ماذا ننتظر من هذا العقل المجتمعي العربي؟
محمد الحمّار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
لا مبادرة "القطب الحداثي" . ولا مبادرة "مجموعة المستقلين". و لا مبادرة "الأحرار". وهي مبادرات، إثنتان منها جماعية والثالثة فردية (على فايسبوك). تتوالى المبادرات وتتكاثر الأسماء وتتشابه، لغاية نبيلة طبعا. لكن يبدو لي أن ليس هنالك مَخرجا آنيا للأزمة، لا في تونس، ولا في مصر، ولا في أي بلد عربي آخر أنجزَ شعبُه انتفاضة ثورية، ولا حتى في بلد مثل فلسطين أو العراق أو لبنان أين الوضع السياسي يتسم بفوضى وغموض مماثلين، ولو كان ذلك في ظروف مختلفة، للذَين تعرفُهُما الأقطار حديثة العهد بالصراعات الداخلية على غرار تونس ومصر. فالذي يجمع تلك البلدان وهاته شيء واحد في النهاية: وُلوج العصر الحديث من بابه الكبير.
مالذي يبطل المبادرات العاجلة وما هي شروط الحل الآجل؟ سنستقي الإجابة على هامش ما حدث يوم أمس (14-6- 2011) أثناء ما يسمى بـ"اعتصام القصبة3" أو بـ"اعتصام العودة".
كم كان المجتمع، من خلال صورته المصغرة التي ملأت المشهد يوم أمس، متخلفا ومتشنجا ومفتقرا لمعالم الطريق، طريق التعامل مع نفسه في زمنٍ ما وفي مكانٍ ما؛ طريق العصر الحديث وبابه الكبير. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لن أسمح لنفسي بأن ألوم فقط قوات الأمن الوطني بناءً على تدخلها، الذي كان فعلا عنيفا، إزاء المحتجين، الراغبين في التظاهر والاعتصام. كما لن أسمح لنفسي بأن أوجه أصابع الاتهام فقط إلى زعماء الأحزاب السياسية المؤطرة للتظاهرة المشوبة بالشكوك. و أمتنع أيضا عن تحميل الشباب الغاضب، دون سواه من الأطراف، مسؤولية الفوضى العارمة والعنف المتبادل وكذلك مسؤولية فشل الحدث.
فالحدث فاشل منذ كان في طوره الجنيني. لماذا، لأنّ لا شيء تغيّر في العقل المجتمعي منذ وقع كنسُ النظام السابق وإلى وقت الإعلان عن تنظيم "القصبة3". لا أعني أنّ البلاد مازالت مَحكومة من طرف بقايا النظام البائد؛ فهذا معلوم. ولا أقصد أنّ الأحزاب السياسية لا تملك لا خطابا متسقا مع طموحات الشعب وحاجياته، ولا برنامجا لتحقيق الطموحات وتلبية الحاجيات؛ فهذا لا غُبار عليه. ولا ألمح إلى أنّ المناعة الأمنية العامة ضعفت حتى بلغت مستوى جِد مُتدنٍّ؛ فهذا ملموس. ولا أشير إلى أنّ النخب الفكرية والسياسية لا تسيطر على الوضع الإيديولوجي لا بالوفاق ولا بالنفاق؛ فهذا لا جدال فيه. ولا أشدد على أنّ المجتمع التونسي، والعربي، ليس ديمقراطيا؛ فهذا ما نرغب كلنا في تكذيبه. ما أقصده أننا لسنا تعدديين.
والتعددية الفكرية، ركيزة التعددية السياسية، ثقافة. وهي ثقافة من المفترض أن تكون في يد أناس يُشترط أن يكونوا قدوة في قبولهم للرأي المخالف وفي تجسيدهم لحق الاختلاف. وهؤلاء التعدديون موجودون في تونس وفي كل بلد عربي. لكنّ مشكلتهم أنهم لا يتلاقون ولا يتشكلون في جمعيات أو في أحزاب ولا يمارسون تأثيرا يُذكر على العقل المجتمعي ككل. وإن تلاقوا أو تشكلوا أو حاولوا التأثير سيُستبعَدون من الساحة الفكرية والسياسية قبل أن تدغدغها أولى نبرات أفكارهم. ولا يتم استبعادهم بعنوانٍ مُشخص في زيد أو في عمرو، ولا في فلان أو في علان. إنما يستبعدهم العقل المجتمعي نفسه الذي بحاجة مُلحة إليهم. وما الأشخاص والشخصيات الرافضة إلا ضحايا الاستبداد المجتمعي الذاتي. تلك هي إحدى المفارقات العجيبة لمجتمع مثل مجتمعنا.
ويظهر الإقصاء إزاء القوى التعددية الافتراضية الصاعدة في فقدان القابلية للتعاون لدى أعوان الإقصاء الذاتي. ومَن يا تُرى يتوجب عليه أن يتحلى بالقابلية للتعاون غير السياسيين القدامى ورؤساء الهيئات والجمعيات والأحزاب؟ إنهم فئة لا تستسيغ التعاون إلا بالمعنى الذي ورثوه عن عقل مجتمعي متداعٍ للسقوط. والمعنى المستساغُ يتراوح بين المداعبة والمجاملة والتواضع المغشوش من جهة وبين السفه والمقايضة والمداهنة والاعتداد والتعالي والاحتكار من جهة أخرى. إنها فئة تتظاهر بالقابلية للتعاون لكنها لا تفعل إلا ما يُمليه عليها تعنُّتُها المبني على ما يبس وتكلس وصدأ من الإرث الثقافي للعقل المجتمعي. إنها الفئة التي تدّعي أنها ستنتقل ببلداننا إلى الديمقراطية. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويُمكن تفسير غياب فئة المفكرين والسياسيين الصاعدين، من الساحة العامة في المجتمع التونسي، والعربي عموما، بافتقار العقل المجتمعي إلى تصوّر عام للنهوض. وهو افتقار مَقرون بافتقار العقل إلى منهجية عامة مشتركة. في سياق هذا الفقر المُدقع، مَن الذي سيُلبي رغبات الشباب بالإصغاء إليهم وبمُساءلتهم وبإرشادهم وبالأخذ منهم وبإعطائهم ما يُعطى وبتعديل رؤيتهم إلى عديد المسائل الجوهرية، سواء المتعلقة بالمضامين أو بالمناهج أو بالوسائل؟ أهي النخب الزائلة، هؤلاء الراكبون على عقل المجتمع (ولئن يتهمون خصومهم بالركوب على الثورة فإنّ ركوب العقل الذي يمارسونه لأتعس)؛ أم هي النخب القادمة، أولئك الذين مارسوا التفكير بآليات الشباب، ما ساعدهم على اكتساب القدرة على صياغة خطابٍ للشباب؟
لِسائل أن يسأل: هل يُعقل أن لا تُحرّك النخبُ التي في طريق الانقراض ساكنا لمّا ترى بأم عينها جحافل من الشباب المتعطش إلى الحرية والانعتاق تستعيد مقاعدها في مقاهي التعاسة وتكرير الرداءة، وتُهروِل لحجز مكانٍ أمام التلفاز لتشاهد كُرة بلا جمهور ولتذعن لصوتِ مُعلق "رياضي" بلا روح ولتستسلم لِما يُفزعُ الأمواتَ من الأصوات؟ طبعا كل ذلك يعقل. وأكثر من ذلك يُعقل. فلَو لم يكن من المعقول أن تبقى هذه النخب متفرجة أمام الرداءة العامة، لَمَا تقرر تنظيم "القصبة3". ولَمَا حدث ما حدث. وستفشل حتى "القصبة23" لو لم تُناضل النخب الافتراضية الصاعدة من أجل قيامها وقيامتها، ومن أجل قيامِ وقيامة شعبها وأمّتها.
محمد الحمّار
باحث في استراتيجيات التغيير
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
محمد الحمّار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat