ساقتني الصدفة في يوم من أيام صيف عام 1991 للتجوال في شارع السعدون ببغداد ، وانعطفت منه الى شارع متفرع عنه لم أكن أعرف حينها ان اسمه (الشارع المشجّر) رغم خلوّه من الاشجار إلا قليلاً ، وحيث كانت عيوني تتنقل على المَحالّ المصفوفة على جانبيه لمحت إحداها وقد كتب عليه (قاعة الخط العربي) ، كانت واجهته التي لا تزيد على الاربعة أمتار كلها من الزجاج ، فاخترقته بنظرتي بحثا عن معنى لهذا العنوان وإذا بجدرانه الداخلية قد ملئت بلوحات حروفية تشكيلية وضعت عليه بأناقة بالغة . لم أتوانَ في الانعطاف والدخول للتفرج على اللوحات عن كثب ، ولم يكن في الداخل غير رجل في الخمسينيات من عمره متوسط الطول ذو لحية غلب عليها بياض المشيب فزادت وجهه الابيض إشراقا ونُضرة ، كان الرجل يرتدي قميصاً بكُمٍّ قصير .
ابتدرته بالسلام : السلام عليكم
فأجابني بتودد : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
قلت في نفسي هذه واحدة ، اذ لم يكن رد التحية في بغداد بهذه الصيغة متداولاً تلك الايام .
أردفت مستأذناً : أتسمح لي بالتفرّج ؟
فأجابني على الفور : أنا خادم ، تفضل .
وكانت هذه الثانية ، فلم أتوقع سماع هذا التعبير في مثل هذه المكان.
أخذت أتجول وأتفحص اللوحات بتأنٍّ كبير ، فاستغرق تجوالي وقتا ربما زاد على النصف ساعة ، عرفت اثناء مشاهدتي للوحات ومن التواقيع التي وضعت في زواياها أن صاحب هذه اللوحات أسمه خليل الزهاوي ، انه الخطاط والفنان العالمي الشهير ذو الاسلوب الحروفي المميز .
جلس الرجل خلف مكتبه الصغير الذي ركنه في زاوية قاعته الصغيرة ، وراح يراقبني باهتمام .
ما أن انتهيت من جولتي حتى وجدته ينهض من مقعده ويتجه صوبي ، فبادرته بسؤالي : هل انت صوفي ؟
قال لي بتعجب : وكيف عرفت ؟
أجبته : لوحاتك طافحة بالتصوّف .
قال : نعم ، أنا شيخ الطريقة الصوفية ، ولوحاتي كلها شطحات .
عندها طلب مني الجلوس ، وقدم لي قدحا من الماء.
سألني : ما رأيك في التصوف ؟
قلت له : رأيي لا يوجب علماً ولا عملاً .
فأصرّ عليّ : لا بد ان يكون لك رأي فيه.
قلت : إن كان معنى التصوف التفرغ لعبادة الله وإخلاص الطاعة له ، والزهد رغبة في ثوابه ، فذلك مستحب ، بل ربما وجب على العبد ، أما لو كان معناه خزعبلات وافعال غريبة ، فلا يمتُّ ذلك للاسلام بصلة.
أطرق لجوابي ، ثم قال : إذاً عندك رأي في التصوف !
قلت له : لكنه لا يوجب علماً ولا عملاً .
سألني : من أين أنت ؟
قلت له : من الحلة .
قال : الحلة والنجف عاصمتا الاسلام .
سألني أيضا : هل انت شيعي أم إمامي أم جعفري أم إثنا عشري ؟
قلت له : انا شعيي إمامي جعفري إثنا عشري .
فشعرت ان جوابي فاجأه ، ما جعله يعقب متعجباً : وكيف؟
قلت له : انت سألتني بمفاهيم كلها ذات معنى واحد .
جرّأتني بساطته أن أطلب منه : هل تعلّمني الخط ؟
قال دون تردد : أنا خادم ، سأعلمك مجاناً ، الحرف بعشر حسنات ، ويضاعف الله لم يشاء ، أخصص لك يومي السبت والاربعاء تأتيني فيهما الساعة السادسة الى السابعة عصراً . إشترِ أنت ورق الآرت ، وسأوفر لك الحبر والقصب .
قال : أي خط تريد ان تتعلم؟
قلت له : خط التعليق (الذي يسميه البعض بالخط الفارسي أيضا).
قال : اختيارك صحيح لان في خط التعليق أسراراً لا تكتشفها إلا أن يدلك عليها استاذ.
فسرّني أنني حصلت منه على ما لم أكن أحلم به ، أو أخطط له .
توجهت في صباح اليوم التالي الى شارع المتنبي لاشتري الورق الذي أرشدني إليه ، قال انه ورق لمّاع أملس لا يمتص الحبر ، فيسمح للقصبة بالتحرك بسلاسة عليه وتحتفظ بالحبر مدة أطول . لكني لم أظفر ببغيتي ، فقد أخبرني باعة الورق ان هذا النوع لا يباع بكميات قليلة ، إنما يبيعونه الى المطابع على شكل رزم بأحجام وكميات كبيرة ، ولم تكن ثمة جدوى ولا لي قدرة مالية على شراء هذه الكمية .
فلما حلّ عصر يوم السبت وصلت عند الحاج الزهاوي خالي اليدين . فرحب بي وأجلسني في مكان خصّصه لتلميذ واحد فقط ، وسألني : أين الورق؟
قلت له والخجل يكللني : لم أحصل على الكمية التي أحتاجها ، إنهم يبعونه بكميات كبيرة وحسب ، هل أستطيع استخدام ورقٍ عادي ؟
قال لي بتودد وهو يناولني رزمة من ورق الآرت : خُذ من عمّك خليل ، الورق والحبر والقصب كلها مني .
أعطاني علبة حبر صيني صنعه بنفسه وقد وضع في جوفها جلفة من قماش خاص ، كما أعطاني قصبة براها بمهارة بالغة.
قررت السكن قريبا منه ، فاستأجرت غرفة من بيت يسكنه مصريون يصنعون الزجاجيات في أقصى الشارع المشجّر . لم يكن في الغرفة غير سرير من حديد يعلوه فراش اسفنجي حقير وطاولة صغيرة ، ولم أحتج الى أكثر من ذلك .
التزمت بمواعيد الدرس ، وبأداء الفروض التي كان يكلفني بها ، إذ كان يكتب الحرف في أعلى الورقة ، ويقول لي : اكتب مثله مائة وسأكون ممنوناً.
في يوم الاربعاء لم يكن اهتمامه بي كما في يوم السبت ، فقد كان طيلة الوقت يمسك كتاباً ذا ورق أسمر من الحجم المتوسط ويطالع فيه كمن يحفظ عنه عن ظهر قلب ، فسألته في الاربعاء الثاني عن ذلك فأجابني ، بأنه يعد خطبة الجمعة ليؤم المصلين بها في مسجد بخانقين يذهب إليه كل اسبوع .
كنت أحضر في موعدي أحيانا ، فأجد عنده واحداً أو اثنين من مريديه ، الذين يرتدون زي الدراويش الخاص بالطريقة ، يلبسون الدشداشة البيضاء ويلفون على صدورهم وبطونهم خرقة خضراء بشكل متقاطع ، كان التقشف بادياً عليهم ، فالوجوه شاحبة ونحيفة حتى انك تحسب أحدهم سقيما وما فيه من سقم ، لكنهم لا يتحدثون بحضوري بشيء قط ، بل ينصرفون بعد دخولي بدقائق .
بقيت أتردد عليه حسب مواعيدي لأشهر لا أذكر عددها . وحين قررت أني اكتفيت أبلغته بانقطاعي عن الدرس دون أن أحصل منه على إجازة في ذلك ولعلي لم أكن جديراً بها ، لكني كنت أمرُّ عليه كل حين أسلّم عليه وأتبرّك بالتحدث معه ، ثم انقطعت عنه عقدٌ كاملٌ من السنين هاجرت خلال هرباً من جور حكم البعث ، ولما عدت بعد ان سقط الصنم على ارض بغداد راجعته مرة في العام 2003 إقراراً بفضله عليّ ، فرحب بي وسألني : أين كنت كل هذه المدة ؟
قلت له : كنت مسافراً خارج العراق وعدت للتوّ ، لكنه لم يكن لديه وقت للحديث معي ، فقد كانت عنده امرأة مع ابنتها الشابة تشتكي له احتمال اصابتها بمس من الجن ترجوه ان يبرئها منه ، فيما كان هو يكتب لها رُقية ويوجهها بما يظن به نفعها .
لم أزره بعد ذلك قط ، فقد انحصر ذهابي الى بغداد بالاغراض ذات الضرورة القصوى ، فالمجاملات لم تعد تستحق المجازفة في وضع أمني منهار شهدته بغداد للاعوام 2006 – 2007 ، حتى لقد انقطعت عن الذهاب لبغداد طوال السنتين ، سوى مرات ثلاث متقاربة خلال منتصف 2006 ، اصطحبت فيها والدي الى مشفى ابن البيطار لاجري له عملية توسيع لشرايين قلبه التي ضيّقها النيكوتين اللعين الذي بقي حتى اليوم مصراً على تعاطيه ، نجوت خلالها ، ولثلاث مرات ايضا من موت أكيد ، فقد وقعت مرة في وسط اشتباك بين مسلحين وقوات من الجيش في شارع حيفا حين خرجت بحثا عن مكتبٍ أنسخ فيه فيلم العملية لاعرضه على طبيبه بالحلة ، فلم أخرج من الاشتباك إلا بأعجوبة ، وفي الثانية حصل اختطاف لحافلة من مكتب سفريات مجاور للمشفى ذاته وقد كنت أقف وأخي الذي يصغرني بسنة واحدة جوار المكتب ذاته نتناول فطورنا من مطعم شعبي ، فقام الخاطفون بملء الحافلة من الابرياء المتواجدين في المكان ولم يصلنا الدور فنجونا ، وفي الثالثة وحيث كنا راجعين - نحن الاثنان أيضا - الى الحلة بسيارة والدي المتواضعة التي استخدمناها لامتلائها بالوقود الذي صار حينها أعز من دم الانسان ، لحقت بنا سيارة بلا زجاج يستقلها ملثمون ، وهي الطريقة التي تكررت بها عمليات القتل على الطريق السريع الذي اطلق عليه في ذينك العامين اسم طريق الموت ، نجونا هذه المرة ايضا ، ولكن بسبب اقترابنا من سيطرة للجيش وصلناها في الوقت المناسب.
حين أطل العام 2007 كان القتل قد صار في شوارع بغداد حدثاً يومياً معتاداً ، والدماء ورائحة الموت انتشرت في كل مكان .
مرت الايام ثقيلة تلك السنة ، ولم يمر يوم الا وسمعنا ناعية انسان عرفناه يوماً . وفي أيار من تلك السنة وحين كنت جالساً أشاهد التلفاز لمحت شريط الاخبار وهو يحمل نبأ مقتل الخطاط العراقي الشهير خليل الزهاوي على يد مسلحين أمام داره ببغداد الجديدة .
لقد نزل الخير كالصاعقة عليّ ، فقد جفَّ نهر الابداع ، وتوقف رنين الكرم الذي كان يصدر عن كلماته الودودة وعطائه الثرّ ، كم وددت لو أني زرته قبل ان يموت ، استحوذ على شعور بالحزن وبالتقصير ، شعرت انه كان عليّ شكره عن كل حرف علمينه ، وكل كلمة ترحيب اسمعنيها ، وكل قدح ماء سقانيه .
لقد ثكلني مقتله حقا ، وثكل به العراق .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat