمامنا باصٌ كبير، كأنه سفينة نجاة في بحر العطش! ركضنا إليه بلهفة الأطفال حين يُبشَّرون بعيدية العيد، وحينها التفتُّ إلى أختي وقلت:
“عِوَضُ الله سيكون كذلك.”
كم مرةٍ نظن أننا بلغنا أبواب الراحة، فنعود أدراجنا، ونتألم من وطأة الانتظار؟ كم مرةٍ يحرقنا الترقب، فنبكي، ونيأس، ثم يأتي الله بالعوض أعظم مما ظننا، وأكبر مما طلبنا؟
الحياة لا تمنحك ما تريد عند أول الطرق، بل تختبر جلدك، وتطلب منك أن تسعى. لن تصل بالثبات وحده، إن لم تسعَ بكل ما فيك. تذكّر دائمًا: أنت مسؤول عن الجهد، لا النتيجة. ابذل، وادعُ، وثابر، ثم اترك باب الإجابة لمن لا يُغلق بابه، ولا يردّ من طرقه.
كن على يقين، وارْضَ.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat