صفحة الكاتب : احمد العبيدي

في محضر الخطاط الزهاوي
احمد العبيدي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

ساقتني الصدفة في يوم من أيام صيف عام 1991 للتجوال في شارع السعدون ببغداد ، وانعطفت منه الى شارع متفرع عنه لم أكن أعرف حينها ان اسمه (الشارع المشجّر) رغم خلوّه من الاشجار إلا قليلاً ، وحيث كانت عيوني تتنقل على المَحالّ المصفوفة على جانبيه لمحت إحداها وقد كتب عليه (قاعة الخط العربي) ، كانت واجهته التي لا تزيد على الاربعة أمتار كلها من الزجاج ، فاخترقته بنظرتي بحثا عن معنى لهذا العنوان وإذا بجدرانه الداخلية قد ملئت بلوحات حروفية تشكيلية وضعت عليه بأناقة بالغة . لم أتوانَ في الانعطاف والدخول للتفرج على اللوحات عن كثب ، ولم يكن في الداخل غير رجل في الخمسينيات من عمره متوسط الطول ذو لحية غلب عليها بياض المشيب فزادت وجهه الابيض إشراقا ونُضرة ، كان الرجل يرتدي قميصاً بكُمٍّ قصير .

ابتدرته بالسلام : السلام عليكم

فأجابني بتودد : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

قلت في نفسي هذه واحدة ، اذ لم يكن رد التحية في بغداد بهذه الصيغة متداولاً تلك الايام .

أردفت مستأذناً : أتسمح لي بالتفرّج ؟

فأجابني على الفور : أنا خادم ، تفضل .

وكانت هذه الثانية ، فلم أتوقع سماع هذا التعبير في مثل هذه المكان.

أخذت أتجول وأتفحص اللوحات بتأنٍّ كبير ، فاستغرق تجوالي وقتا ربما زاد على النصف ساعة ، عرفت اثناء مشاهدتي للوحات ومن التواقيع التي وضعت في زواياها أن صاحب هذه اللوحات أسمه خليل الزهاوي ، انه الخطاط والفنان العالمي الشهير ذو الاسلوب الحروفي المميز .

جلس الرجل خلف مكتبه الصغير الذي ركنه في زاوية قاعته الصغيرة ، وراح يراقبني باهتمام .

ما أن انتهيت من جولتي حتى وجدته ينهض من مقعده ويتجه صوبي ، فبادرته بسؤالي : هل انت صوفي ؟

قال لي بتعجب : وكيف عرفت ؟

أجبته : لوحاتك طافحة بالتصوّف .

قال : نعم ، أنا شيخ الطريقة الصوفية ، ولوحاتي كلها شطحات .

عندها طلب مني الجلوس ، وقدم لي قدحا من الماء.

سألني : ما رأيك في التصوف ؟

قلت له : رأيي لا يوجب علماً ولا عملاً .

فأصرّ عليّ : لا بد ان يكون لك رأي فيه.

قلت : إن كان معنى التصوف التفرغ لعبادة الله وإخلاص الطاعة له ، والزهد رغبة في ثوابه ، فذلك مستحب ، بل ربما وجب على العبد ، أما لو كان معناه خزعبلات وافعال غريبة ، فلا يمتُّ ذلك للاسلام بصلة.

أطرق لجوابي ، ثم قال : إذاً عندك رأي في التصوف !

قلت له : لكنه لا يوجب علماً ولا عملاً .

سألني : من أين أنت ؟

قلت له : من الحلة .

قال : الحلة والنجف عاصمتا الاسلام .

سألني أيضا : هل انت شيعي أم إمامي أم جعفري أم إثنا عشري ؟

قلت له : انا شعيي إمامي جعفري إثنا عشري .

فشعرت ان جوابي فاجأه ، ما جعله يعقب متعجباً : وكيف؟ 

قلت له : انت سألتني بمفاهيم كلها ذات معنى واحد .

جرّأتني بساطته أن أطلب منه : هل تعلّمني الخط ؟

قال دون تردد : أنا خادم ، سأعلمك مجاناً ، الحرف بعشر حسنات ، ويضاعف الله لم يشاء ، أخصص لك يومي السبت والاربعاء تأتيني فيهما الساعة السادسة الى السابعة عصراً . إشترِ أنت ورق الآرت ، وسأوفر لك الحبر والقصب . 

قال : أي خط تريد ان تتعلم؟

قلت له : خط التعليق (الذي يسميه البعض بالخط الفارسي أيضا).

قال : اختيارك صحيح لان في خط التعليق أسراراً لا تكتشفها إلا أن يدلك عليها استاذ.

فسرّني أنني حصلت منه على ما لم أكن أحلم به ، أو أخطط له . 

توجهت في صباح اليوم التالي الى شارع المتنبي لاشتري الورق الذي أرشدني إليه ، قال انه ورق لمّاع أملس لا يمتص الحبر ، فيسمح للقصبة بالتحرك بسلاسة عليه وتحتفظ بالحبر مدة أطول . لكني لم أظفر ببغيتي ، فقد أخبرني باعة الورق ان هذا النوع لا يباع بكميات قليلة ، إنما يبيعونه الى المطابع على شكل رزم بأحجام وكميات كبيرة ، ولم تكن ثمة جدوى ولا لي قدرة مالية على شراء هذه الكمية .

فلما حلّ عصر يوم السبت وصلت عند الحاج الزهاوي خالي اليدين . فرحب بي وأجلسني في مكان خصّصه لتلميذ واحد فقط ، وسألني : أين الورق؟

قلت له والخجل يكللني : لم أحصل على الكمية التي أحتاجها ، إنهم يبعونه بكميات كبيرة وحسب ، هل أستطيع استخدام ورقٍ عادي ؟

قال لي بتودد وهو يناولني رزمة من ورق الآرت : خُذ من عمّك خليل ، الورق والحبر والقصب كلها مني .

أعطاني علبة حبر صيني صنعه بنفسه وقد وضع في جوفها جلفة من قماش خاص ، كما أعطاني قصبة براها بمهارة بالغة.

قررت السكن قريبا منه ، فاستأجرت غرفة من بيت يسكنه مصريون يصنعون الزجاجيات في أقصى الشارع المشجّر . لم يكن في الغرفة غير سرير من حديد يعلوه فراش اسفنجي حقير وطاولة صغيرة ، ولم أحتج الى أكثر من ذلك .

التزمت بمواعيد الدرس ، وبأداء الفروض التي كان يكلفني بها ، إذ كان يكتب الحرف في أعلى الورقة ، ويقول لي : اكتب مثله مائة وسأكون ممنوناً.

في يوم الاربعاء لم يكن اهتمامه بي كما في يوم السبت ، فقد كان طيلة الوقت يمسك كتاباً ذا ورق أسمر من الحجم المتوسط ويطالع فيه كمن يحفظ عنه عن ظهر قلب ، فسألته في الاربعاء الثاني عن ذلك فأجابني ، بأنه يعد خطبة الجمعة ليؤم المصلين بها في مسجد بخانقين يذهب إليه كل اسبوع .

كنت أحضر في موعدي أحيانا ، فأجد عنده واحداً أو اثنين من مريديه ، الذين يرتدون زي الدراويش الخاص بالطريقة ، يلبسون الدشداشة البيضاء ويلفون على صدورهم وبطونهم خرقة خضراء بشكل متقاطع ، كان التقشف بادياً عليهم ، فالوجوه شاحبة ونحيفة حتى انك تحسب أحدهم سقيما وما فيه من سقم ، لكنهم لا يتحدثون بحضوري بشيء قط ، بل ينصرفون بعد دخولي بدقائق . 

بقيت أتردد عليه حسب مواعيدي لأشهر لا أذكر عددها . وحين قررت أني اكتفيت أبلغته بانقطاعي عن الدرس دون أن أحصل منه على إجازة في ذلك ولعلي لم أكن جديراً بها ، لكني كنت أمرُّ عليه كل حين أسلّم عليه وأتبرّك بالتحدث معه ، ثم انقطعت عنه عقدٌ كاملٌ من السنين هاجرت خلال هرباً من جور حكم البعث ، ولما عدت بعد ان سقط  الصنم على ارض بغداد راجعته مرة في العام 2003 إقراراً بفضله عليّ ، فرحب بي وسألني : أين كنت كل هذه المدة ؟

قلت له : كنت مسافراً خارج العراق وعدت للتوّ ، لكنه لم يكن لديه وقت للحديث معي ، فقد كانت عنده امرأة مع ابنتها الشابة تشتكي له احتمال اصابتها بمس من الجن ترجوه ان يبرئها منه ، فيما كان هو يكتب لها رُقية ويوجهها بما يظن به نفعها .

لم أزره بعد ذلك قط ، فقد انحصر ذهابي الى بغداد بالاغراض ذات الضرورة القصوى ، فالمجاملات لم تعد تستحق المجازفة في وضع أمني منهار شهدته بغداد للاعوام 2006 – 2007 ، حتى لقد انقطعت عن الذهاب لبغداد طوال السنتين ، سوى مرات ثلاث متقاربة خلال منتصف 2006 ، اصطحبت فيها والدي الى مشفى ابن البيطار لاجري له عملية توسيع لشرايين قلبه التي ضيّقها النيكوتين اللعين الذي بقي حتى اليوم مصراً على تعاطيه ، نجوت خلالها ، ولثلاث مرات ايضا من موت أكيد ، فقد وقعت مرة في وسط اشتباك بين مسلحين وقوات من الجيش في شارع حيفا حين خرجت بحثا عن مكتبٍ أنسخ فيه فيلم العملية لاعرضه على طبيبه بالحلة ، فلم أخرج من الاشتباك إلا بأعجوبة ، وفي الثانية حصل اختطاف لحافلة من مكتب سفريات مجاور للمشفى ذاته وقد كنت أقف وأخي الذي يصغرني بسنة واحدة جوار المكتب ذاته نتناول فطورنا من مطعم شعبي ، فقام الخاطفون بملء الحافلة من الابرياء المتواجدين في المكان ولم يصلنا الدور فنجونا ، وفي الثالثة وحيث كنا راجعين - نحن الاثنان أيضا - الى الحلة بسيارة والدي المتواضعة التي استخدمناها لامتلائها بالوقود الذي صار حينها أعز من دم الانسان ، لحقت بنا سيارة بلا زجاج يستقلها ملثمون ، وهي الطريقة التي تكررت بها عمليات القتل على الطريق السريع الذي اطلق عليه في ذينك العامين اسم طريق الموت ، نجونا هذه المرة ايضا ، ولكن بسبب اقترابنا من سيطرة للجيش وصلناها في الوقت المناسب.

حين أطل العام 2007 كان القتل قد صار في شوارع بغداد حدثاً يومياً معتاداً ، والدماء ورائحة الموت انتشرت في كل مكان .

مرت الايام ثقيلة تلك السنة ، ولم يمر يوم الا وسمعنا ناعية انسان عرفناه يوماً . وفي أيار من تلك السنة وحين كنت جالساً أشاهد التلفاز لمحت شريط الاخبار وهو يحمل نبأ مقتل الخطاط العراقي الشهير خليل الزهاوي على يد مسلحين أمام داره ببغداد الجديدة . 

لقد نزل الخير كالصاعقة عليّ ، فقد جفَّ نهر الابداع ، وتوقف رنين الكرم الذي كان يصدر عن كلماته الودودة وعطائه الثرّ ، كم وددت لو أني زرته قبل ان يموت ، استحوذ على شعور بالحزن وبالتقصير ، شعرت انه كان عليّ شكره عن كل حرف علمينه ، وكل كلمة ترحيب اسمعنيها ، وكل قدح ماء سقانيه .

لقد ثكلني مقتله حقا ، وثكل به العراق . 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


احمد العبيدي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/20



كتابة تعليق لموضوع : في محضر الخطاط الزهاوي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net